طباعة هذه الصفحة

سوق أهراس محروسة الأسود

طاغاسـت مهـد الحضارات وأول جامعة في شمال إفريقيا

سـوق أهراس: العيفة سمـير

تعتبر منطقة طاغاست من أهم المدن النوميدية في شمال افريقيا، والتي قدر لها أن تلعب فيما بعد دورا رئيسيا في التطورات التي شهدها حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي، لكن يبدو أن المدينة النوميدية القديمة تحولت إلى سوق كبير ترد إليه القوافل التجارية من الجنوب الشرقي إلى الشمال الشرقي الجزائري وتونس، ولهذا كتب العقيد الفرنسي دوترفيل في الأول من أفريل سنة 1853 إلى قائد دائرة قالمة العسكرية المقدم ويمبفن يقول: “في القديم سوق أهراس كانت تعرف بطاغاست وطن القديس اوغستين”.
 لقد كانت هذه المدينة فقيرة جدا، وأثناء الفتح الإسلامي عرفت هذه المدينة ازدهارا واسعا رغم أن آثارها قد دمرت بالكامل، كانت هذه المدينة تعد نقطة تقاطع تجارية فقد كان يتوسطها سوق ضخم لكونها قريبة من الحدود التونسية على الضفتين اليمنى واليسرى لوادي مجردة وبها طرق تؤدي إلى مداوروش وتبسة وتيفاش وخميسة وإلى سهول فج ملاس الموجودة بالكاف لعكس وإلى قالمة والقالة.
أصل تسمية سوق أهراس
تتضارب الروايات في أصل تسمية سوق أهراس الذي يعتقد أنه تم البدء في تداوله في الفترة العثمانية، لأن الفرنسيين عندما وصلوا لأول مرة الى المنطقة وجدوا أهل المنطقة يستخدمونه، فبدأ العسكريون يستخدمونه في مراسلاتهم الرسمية، وقد أوردت التقارير السنوية الفرنسية عدة معاني للتسمية منها سوق الثياب، كما تجدر الإشارة إلى أن من بين الروايات المتداولة بشأن أصل تسمية المدينة بسوق أهراس، انها اسم لمدينة نوميدية قامت على أطلالها ـ ثاكاست اهراس- وهي تسمية أمازيغية مركبة وتعني بالإشارة إلى الأسود البربرية التي كانت تتواجد في الغابات المحيطة بالمنطقة وتتخذ منها عرينا، إلى غاية انقراضها عام 1930، ولذلك فإن سوق أهراس تعني سوق الأسود.
آثار المنطقة
شكلت منطقة سوق أهراس جزءا من الصراع الذي شهده حوض البحر الابيض المتوسط الغربي،  وقد بنيت سوق أهراس الحالية في فترة الاحتلال الفرنسي في نفس موضع مدينة طغاست النوميدية، ففي يوم 17 نوفمبر 1856 راسل النقيب الأول قائد دائرة سوق أهراس العسكرية الجمعية التاريخية للجزائر الفرنسية، موضحا أن مدينة سوق أهراس التي بدأ الفرنسيون في بنائها، هي في نفس موضع مدينة طغاست، إذ اكتشف حجر بطول 17 مترا و37 سنتمتر وعرض 55 سنتمتروسمك 46 سنتمتر وفي السطر الثالث عشر من الوجه الاول كتب اسم طغاست، كما تزخر سوق أهراس بالعديد من المعالم الأثرية تبقى شاهدة على مختلف الحضارات التي تعاقبت على المنطقة عى مر العصور منها:
المرحلة الفينيقية:
شكلت منطقة سوق اهراس جزءا من الوجود الفينيقي في حوض البحر الابيض المتوسط الغربي، ان شواهد هذا الوجود بقيت ماثلة في نماذج الكتابة البونيقية، التي تم اكتشافها في المنطقة مبكرا، ففي سنة 1853 تم اكتشاف ثلاث نماذج لهذه الكتابة بمنطقة تيفاش.
المرحلة الرومانية:
بعد أن اتم الرومان هيكلة المنطقة إداريا، بدأت مرحلة اخرى تجلت في السعي إلى تثبيت الوجود الروماني في المنطقة عن طريق تأسيس مستوطنات دائمة إضافة إلى مدينة طاغاست التي كانت موجودة منذ العهد النوميدي انشا الرومان مدن: توبريسكوم، مادور، نوميداروروم، تيبازانوميداروم،  ثاغورة .
تاكفاريناس ...أبرز قادة نوميديا:
كان لطغيان واستبداد الرومان ضد السكان الأصليين (الأمازيغ) ومصادرة اراضيهم الخصبة، دافعا قويا لتاكفاريناس لقيادة ثورة ضد الاحتلال الروماني، فهو من أبرز قادة نوميديا بمنطقة طغاست وينتمي إلى موسالامس أحد أكبر القبائل الأمازيغية، ترعرع في أسرة نبيلة، إلى أن جنّد مساعدا في الجيش الروماني وهو في سن الـ 16 سنة ليفر بعدها ويشكل في العام 17 للميلاد جيشا لمحاربة ظلم الرومان وعين قائدا على قبائل المزاملة .
خاض تاكفاريناس حربا ضروسا ضد الجيش الروماني طيلة سبعة سنوات فقد فيها عمه واخاه وابنه، إلى ان قتل سنة 24 للميلاد بناحية سور الغزلان بولاية البويرة حاليا، لقد كان تاكفاريناس شجاعا ومواطنا امازيغيا غيورا على وطنه رفض ذل وقهر الرومان، وحد القبائل الامازيغية واستعان بكل القبائل المناوئة للمحتل الروماني بما فيها قبائل الصحراء، التي كانت هي كذلك ترفض هذا العدو المغتصب وتناهضه، وامتدت مقاومة تاكفاريناس الى المدن والقرى الخاضعة للرومان، وتوسعت من موريتانيا إلى خليج سرت، كما أنه من بين أسباب ثورة تاكفاريناس الانتقام للملك الأمازيغي الأول يوغرطة الذي وحد الامازيغ تحضيرا لمحاربة العدو الروماني الغاشم،  بيد ان الجيش الروماني نكل به تنكيلا شديدا وثار لقبائل ـ موسالامس- التي وقفت كثيرا في وجه الغزو الروماني .
توبريسكوم نوميداروم...مدينة خميسة حاليا
تقع هذه المدينة التاريخية على خط طول 05.21 شرقا، وخط العرض 36 و14 شمالا، وارتفاع 940 متر على سطح البحر، تقع هذه المدينة بين قبيلتي الحنانشة التابعة لمنطقة سوق أهراس وقبيلة السلاوة وقد راعى المحتل الروماني عند انشائها عدة اعتبارات من أهمها القرب من مصارد المياه، فهي لا تبعد إلا بمسافة كيلومتر واحد عن وادي مجردة أهم أودية ولاية سوق اهراس، وقربها من الاراضي الزراعية الخصبة، مما يمكن المحتل من استغلال الاراضي والاستفادة منها .
تضم مدينة خميسة آثارا كثيرة منها، باب روماني كبير زمحكمو ذات 26 عمودا ضخما، وعدد من القاعات ومعبد الكابيتول ومسرح لايزال في حالة حسنة وكذا حمامات معدنية .
تتربع خميسة على مساحة 65 هكتارا، تبعد عن سوق اهراس المدينة بنحو 33 كلم، مدينة جبلية مازالت متمسكة لحد الساعة بمعالم تاريخية تتحدى بها عوارض الطبيعة، إلى جانب سورها الذي بني بالحجارة الكبيرة والمصقولة بارتفاع من 02 إلى 03 امتار، إضافة إلى قوس كركلا الذي يتكون من ثلاثة اقواس تحدد الجانب الشرقي للمدينة وبالطريق نحو مقاطعة موريتانيا ودرب القديس اوغستين بعلو 5.12 وعرض 04 أمتار وكل جهة منه زينت بزوج من الاعمدة ذات النمط الكورنثي، وأقيم هذا الصرح على شرف الامبراطور كركلا، اقيم في القرن الثاني مسرح على هضبة يتسع لنحو الـ 3000 متفرج بالإضافة إلى مدرج من ثلاث طبقات مخصص لفئة النبلاء وهي مفصولة عن باقي المدرجات بجدار صغير وقد اقيم هذا المعلم من الحجارة الكبيرة المهذبة،
والعمودية مبنية من الأجر على شكل قبة بيضاوية ومن الداخل بها رواق دائري وارضيته مبلطة بالفسيفساء، وفي الربوة المقابلة للمسرح الروماني تظهر طرق الصيد فسيفساء الصيد الكبرى وهي تبين لنا طرق الصيد المختلفة وفي وسطه “امبروسيا” إحدى مرضعات الاله باخوس.
غير ان خميسة وبرغم انها كشفت ان سكانها شيدوا مدينة على مساحة 40 هكتارا وبامكانات قليلة إلا أنها مازالت تحمل الكثير من الخبايا والأسرار التي تحتاج إلى ميد من البحث والتعمق والاستكشاف.
مادور ...مدينة القديس اوغستين، مداوروش حاليا:
تبعد هذه المدينة عن خميسة بحوالي الـ 21 كلم على خط طول 05.34 شرقا وخط عرض 35.59 شمالا، وارتفاع 935 متر على مستوى سطح البحر، هي مدينة نوميدية في الأصل، صارت من أهم المدن البروقنصلية في العهد الروماني، توجد بها عدة آثار رومانية منها: حمامات، معاصر الزيت،  كنيسة كبيرة تعود إلى العهد البيزنطي، وهي موطن الشاعر ابوليوس، وفيها درس القديس اوغستين، وكانت بها أولى الجامعات في افريقيا، يفد اليها الطلبة من مختلف بقاع المعمورة، تقع هذه المدينة اليوم على مسافة 06 كيلومتر شرق مدينة مداوروش حالي .
ماداروس ...أول جامعة بشمال افريقيا:
تقف مادور النوميدية غير بعيد عن مداوروش بـ 06 كلم بتسميتها العصرية متربعة على 109 هكتار، تراقب طاغاست فهي تلك المدينة التي كانت متواجدة في فترة الملك ـ سيفاكس- لتصبح بعد ذلك تحت حكم الملك ماسينيسا، وعند توغل الرومان إلى شمال افريقيا أسسوا مستعمر (مادور) لقدامى الحرب 69 و75 للميلاد اثناء حكم الامبراطور ـ فيسباسيانوس-.
وتعد هذه البقعة الأثرية ذات تاريخ تمنح زوارها تنوعا سياحيا كبيرا يعود بهم إلى غابر الأزمان أين كانت عاصمة لأول جامعة رومانية في افريقيا، يلتقي بها الطلبة من شتى أنحاء المعمورة،  فهي تمثل منذ نشأتها قطبا للإشعاع العلمي إلى أن غزاها البيزنطيون عام 534 م، حيث عملوا على تغيير نسيجها العمراني من خلال تشييد القلعة البيزنطية على جزء من الساحة العمومية ـ الفوروم- لتبقى رغم مرور السنين تفتخر بولادة وترعرع ابوليوس المادوري أول روائي على الأرض.
كما تشترك بيوت مادور إضافة إلى هندستها الموحدة في معاصر الزيتون ومطاحن الحبوب، ما يؤكد أنها عرفت ازدهارا في الزراعة، فمازالت تحتفظ بكنوزها المغمورة تحت الأرض، والتي تتمثل في حمامين ومعابد وثنية وثلاث كنائس وقبور كان يدفن فيها سكانها آخذة منها طابعا قدسيا مرموقا فضلا عن قلعة بازيلية وأصغر مسرح شيد بالمعرفة المتداولة في ذلك العهد وهي السيسترز،  وعلى مقربة من الكنيسة تقع الحمامات الكبرى وفي الجانب الاخر من الكاردو تظهر دار القضاء المسيحية الثانية الصغيرة وبها عدد من المدرجات قبل الوصول الى مفترق الطرق امام منشاة كبيرة تحتوي على معصرة وحمامات وقاعات عديدة كما يمكن رؤية معلم ضخم على بعد أمتار وهذا المعلم عبارة عن ضريح مادور،  وغير بعيد نجد معلما ضخما تمثل في القلعة البيزنطية والتي تحتوي على اصغر مسرح في العالم الروماني، ان كل قطعة من جغرافية مادور تدعو زائرها للتوقف والتامل في روعة جمالها ودقة تصميمها والعودة الى روائعها الساحرة عبر مراحل الزمن .
القديس أوغستين:
لايمكن الحديث عن المسيحية وانتشارها في شمال افريقيا دون الحديث عن دور القديس اوغستين وجهوده في إعادة وحدة الكنيسة الغربية .
ولد اورليوس اوغستينوس - القديس اوغستين ـ يوم 13 نوفمبر 354م بطغاست التي كانت تابعة في ذلك الوقت إلى البروقنصلية (البلاد التونسية) وقد برز طموحه منذ الصغر رغم أن مظهره لم يكن يوحي بذلك، فقد أصبح فيما بعد مثلا لكل الناجحين في المسابقات الأكاديمية وهذا الطموح هو الذي أوصله إلى قرطاجة ثم روما فيما بعد، وكان ابوه القديس بطريقوس وثنيا اما، امه القديسة مونيكا فكانت مسيحية من النساء الصالحات، عاش أولا في الوثنية ودرس الفصاحة والبلاغة والبيان بمسقط رأسه ثم في قرطاجة، ثم قرر السفر إلى روما ليكمل تعليمه بعد نصائح اصدقائه ليكون مساره المهني مربحا ولامعا، إضافة إلى ذلك كان يتمنى التدريس في مكان هاديء بعيدا عن وشاوش حساده، فسافر الى روما وبمدينة ميلانو الإيطالية، حيث كان رئيس الأساقفة بتلك المدينة هو القديس أمبرواز كان لخطب هذا الاخير الواعظة أكبر الأثر في نفس اوغستين إذ اصبح هذا الاخير يشعر بميل نحو المذهب الكاثوليكي، اذ بدأ باصلاح سلوكه وتهذيب حياته واهتدى إلى عقيدة امه القديسة مونيكا وقبل المعمودية من القديس امبرواز سنة 387 م ومنذ ذلك الحين اصبحت حياته كلها عبادة وتقوى وتبشير فتبرع بجميع ما يملك من متاع الدنيا على الفقراء والمساكين ورقاه اسقف مدينة هيبون إلى درجة قسيس سنة 391 م ثم اتخذه معاونا له سنة 397 م.