طباعة هذه الصفحة

أسواق البليدة بين الأمس واليوم

الأغنياء يغزون سوق الفقراء ومساحة الخضراوات تتحوّل للملابس والأقمشة

البليدة: لينا ياسمين

لم تبق أسواق مدينة الورود العتيقة والمعروفة بالبليدة كما كانت عليه في أزمنة غير بعيدة، فقدت نكهتها الأولى، وتغيرت احوالها كثيرا بما فيها زوارها المخلصون لحقب تاريخية، لتــتحوّل من أماكن يرتادها الفقراء وعــامة الناس إلى أماكن لا يستطيع ولوجها إلا من لديه القدرة على دفع المال نقدا «كــاش»، حيث كانت إلى زمن قريب تفوح منها روائح البساطة والمستوى الاجتماعي المتقارب بين الزبائن والباعة الذين كانت تجمعهم رابطة الرّضى والبركة لأنهم ببساطة كانوا يعيشون تحت سقف واحــد متآخين وتجمعهم جيرة طيبة وظروف متشابهة.
«الشعب» استطلعت المكان وعادت بحقائق في التاريخ الجميل والحاضر المعيش

«بــلاصة العــرب»، من سوق للفقراء إلى  للميسورين ...
 
 تتمركـز « بلاصة العــرب « أو» سوق الأنـدجـينا» - الأهالي - كما اطلق عليها الفرنسيون وسط البليدة، ظهرت  سنة 1885 محتلة  مساحة مــربعة مـحيطة بشجــر البلاطان الذي غــُرس خــصّيصا بالمنطقة لامتصاص كميات الماء الجـوفـية لحماية التربة وجعلها متماسكة اكثر، كان المكان مكـشوفا يجمع التجار القادمين من المناطق الجبلية المجاورة والمعـروفـين بـ «الــجبايلية» لبيع الصوف والحــلفاء والخضر والفواكه الطازجة المسقية بمياه الينابيع الجبلية، وذلك باستعمال «البايات « (بمعنى حفنة) بالنسبة للمنتجات التي تفسد بتأثر الحرارة حيث تــُحدّد كمية المنتجات داخل «سـليلات» صغـيرة وتـُباع بأثمان قليلة أما المنتقاة بعناية ـ نخب أول - فتباع موزونة، مفترشين أرضا طينية ومنهم من نصب طاولات زينتها تلك الثمار، كان غالبية الزبائن السكان الأهالي القاطنين بالجبال أو حواف المدينة وقليل من النسوة من كنّ يقصدنها عند انعدام المُعيل الذي يتكفــّل باحتياجات الأسرة، والجميل في الأمــر سواد نفوس راضية وطيبة الخاطر مطمئنة ومسرورة عند تسوقها، وفي زاوية من السوق يقـبع الإسكافـيون مستظلين بأغصان شجــر البلاطان لاصلاح الأحذية، اليوم أصبح السوق مُغـطى، وقُسم إلى مــربعات تــُباع فـيها أصناف الخضر والفواكه والأسماك والبقـوليات والمـُكــسرات، لــكنها للأسف لا تــراعي القدرة الشرائية لاصحاب الدخل المحدود الذين أصبحوا يتجنبون دخول سوق لأنه محجّا للأغـنياء وميسوري الــحال.
« بلاصة النصارى»، من بيع الخضروات والفواكه إلى عرض للملابس والأقمشة...
   وفي المقابل وغير بعيد عن السوق الأهلي السابق كان للفرنسيس المحتلين سوق خاص بهم أشتهر  بـتسمية «بلاصة النصارى»، سوق مغطاة بسقف من الحديد ومقسم الى مربعات، يحوي كلّ مــربّع طاولة تــُعرض عليها أنواع الخضر والفواكه والأسماك واللحوم والمــواد الغـذائية، وكان يسوده نظام خاص في تسييره وعرض السلع، تزينه أربعة «عـيون» للماء الصالح للشرب، انتشرت في زواياه بطريقة هندسية محسوبة من أجل غسل الخضراوات والفواكه إضافة إلى سواقي تنساب بينها مياه رشّ الأسماك المصطفـّة عـلى الطاولات وهـذا حفاظا عـلى الفرنسيات والفرنسيين من بــلل أحذيتهم،بينما خـُصّصت الزوايا الخارجية لبيع نباتات الزينة والأزهار، البائعـون جــلــّهم من العـرب يشتغـلون بالأجــرة وقليل منهم من يملك محلا خاصا به، والملفت للانتباه أنه كان يحيط بالسوق أطفال وشباب «الحــمّالين» من أجل حــمل قـفف المستعمرين مقابل فرنكات معدودة، ويضعون على سواعدهم صفائح نحاسية مدونة عليها بيانات هويتهم، مـُـرخصة من طرف البلدية لأجل حماية الزبائن في شكل رسميي، واليوم أصبح السوق مــُغطى بشكل كامل، تــُعـرض بداخله ملابس النساء والأطفال والرجال وبعض الأقمشة والإكسسوارات المختلفة، خاصة بعد أن ذاع صيته ووصلت شهرته  غاية الولايات المجاورة واصبح قبلة لزبائن جدد لا قتناء سلعا لم يكن السوق يعرفها.
 شخصيات رسمية مسؤولين وإطارات وفنانين يتدفقون على البليدة ...
بين «باب دزاير» و»بلاست التوت» و»باب السبت» وطريق «دزاير»، اختار تجار مخضرمون كبار وصغار يتقنون فن التجارة، محلات ومربعات وبسطات، هي أشبه بالسوق القديم المعروفة بـ «السويقة»، أزقة ضيقة تستظل من نور الشمس بحيطان بازارات وبنايات عتيقة قديمة، آيلة للانهيار في البعض منها، بحي يخيل لزائر للمكان أنه يغوص في حلقة من التاريخ الطيب، زمن البيع العتيق، لا تكنولوجيا ولا مركبات تجول وتصول، وأصوات تجار ترتفع وتغري الزبائن، «سمك طازج وليمون للشربات تم قطفه هذا الصباح، وأوراق «ديول» جديدة غير مصنعة، وبصل وبطاطا طازجة بـ 25 دينار فقط، «كول يا قليل وفرح دارك» وهلم جر من تعابير تعيدك إلى اسطوانات وحنين زمن توقفت عقاربه وتجمدت، ولولا ملبس الناس العصري، لحسبت وأقسمت أنك في زمن الأبيض أو الأسود،  وزادها ديكور بسيط لتجار اختاروا «السوق  لعرض بضاعتهم وسلعهم، والتي في الغالب تقتصر على الخضروات والسمك وما طاب للناظرين من فاكهة مرصوصة بعناية شديدة حتى يخيل للناظر انها في سباق شرس فيمن تكون اكثر جلبا للزبائن، وسط هذه البهرجة والحس العاطفي الجميل، ترى وجوها لمعت لزبائن مميزين، أعتدنا رؤيتهم على شاشات التلفاز، إما يمثلون أدوار سينمائية، أو يقدمون تحليلا في السياسة والشأن العام، أو شخصيات رياضية نافذة في مناصب عليا باتحادية كرة القدم، نزلوا على السوق العتيق للمتعة من جهة والتبضع من جهة اخرى بسلع قطفها أصحابها من حدائقهم التي تحيط بمساكنهم الجبلية، ولتمضية وقت جميل في يوم رمضاني ساخن، وهذه يوميات السوق كل شهر رمضان وزبائنه المميزين.