طباعة هذه الصفحة

مذا بعد أحداث حلـب؟

عودة للغة الحوار وبوادر التّسوية

جمال أوكيلي

لقاء كازاخستان في منتصف جانفي

حسم القادة السياسيّون والعسكريّون الرّوسيون أحداث حلب في ظرف قياسي، وهذا بإخلاء المنطقة من القاتلين والمقيمين فيها بإدراجها في منظومة جيواستراتيجية محددة منها عزل المسؤولين الميدانيين لتلك المجموعات في التواصل مع بعضها، قصد إعادة تنظيم نفسها أهداف أخرى، مع تفكيك خططها الرّامية بالأساس إلى الحفاظ على المدينة مهما كان الأمر.

التفوق الرّوسي عسكريا اعتمد على تدمير العمران وسحق الإنسان جوّا، مع السّماح فيما بعد لما يسمّى بالقوات الرديفة بالسّيطرة على الأرض وفق ما اتّبع من استعمال بما يعرف بـ “الأمواج البشرية” لفرض الوجود على كل الأماكن التي كانت بحوزة الأطراف الأخرى.
وعمل الروس بكل ما لديهم من عدّة وعتاد على استرجاع حلب، حتى وإن تطلّب الأمر محوها من الخريطة، المهم هو استعادتها لإبطال كل تلك الحسابات التّكتيكية الصّادرة عن رجال المعارضة في الخارج، الذين اعتقدوا بأنّ الصّراع الفاصل يكمن في حلب واللاّذقية ودمشق، لكن هذا الأمر لم يسر نظرا لعدة اعتبارات، منها أنّ المعركة غير متوازنة عندما لجأ الروس إلى تكسير معنويات المسلّحين من خلال القصف الجهنّمي الذي حوّل كل ما هو واقف إلى ركام. هكذا قلّت فعالية ضربات المعارضة، ومع الوقت اختفت بحكم الحصار المحكم المضروب على مداخل المدينة، وتوقّف الإمدادات التي كانت تصلهم في كل وقت، فما كان الحل هو إقرار التخلي عن حلب والخروج منها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
والحرب هي الدبلوماسية بشكل آخر، وهذا ما سعى إليه الروس الذين سارعوا إلى الحديث عن الحوار والتّسوية المطلوبة في أقرب الآجال كبديل أساسي لما جرى طيلة هذه الفترة الصّعبة.
والانشغال الجوهري للقيادة الرّوسية في المرحلة الرّاهنة هو البحث عن الآليات القادرة على وقف إطلاق النّار في كامل سوريا، فهل هذا ممكن؟ هناك ضمانات للوصول إلى هذا المطلب تلقّاها العسكريون الروس، لكنها تحتاج إلى تبلور والإحاطة الشّاملة بتفاصيل ما يحدث على الأرض، وهذا هو العامل المحرّك لأي ترتيبات سياسية في الأفق.
ما حقّقه الرّوس في حلب كان من خلال دخولهم المعركة بقوّة، والتّأثير المباشر على سيرورة الأحداث، وهذا بامتلاكهم لزمام المبادرة في صناعة السيناريو ما بعد حلب في دلالاته السياسية وأبعاده الاستراتيجية، فمن الصّعوبة بمكان عودة الهدوء إلى نقاط أخرى بوسائل أقل من الحرب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المعارضة المسلّحة لم تخسر الحرب وإنما انسحبت وغادرت المعركة نظرا للاّتوازن في القوة، لأنّ الرّوس أرادوا المدينة ولم يهمّهم كيفية التّعامل مع المقاتلين، اعتقالهم أو القبض عليه خاصة القادة الميدانيّين والعقول المدبّرة لإدارة المعارك، هذا لم يكن في حساباتهم!؟ لماذا؟
الاتّفاق أو التّفاهمات الرّوسية - الأمريكية، خاصة بين كيري ولافروف تركزت على استرجاع الأرض فقط وعدم المساس بالمعارضة، وخلال بلوغ الحصار ذروته وإطلاق لغة الأرقام بأنّ ٩٣ ٪ من الأحياء في حلب باتت خارج سيطرة المعارضة، شعر الروس بأنّ الأمريكيّين لا يملكون القدرة على التعامل مع المستجدّات الطّارئة وسرعة التطورات في حلب عندما أرادوا إضفاء الطابع المأساوي على ما يقع، والدعوة إلى حماية المدنيّين وإرسال المساعدات كان لابد من إيجاد طرف له حضور في وسط ما يجري، وهكذا توجّه الجميع إلى مطالبة تركيا بأن تملأ هذا الفراغ الذي خلّفه الأمريكان، وهكذا التقى كل من لافروف وظريف ومولود جاويش أوغلو لإدارة الأزمة على أساس مقاربات جديدة منها تأكيدهم على أن يضمنوا مسار الحل في أي مسعى مرتقب.
البحث عن الهدنة الشّاملة
 وفي هذا الإطار، أوردت مصادر إعلامية تركية أنّ مسؤولين روس وإيرانيّين وأتراك سيجتمعون في منتصف شهر جانفي القادم لإنهاء حالة القتال في سوريا، أطلق اسم “خطوة بناء الثّقة المكمّلة لمسار جنيف”، ويحتمل أن تكون أستانا بكازاخستان على موعد مع هذا الحدث، بمشاركة انتقائية لموسكو للأطراف المدعوة، وقد مهّد لذلك تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف الذي كشف بأنّ الولايات المتحدة فشلت في الفصل بين المعارضة المعتدلة والإرهابيّين، وهذا ما يعد إحباطا لواشنطن، وتحفّظها في الاندماج في العملية السياسية المرتقبة.
وهذا الإجتماع الذي سيجري في غياب الولايات المتحدة قال عنه المسؤول الروسي غينادي غاتيلوف أنّ الهدف منه التوصل إلى وقف إطلاق النّار، تشارك فيه المعارضة الموجودة على الأرض باستثناء جبهة النصرة، فتح الشام حاليا وداعش، والأكراد، ويبدي الروس استعدادهم الكامل للمشاركة في لقاء جنيف المزمع خلال شهر فبراير القادم.
وملف سوريا يحمله الرّوس اليوم، من أستانا إلى جنيف، وهي إرادة موجودة لدى القيادة وقد صدر ذلك عن الرئيس بوتين شخصيا الذي خاطب السّوريّين بقوله “حان الآن وقت التّسوية السّياسية”، وهذه الرّسالة واضحة المعالم على أنّ المهام الرّئيسية للقوات المسلّحة الرّوسية قد انتهت في سوريا بعد تنفيذ ٧١ ألف غارة، وقتل ٣٥ ألف مسلّح، وتدمير ١٥٠٠ آليات عسكرية، والقضاء على ٧٢٥ معسكر تدريب و٤٠٥ ورشة لتصنيع الذّخيرة مع استعادة ٤٩٩ منطقة. هذا كلّه أدّى إلى تفادي انهيار مؤسسات الدولة السّورية، وبالتوازي مع ذلك وصف بيان للقيادة العامة للجيش السّوري ما جرى في حلب بالتحوّل الإستراتيجي والمنعطف الحاسم في الحرب على الإرهاب، وضربة قاصمة لهذا المشروع  وداعميه.
أمام كل هذه السّرعة في تفاعل الأحداث حول الأزمة السّورية، يسجّل إبعاد الدور الأمريكي بشكل لم نتعوّد عليه في القضايا من هذا الحجم وإحلال محلّها تركيا، التي اختارت صدف محاربة الإرهاب الذي تراه في حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة، وبهذا تكون قد فرضت نفسها في هذا المشهد الأمني المعقّد كطرف أساسي، وله كلمة في هذا الشأن كونها ستشارك في اجتماع “أستانا”، وهكذا تغيّرت معادلة الملف السّوري تغيّرا محيّرا عندما فضّلت روسيا الأتراك، وضمنيا نفهم من كل هذا أنّ الولايات المتّحدة ليست شريكا مؤهّلا لمحاربة الإرهاب، ورؤيته هذه غامضة، هل يرفض كيري الذّهاب إلى أبعد ممّا يقوم به قبيل استلام ترامب شؤون البلد؟
هذا التذبذب أثّر كثيرا على موقع المعارضة، التي تفتقد اليوم إلى ذلك السّند الذي كانت تتمتّع به فيما سبق، ولا ندري كيف يكون مصيرها في كازاخستان وجنيف في غضون الأشهر القادمة، أي ماذا تأخذ معها إلى هذه المحطّات التّفاوضية؟ هل تدرج في العملية السياسية الأحادية الجانب؟ إنّها فعلا أمام مأزق وانسداد فرضا عليهما جرّاء مخلّفات الحرب من جهة ووجود فراغ مؤسّساتي في الولايات المتحدة جرّاء الانتخابات الرّئاسية، ووقوع مستجدّات هامة قبل أن يستلم الوافد الجديد على البيت الأبيض مهامه بشكل رسمي يوم ٢٠ جانفي ٢٠١٧، في حين أنّ اجتماع كازاخستان يكون خلال الأسبوع الثّاني من جانفي، أي الجميع ينتظر ما يقرّره ترامب لاحقا خلال موعد جنيف.