طباعة هذه الصفحة

بعد فوز الرئيس الامريكي الجديد

ما مصير الملفات الدولية الساخنة؟

س/ ناصر

بعد نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تواصل وسائل الإعلام العالمية عصفها الذهني عبر حملات إعلامية مشابهة لتلك التي كانت قبل انتخابه رئيسا، لاسيما أن النتائج جاءت عكس ما توقّعت حيث ركّز في حملته على إعطاء الأولوية للداخل على حساب الخارج ولذلك يتخوف الأوروبيون من سياسة ترامب إذا ما استثنينا اليمينيين والسوفيات الذين رحبوا بقدومه، كما أن الاحتجاجات الشعبية الرافضة لترامب رئيسا تتواصل، ويتساءل الكثيرون عن مصير الملفات الدولية الساخنة.

لقد فشلت العديد من وسائل الإعلام في قراءة المشهد السياسي الأمريكي والعالمي أثناء الحملات الانتخابية الأمريكية، ما أعاقه بدرجات كبيرة في الاقتراب من الواقع، وتوقع إمكانية نجاح ترامب. غير أن الحملات الإعلامية المضادة لترامب تتواصل بشكل أقرب إلى «التكهنات» و»المحاكمات» الافتراضية، ما يعطي انطباعا بأن هذه الحملات تحاول تصوير ما ترغبه وما ترفضه كأمر واقع وكحقيقة على الأرض. هذا إضافة إلى أجندات وسائل الإعلام هذه وتوجهاتها. ولا يمكن هنا أن نتجاهل «الهندسة الإعلامية الجديدة» التي تطلق حملات إعلامية تبدو مضادة لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه الظاهرة أو تلك، ولكنها في حقيقة الأمر على عكس كل ذلك تماما، لأن إثارة موضوع ما حتى وإن كان بالنقد فحقيقة الأمر أنك تخدمه ولا تضره عكس ما تتصور لأن العصا التي تقع على الظهر إن لم تكسره فهي تقويه كما يقول المثل الشعبي المتداول.
الملفات الحقيقية المفتوحة، والتي جاء إليها ترامب، تشغل العالم كله بشكل عام، والقوى الكبرى على وجه الخصوص. ولقد «نجحت» إدارة باراك أوباما في ترك تركة ثقيلة لترامب تتضمن العديد من الملفات ليس فقط المفتوحة، بل والساخنة، والتي يكاد بعضها يدفع إلى احتكاكات مباشرة بين القوى الكبرى، وعلى رأسها ملف الشرق الأوسط المليء بالأزمات الساخنة، وعلى رأسها الأزمة السورية ملف الإرهاب الدولي الذي رفضت إدارة أوباما التعاون مع روسيا في إدارته ملف الأمن الأوروبي الذي يتضمن نشر الدرع الصاروخية، وتوسع الناتو شرقا الأزمة الأوكرانية التي تعكس التواطؤ الأمريكي الأورو أطلسي على إشعال ليس فقط شرق أوروبا، بل والعديد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
ملفات جوهرية من أجل استقرار الأمن الدولي، ولكن إدارة الرئيس أوباما تركت هذه الملفات مفتوحة بزوايا واسعة، وعلى درجة كبيرة من السخونة. وفي الواقع، فقد حدّدت روسيا سياساتها إزاء هذه الملفات، عبر قنوات عديدة، سواء كان الكرملين، أو وزارة الخارجية، أو عبر ممثلي روسيا في الأمم المتحدة، أو في حلف الناتو. وذلك على الرغم من الضغوط الأمريكية ـ الأوروبية باستخدام العقوبات الاقتصادية، أو عسكرة دول شرق أوروبا والبلطيق، أو نشر عناصر الدرع الصاروخية في رومانيا، ولاحقا في بولندا، أو وضع عقبات أمام روسيا في مكافحة الإرهاب في سوريا، فإذا كانت إدارة أوباما تدعم في سوريا ما يسمى بالمعارضة المعتدلة، فإن نظرة ترامب على النقيض من ذلك حيث لا تدعم المعارضة للإطاحة بالأنظمة بل أن نظرته محاربة الإرهاب وعلى رأسه تنظيم داعش وهي النظرة التي تتفق مع الرؤية الروسية والإيرانية ومحور المقاومة.
لقد هنأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الحكومة دميتري مدفيديف، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، وتمنوا له عملا موفقا، ونجاحا في إدارة الملفات المهمة من أجل الاستقرار العالمي. وأبدى الكرملين والخارجية الروسية استعداد موسكو لاستعادة العلاقات مع واشنطن على أساس التكافؤ واحترام المصالح. والكرة الآن في ملعب الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستخضع لابتزاز وضغوط من أتوا بها، وستقوم هي أيضا بابتزاز العديد من الأطراف والضغط عليها من أجل تلبية المصالح الأمريكية الكبرى.
من الصعب أن نتعامل مع ترامب على أساس «وعوده الانتخابية»، وإلا سنكون على الجانب غير الدقيق من قراءة المشهد السياسي الأمريكي الداخلي، وأبعد عن التقديرات الصحيحة للوضع الدولي. فترامب الجمهوري وضع قدمه على أرض الواقع بعد ظهور نتائج الانتخابات، ما يعني أنه سيبدأ بالتعامل الواقعي مع ملفات وأزمات ساخنة ترتبط بمصالح كبرى للشركات «العابرة للجغرافيا» في مجالات عديدة مثل السلاح والنفط والغاز، والسيطرة الجيو سياسية على مصادر الطاقة وطرق نقلها، والتوسع الجيو اقتصادي، وربما يكون هناك حظ لأسواق «العقارات» أيضا. وعلى الرغم من كل ذلك، فموسكو تعلي من شأن الإرادة السياسية المشتركة لتسوية العديد من الملفات والأزمات على أرضية التكافؤ واحترام المصالح.
أوروبا في وضع حرج للغاية، إذ أن كلمات الرئيس الفرنسي هولاند والمستشارة الألمانية ميركل، اتضح للوهلة الأولى أن هناك مخاوف من أن يجنح ترامب بعيدا عن أوروبا، أو يضاعف الضغوط عليها في ملفات زيادة النفقات العسكرية، ومعادة روسيا. وربما تكون المخاوف الأكبر هي إحساس أوروبا بأن الولايات المتحدة تسعى لممارسة ضغوط مستقبلية على القارة كلها في مجال الطاقة، وهو ما يثير انزعاج الكثير من الساسة والخبراء. ولكن أوروبا من جهة أخرى، تبدو «منبطحة» أمام الولايات المتحدة، وتشارك في العديد من الإجراءات قصيرة النظر، وبالذات فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية الداخلية، وفرض العقوبات على روسيا، والخوف «المرضي المزمن» من «العدوان الروسي» المزعوم، والذي تعمِّقه وسائل الإعلام والمؤسسات العسكرية لحلف الناتو والولايات المتحدة.
الغريب أن أوروبا نفسها لم تعد تلتفت كثيرا إلى أوكرانيا التي أصبحت مرتعا للفساد وإيواء الساسة السابقين «الفاشلين»، ويبدو أن التناقضات والخلافات وصلت بين أركان السلطة الأوكرانية لدرجة أن سآكاشفيلي نفسه قدم استقالته، أو أقاله الرئيس الأوكراني من منصبه. ومع كل ذلك لا تهتم أوروبا كثيرا بما يجري في كييف حاليا. ولكن عندما يجري الحديث عن عقوبات ضد روسيا أو إجراءات سياسية «صبيانية» نجد أوروبا تفتح ذراعيها لساسة كييف بأوامر من واشنطن.
ويبقى ملف الإرهاب الذي تأمل العديد من دول المنطقة وموسكو بأن تنتبه إدارة ترامب إلى خطورته على الجميع من دون أي استثناء. بل ويأمل الكثير من الخبراء بأن لا تجنح الإدارة الأمريكية الجديدة إلى التطرف في استثمار نشاطات التنظيمات والجماعات الإرهابية، أو الخلط بين الإرهاب وحقوق الإنسان وحرية الكلمة. هذا الملف الخطير يبقى مفتوحا في انتظار الإرادة السياسية والتفكير السليم لإدارته، لأنه ببساطة يرتبط بعدد من الملفات والأزمات التي لا يمكن فصلها عنه، وعلى رأسها الأزمة السورية.
«إن سياسة ترامب واتباعه تخطو أولى خطواتها الآن على أرض الواقع. فإما أن تتحلى بالإرادة والرغبة في السلام، والأمن، والاستقرار، أو تواصل نهج ليس فقط الإدارات الجمهورية السابقة في أفغانستان والعراق وغيرهما، بل وأيضا نهج الإدارات الديمقراطية التي أصبحت أكثر تطرفا وانحرافا من حيث المغامرات غير محمودة العواقب والدفع بالعالم إلى حافة المواجهات.

الأمور مع ترامب أكثر نضجا ووضوحا

إن السيد ترامب لن يجر العالم إلى نخب يمينية حاكمة لا في أوروبا ولا في أي مكان آخر، لأن هذه النخب تحكم أصلا بدرجات معينة، أو قريبة من مراكز القرار، أو تتمتع بنفوذ كبير وواسع حتى وإن كانت خارج السلطة. ترامب، في الحقيقة، لديه أجندات أخرى تماما، أكثر نضجا ووضوحا، بصرف النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معها ومعه. بالضبط مثلما كانت الأمور مع باراك أوباما وفريقه. مع العلم بأن الفارق ليس كبيرا بين أوباما وترامب، أو بين الأخير والسيدة كلينتون، إلا في بعض التفاصيل الدقيقة. إذ أن المصالح القومية الأمريكية هي التي تحكم حركة الحزبين وتوجهات سياساتهما
بداية، نستطيع الآن أن نتحدث عن ابتعاد طموحات القوى اليمينية الدينية المتطرفة في الوصول إلى السلطة في دول الشرق الأوسط، لأن الصراعات والمنافسات ستنتقل إلى ساحات أخرى، وإن كان من الممكن أن تستخدم النخبة الأمريكية الحاكمة الجديدة تنظيمات إرهابية أو متطرفة لتصريف بعض الشؤون أو تصفية بعض الحسابات. وهذه أمور متوقعة، ولكنها لن تكون الأرضية الرئيسية التي تتحرك عليها السياسة الأمريكية.
لا شك أن «معركة الإرهاب» ستبقى، ولكن بمعايير مختلفة نسبيا، وعلى أسس قد تتناقض مع الأسس التي وضعتها كلينتون في عهد أوباما وتمكنت من فرضها إلى أن أدت إلى استفحال الإرهاب وازدهاره، وانتشار نفوذ التيارات اليمينية الدينية المتطرفة.
إن الملفات الحقيقية التي تواجه ترامب تتضمن العلاقات مع الصين وروسيا، والدرع الصاروخية، والمنافسة في أسواق السلاح، والصراع على مصادر الطاقة وطرق نقلها، وتقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، والملفين النوويين الإيراني والكوري الشمالي. هذا إضافة إلى أحد أهم الملفات الرئيسية، ألا وهو ملف تصريف الفوائض المالية للشركات والمؤسسات الأمريكية العابرة للقارات، والبحث عن مناطق جغرافية جديدة لتشغيل هذه الفوائض.
 لا أحد ينتظر تحسنا فوريا في العلاقات الروسية ـ الأمريكية. بل يمكن أن نتوقع تصريحات متأرجحة بين التهدئة والتصعيد. فالتركة التي خلَّفَها فريق أوباما ليست بسيطة، ولا يمكن تجاوزها بين ليلة وضحاها.