طباعة هذه الصفحة

نظام التقاعد.. التشخيص والخيارات

التوازن بين المكاسب المشروعة والمقتضيات الاقتصادية

سعيد/ ب

يثير نظام التقاعد جدلا واسعا في عالم الشغل إثر إعلان التوجه نحو ضبط آلياته وتدقيق شروطه لتدارك تداعيات الأزمة المالية التي تولدت عن انهيار أسعار المحروقات.
 وأعلن الوزير الأول في نهاية أشغال الثلاثية الأخيرة، العمل على خيار توحيد سن التقاعد بإتمام العامل لـ 60 سنة من العمر، غير أنه أوضح أن لجنة مختصة ومتعددة القطاعات تشكل لدراسة الخيارات الممكنة بهذا الخصوص. وينبغي انتظار الخلاصات التي تتمخض عن عمل هذه اللجنة المختصة لمعرفة النتائج واتضاح الصورة.
كان رئيس الجمهورية الذي خصّ المتقاعدين بعناية واهتمام على مدار السنوات، قد أعلن في كل مناسبة أن مواجهة الصدمة المالية الخارجية لن تكون على حساب المكاسب الاجتماعية بما فيها نظام التقاعد مفضلا مواجهة الأزمة بأدوات اقتصادية، وأكد أن المؤسسة الاقتصادية بغض النظر عن طبيعتها القانونية مطالبة بأن تنجز الهدف خاصة، وأن تسهيلات غير مسبوقة قد تم توفيرها للمتعامل الاقتصادي»النزيه» الذي يحمل مشاكل اقتصاد بلده في قلبه وضميره.
وقد أبرزت الثلاثية جدوى هذا الخيار القائم على اعتماد النجاعة والنمو من خلال تنمية إنتاج القيمة المضافة وخلق الثروة وانخراط المؤسسة الاقتصادية بكل أنواعها وكافة أصنافها في عملية التصريح بالعمال ودفع الاشتراكات، خاصة وأن الصناديق الاجتماعية المختلفة قد وضعت آليات تحفيزية للمطابقة مع القانون حققت نتائج جيدة ينبغي تعزيزها باستمرار من خلال العمل الجواري المستمر وتذليل الصعوبات المحتملة.
 في هذه الأثناء ازدادت وتيرة الأقاويل والإشاعات في الأوساط العمالية مما أحدث موجة إنشغال عارمة، فيما لا يوجد أي جديد يدفع مثلما أوضحته إدارة الصندوق، غير أن بعض الأوساط غذّت- بتصريحات غير مسؤولة وأخرى تترصد المؤشرات لضرب الاستقرار الاجتماعي- تلك الموجة التي سرعان ما خفضت وتيرتها بعد أن تبين- وهذا ما هو مفترض- أن الوضع عادي وما يجري العمل عليه لا يتعدى كونه تعديلات للضبط.
وفي هذا الإطار نفت إدارة صندوق التقاعد الذي يصرف منح التقاعد لحوالي 2,2 مليون متقاعد تلقيه أي تعليمة «تقضي بتوقيف عملية استقبال وتسوية ملفات طلب التقاعد بكافة صيغه خاصة النسبي والمسبق دون شرط السن المحدد بـ60 سنة، وليس أكثر من ذلك كما حاول بعض المتعاملين الدعوة إليه، متجاهلين الخط العام المسطر من الدولة القائم على فلسفة خيار اقتصاد السوق الاجتماعي بمعنى انتهاج الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وتأكيدا على استقرار الوضع يرتقب أن يدرج صندوق التقاعد زيادته السنوية بنسبة 2,5 بالمائة تصرف ابتداء من جويلية القادم وتتزامن الزيادة بغض النظر عن نسبتها مع عيد استرجاع السيادة الوطنية.
وللإشارة لم تتحدث الحكومة في خطابها على مختلف المستويات عن إصلاح نظام التقاعد بمعنى المساس بجوهره مما يثير تحفظات البعض وتخوفات البعض الأخر خاصة الفئة العمالية التي تشرف على استيفاء الشروط القانونية الراهنة، إنما بالرجوع إلى التصريحات وتدقيق مصطلحاتها تحدثت عن ضبط إجراءات التقاعد بمعنى التوجه إلى إحداث توازنات مقبولة يتحمل فيها كل طرف جانبا من الالتزامات تجاه الصندوق الوطني للتقاعد.
وفي خضم هذا النقاش الذي تحتاج إليه بلا الشك اللجنة المكلفة بما في ذلك ضرورة الاستعانة بآراء الخبراء من كافة التوجهات، لعل أفضل مخرج العمل على إرساء مسارات للتقاعد تلائم مختلف صيغه، بحيث لا يمكن القفز على حقائق تتعلق بالأوضاع الصحية في السن القريبة من التقاعد وحجم الأضرار التي تخلفها الأمراض المزمنة، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار، علما أن العديد من العمال غادروا عالمنا قبل بلوغ محطة التقاعد، وآخرون يعانون من أمراض تحرمهم من قضاء تقاعد مريح كما يتمناه كل عامل.
وفي الوقت الذي يثبّت فيه سن الـ 60 عاما قاعدة قانونية مبدئية، يمكن اعتماد مسارات أخرى بانسجام وتوازن مثل إرساء تعديل صيغة التقاعد النسبي المحدد حاليا بسن 50 سنة مع اشتراكات 20 سنة للرجل و45 سنة و15 سنة اشتراكات للمرأة العاملة بإرساء شرط «بلوغ 55 سنة من العمر واستيفاء 25 سنة اشتراكات للرجل وزيادة 5 سنوات للمرأة».
ولصيغة التقاعد دون شرط السن (المسبق) المحدد حاليا باستيفاء اشتراكات 32 سنة عمل كاملة وبلوغ 50 سنة فأكثر، يمكن تعديله برفع السن إلى 55 سنة فأكثر على اعتبار أن 32 سنة اشتراك اجتماعي قاعدة جوهرية وأي زيادة في سنوات العمل بعدها يجب أن يدرج في احتساب التقاعد لأكثر من 80 ٪.
وبالنسبة للفئة التي لم تبلغ معدل الاشتراكات لأسباب مختلفة كبداية العمل في سن متأخرة مثلا يمكن تمديد السن للمعني لأكثر من 60 سنة اختياريا حتى يعزز سنوات الاشتراك وتحسن معدلات المنحة.
وبالموازاة مع هذا من المفيد جدا أن يشمل مسار الضبط كافة الصناديق على غرار الصندوق الخاص للتقاعد (اف.اس.ار) الذي لا توجد معلومات كثيرة حوله، في وقت قد يكون يتحمل أكثر من طاقته بالنظر للمستفيدين وقدراته المالية التي تتطلب ضبطا وذلك انطلاقا من مبدأ تقاسم المنافع والأعباء بحيث تساهم كل شريحة.
غير أنه لا يمكن التغاضي عن مسألة تعتبر جوهرية تتعلق بأهمية إطلاق وزارة العمل والضمان الاجتماعي لبحث معمق حول ظاهرة النزوح المكثف للتقاعد وتحديد أسبابه الحقيقية، ومن ثمة اتخاذ التدابير العلاجية لجانب منها يخص رد الاعتبار للعمل وترقية مناخه وإنهاء ممارسات في دواليب التسيير تعد من مسببات المشكلة.
 ويمكن الانفتاح على تجارب بلدان عديدة مثل التجربة الألمانية التي تحرص على إغراء العمال من أصحاب الكفاءات الحقيقية ومن لديهم عطاء أكثر بالرفع من الأجر ومنح علاوات نظير مواصلة العمل لتأطير الخلف ومرافقة بناء جيل أكثر مناعة. ففي ألمانيا يقترح لمن بلغ التقاعد القائم بالمهمة بالعمل لنصف اليوم ويكفي مراجعة مؤشرات النمو عندهم لإدراك الأهمية والجدوى من تلك الخيارات الاقتصادية الذكية القائمة على معايير الفعالية، الكفاءة وتثمين الجهد.