طباعة هذه الصفحة

التطـرف في الديـن و السياسـة

بقلم الدكتورة: وريدة دالي خيلية كلية الإعلام والاتصال جامعة الجزائر 3

رد الدكتور يوسف القرضاوي: «مناقشا ما ذهب إليه الغربيون، معتبرا أن المصلحة» التي ترتبط بها السياسة في نظر الإسلام، ليست هي كل ما يُحقِّق اللذة للإنسان، أو يجمع بها لنفسه أكبر قدر من حظوظ الدنيا ولو كان ذلك على حساب غيره، أو على حساب القِيَم والأخلاق»17 .    
أما بخصوص مفهوم السياسة في الإسلام، فقد قال الدكتور يوسف القرضاوي:
«أن كلمة سياسة لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكييِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. ومن قرأ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) يتبين له هذا. ولهذا لم يذكرها الراغب في (مفرداته). ولا (معجم ألفاظ القرآن) الذي أصدره مجمع اللغة العربية». لكنه يعتبر أن ذلك لا يعني أن القرآن و الإسلام لم يعتني بالسياسة. فالقرآن- بقول الدكتور يوسف القرضاوي:»- و إن لم يجئ بلفظ (السياسة) فقد جاء بما يدل عليها، ويُنبئ عنها، مثل: كلمة (المُلك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم»18 ، و جاء ذلك بصيغ و أساليب شتَّى، بعضها مدح، و بعضها ذم. فهناك المُلك العادل، و هناك المُلك الظالم، المُلك الشُورِي، و المُلك المستبد.
 قدم الدكتور يوسف القرضاوي أمثلة عن تلك الصيغ. فعن صيغة المدح قال تعالى في سورة «النساء: 54»:»فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً»
  في سورة يوسف:101 : «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ» و أتى الله المُلك: لــ «طالوت»، بعثه مَلِكا لبني إسرائيل، ليقاتلوا تحت لوائه، قال تعالى في سورة «البقرة: 247»: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً» من الملوك الذين لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم، مَلِك مصر في عهد يوسف، وهو الذي ولَّى يوسف على خزائن الأرض. رغم ذكر القرآن لبعض تصرفاته أي حسن سياسته في مُلكه.
في المقابل ذم القرآن المُلك الظالم والمتجبر، المتسلط على خَلق الله، مثل: مُلك النمروذ، الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك. ومنه كذلك مُلك فرعون الذي»عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» سورة «القصص: 4»
هناك أيضا كلمة (الاستخلاف)، و ما يشتق منها، مثل قوله تعالى في سورة «النور:55»: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» و كلمة (الحُكْم) وما يشتق منها، مثل قوله تعالى في سورة «النساء: 58»: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً»
لعل أقدم نص وردت فيه كلمة (سياسة) بالمعنى المتعلِّق بالحكم هو: قول عمرو ابن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمانَ الخليفة المظلوم، والطالب بدمه الحسن السياسة، الحسن التدبير» 19
كما تضمَّنت السنة النبوية ما اشتقَّ من السياسة، و هو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فُوا ببيعة الأول فالأول، و أعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم».و صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «فالأمير الذي هو على الناس راع و مسؤول عن رعيته» رواه البخاري. و قوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...» رواه البخاري. وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «ومَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». رواه الحاكم والطبراني.
بعد أن وضحنا إلى حد ما، المفاهيم الثلاث (الدين، السياسة، التطرف) صار من الضروري مناقشة الإشكالية التي نتجت عن تلاحم هذه المفاهيم، والتداعيات الخطيرة التي أدت إليها هذه العلاقة. يعد الدين السياسي من أخطر المعوقات أمام الديمقراطية في العالم المسيحي، و في العالم الإسلامي على حد سواء.
 الأخطر في الدين السياسي، هو تشدد معتنقيه نتيجة غلوهم في الدين، أي ما يسمى في عصرنا بالتطرف الديني الذي عرفته كل الديانات «الإبراهيمية»20
  وأخذ أشكالا عنيفة جدا في التاريخ القديم والحديث. ففي العصور الوسطى قامت الحروب الصليبية التي لعب فيها التعصب الديني دورا كبيرا. حيث هاجم المسيحيون المجتمعات اليهوديه في اوروبا، و نفذوا مجازر فظيعة باسم المسيحيه، مثل ما حصل في مذابح اليهود في «الراين»20   و في مذبحة «يورك» 21
حيث انتشر التعصب بطريقه مرعبة، فقد وصف المسيحيون المسلمين بالكفار، و وصف المسلمون من جهتهم المسيحيين بالكفار، و هكذا قام الطرفين بجرائم فظيعة باسم الدين.
كما انتشر التعصب المذهبي بعد ظهور البروتستانتية بين المسيحيين الكاتوليك والمسيحيين البروتيستانت و قامت بينهم حروب دموية. تعالت عدة أصوات تدعو إلى تطبيق الثنائية التي دعا إليها المسيح عيسى عليه السلام حين قال كما يرويه الإنجيل» أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»! أي أن المسيحية تعترف بثنائية الحياة، بحيث تقسمها قسمين:
1- لقيصر وهو الجانب، الذي يخضع للسلطة الزمنية، سلطة الدولة.
2-لله، وهو الجانب الذي يخضع للسلطة الروحية، سلطة الكنيسة.
جاء هذا الفصل الدين عن السياسة» في المسيحية، على اعتبار أن كلمة سياسة لا تحمل في معانيها مبادئ تجعل الإنسان يكتفي بها بعيدًا عن دينه، و هي مبادئ وقيم  الشرف و الأمانة. كما أن الدين يهتم بالعلاقات الاجتماعية و قضاياها، كالزواج وتكوين الأسرة، أي الأحوال الشخصية.
رغم وجود نشأة التمييز بين السلطة الدينية والسلطة المدنية عند الغرب في ظروف التوافق و الصراع الحاصلين بين الكنيسة و السلطة المدنية، حيث نشبت حروب و صراعات دينية دموية، وانقلابات و أزمات حول الحكم والسلطة في أوروبا خلال القرن السادس عشر، والنصف الأول من القرن السابع عشر، نتج عنها جدلاً كبيرا في مجتمعاتها، حول طبيعة الحكم في علاقته بالسلطة البابوية الكاثوليكية من جهة، وعلاقته بالرعية من جهة أخرى. فعرفت أوروبا كل أشكال الاضطهاد و التعصب في الفترة ما بين 1555 و 1648م.  
لتهدئة الجدل القائم، ظهرت أفكار بنّاءة في كل من هولندا وبريطانيا وفرنسا في النصف الثاني من القرن السابع عشر تدخلت لحل إشكالية العلاقة بين سلطة الحاكم  السياسي المدني،  وسلطة الكنيسة أو رجل الدين.
 إشكالية فجرت صراعات كبيرة بين الفرق و الجماعات الدينية المختلفة و بين الأفراد.
من بين أصحاب تلك الأفكار «بيير بيل»  P. Bayle  الذي نقد الكالفينية بقوله: «لا شيء يدعي إلى جعل العالم مسرحاً دامياً للاضطرابات و المذابح، من تقرير هذا المبدأ القائل: بأن كل المعتقدين بحقيقة دينهم يحق لهم أن يبيدوا سائر الأديان «22
بعد ثلاث سنوات أي سنة  1689 م خرج»جون لوك» بأهم الأفكار الداعية للتسامح ، معتبرا أن التسامح ينبغي أن يكون المبدأ الرئيسي للكنيسة، لأن انعدامه يتنافى مع الفضائل المسيحية. لذلك ينبغي على المسيحيين مجاهدة أنفسهم في الوقوف ضد أخطائهم قبل أن يضطهدوا الآخرين الذين يخافونهم في الدين.
كما حذر من أن يؤدي الصالح العام إلى الاضطهاد الديني و لا أن تؤدي الحربة الدينية إلى الإباحة، كما دعى إلى التمييز بين وظيفة الدولة ووظيفة الكنيسة. فوظيفة الدولة هي المحافظة على الخيرات المدنية كحياة المواطن و حريته و صحته و أملاكه، أما أرواح الناس وعقولهم فهي ملك لهم، ينضمون إلى الكنيسة التي يريدون لأن الكنيسة هي جماعة حرة منفصلة عن الدولة، ينضم إليها الناس لعبادة الله على النحو الذي يعتقدون أنه يرضي الله و يحقق لهم النجاة. فأمر نجاة النفس أمر شخصي لا يمكن أن يعهد بها إلى أية سلطة مدنية أو دينية، و إنما تعهد إلى السلطة العليا المطلقة للشخص نفسه، لأن الضمير وحريته حق طبيعي لكل إنسان .
وظيفة الكنيسة مقصورة على الدعوة والوعظ والنصح، لها نظامها و قوانينها الداخلية الخاصة، وليس للأساقفة الحق في السيطرة عليها لأن المسيح لم يأمر بذلك.
لم تمر علاقة الدين بالسياسة بنفس المسار في المجتمعات الأوروبية، و لكن خصوصية كل بلد استدعت وضعية معينة في تحديد حجم تلك العلاقة. لكنها تتفق جميعا على ضرورة الفصل المبدئي بين السلطة الدينية و السلطة المدنية، وذلك لما يزخر به المجتمع الواحد من تعدد في الأديان والمعتقدات و حرية الضمير والاعتقاد. ليس معنى ذلك أننا ننفي ذلك التداخل بين الدين و السياسة من حيث التأثير الثقافي و المعيشي في الواقع العملي. فهذا التداخل أمر واقع لا محالة بوعي أو بغير وعي، من خلال الثقافة نفسها التي تشكل جسراً بين الموقعين الديني والسياسي. لكن مبدأ الفصل، يعني أنه لا يجوز استقواء السياسي بالديني، ولا يجوز استقواء الديني بالسياسي، حتى لا يؤدي هذا التداخل إلى الاستقواء المتبادل، على حساب حيادية الدولة تجاه مجتمعها، وعلى حساب وسائل العمل السياسي السلمي، و مبدأ تداول السلطة سلمياً.
أما الإسلام فلم يعرف تقسيم شؤون الحياة إلى ما هو ديني، و غير ديني، لأنه تقسيم غير إسلامي، بل هو تقسيم مستورد، مأخوذ من الغرب. و ما نراه اليوم في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية من تقسيمات للحياة والناس وللمؤسسات، إلى ديني، وغير ديني، ليس من الإسلام في شيء.
لم يكن في الإسلام أناس يسمون رجال دين، وآخرون يسمون رجال العلم أو السياسة أو الدنيا، ولم يعرف الإسلام سلطتين: إحداهما دينية، و الأخرى زمنية أو دنيوية، و لم يعرف في تراث الإسلام دين لا سياسة فيه ولا سياسة لا دين لها.
لكن السياسة في البلدان العربية والإسلامية، تغلب على وظيفتها نزعة التغلب والاستيلاء و القهر و كرّست الحق الديني، أي الحق الشرعي في السلطة. حق يمكن لأي جماعة ادعائه بحكم أسبقيتها في خدمة الإسلام أو أقربيتها فيه مثل العلوية و العباسية، أو بحكم الجهاد العسكري مثل السلاجقة و الأتراك العثمانيين. و قد أعيد إنتاج هذه الثقافة في العصر العربي الحديث، على شكل أحزاب إسلامية، أي على شكل عمل سياسي متذرّع بالإسلام، و بحداثة عالمية ينتَقى منها التكنولوجيا و التنظيم من أجل الوصول إلى السلطة والحكم. رافضا اعتباره أداة ميسورة في أيدي السلطة السياسية، تستغله لتشريع وجودها و لتبرير مظالمها.»ازداد هذا الإشكال تفاقماً مع لجوء الحكّام المحدثين إلى الدين يستقوون به في تثبيت (حكمهم) وكسب شرعيتهم. يتساوى في منهج هذا (الاستقواء) الحكّام المدنيون والعسكريون والدينيون، كلّ من موقع ومن زاوية، ولكنهم جميعاً يستهدفون المجتمع الأهلي المتدين ليجعلوا من تدين المجتمع، أي تدين الناس مادّة سياسية للولاء والطاعة و الاستتباع»23
عرف العصر الإسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم عمليات اغتيال سياسي، تعرض لها صحابة أجلاء عرفوا بالصدق و الأمانة و العدل أمثال الخليفة الثاني الفاروق «عمر بن الخطاب» و «على بن ابي طالب» رضي الله عنهما.
الواقع ان حركة التراجع الحضاري، في العالم العربي الإسلامي، قد ظهرت منذ اللحظة التاريخية التي ثار فيها نفر من المسلمين على ولاية «عثمان بن عفان» رضي الله عنه، و بعد مقتله اشتعلت نار الفتنة.
فدارت رحى الحروب و الفتن، من ذلك الوقت، بدأ التاريخ الاسلامي يسجل المأساة تلو المأساة. في خضم هذه الظروف، ظهرت إلى الوجود فرق سياسية و دينية متنازعة، لينتقل المسلمون من حالة التجانس المطلق في الفكر و العقيدة و المذهب، إلى حالة التنوع و التعدد والاختلاف.
من حالة التوافق التام إلى حالة من الضياع في مختلف المجالات: الدينية والمذهبية و السياسية فسالت الدماء و
أزهقت الارواح ظلما و عدوانا و قهرا. فغابت قيم الحرية و الاخاء والانسانية السامية.
«يتبــــــع»