طباعة هذه الصفحة

واكب مسيرة بناء مؤسسات الدولة

مهمة طلائعية في الدفاع عن المصالح العليا للوطن

جمال أوكيلي

مقياس الأداء... المهنية بعيدا عن الإثارة

مرّ الإعلام المكتوب العمومي بصيغ تنظيمية عديدة، منذ انفتاح قطاع الصحافة في بداية التسعينيات من القرن الماضي. وهكذا تقرر أن تكون تحت الإشراف المباشر لصناديق مساهمات الدولة «خدمات» ثم الشركات القابضة «الهولدينغ»، تلاه فيما بعد مجمع الصحافة، إلى غاية ما حسم فيه مؤخرا مجلس مساهمات الدولة، ألا وهو مجمع واحد يسير العناوين ٦ ،أي اليوميات ٤ في الوسط وواحدة في الشرق وأخرى في الغرب.
هذا الإنتقال من صفة إدارية إلى أخرى.. أملته مقتضيات المرحلة، وهذا بحتمية الخروج من الكيفية التي كانت سائدة منذ تأسيس هذه الجرائد المستندة إلى التمويل الصادر عن الوصاية ووزارة الإعلام آنذاك، المسؤولة قانونا عليها من كل النواحي.. والمرجعية في أي تبعات أخرى.
ورويدا.. رويدا، تم الفصل بين هذه الجرائد ولواحقها، كالمطابع التي كانت مصدرا حيويا لتمويلها، بالإضافة إلى الإشهار التابع للسلطات العممية. كما كان هناك عمل ينجز بالتوازي مع ذلك، يتمثل في توفير الآليات الضرورية لاحتواء واستقبال هذا التحول الجذري في مشهد الصحافة العمومية، في تجربة جديدة.
هذه الخلفية جديرة التذكير بها انطلاقا من كونها الأرضية التي تسمح بمعرفة حقيقة مفادها، أن الإعلام العمومي لم يأت من العدم، بل هو محل مخاض وتجاذبات منذ التسعينيات بحثا عن الأمثل في التسيير وهذا ما يفسر اللاّإستقرار في التصور اللائق به، فأين يكمن الخلل؟
لسنا هنا بصدد البحث عن الأجوبة المطلقة، بقدر ما نسعى إلى طرح مقاربات أو بالأحرى أسئلة بسيطة جدا، لكن مضمونها جدير بأن يفتح أفاقا واسعة للنقاش البناء المثمر في آنٍ واحد.
واستنادا إلى كل هذا المسار الطويل لأداء هذه الركائز، حري بنا أن نقول: ما هو مفهوم الخدمة العمومية؟ وما هي المهام المخولة لها؟ وإلى أي مدى يمكن المطالبة بالحفاظ على الخط الافتتاحي وفي نفس الوقت دخول المنافسة، أي تحقيق الفعل التجاري؟
نعتقد أن الحوار يجب أن يكون قائما على هذه التوجّهات الشائكة والمسائل الحساسة التي بقيت محل أخذ ورد بين كل المعنيين بهذا القطاع وهذا منذ سنوات طويلة جدا، خاصة مع التغييرات التي طرأت على الجانب القانوني لهذه الصحف، وهذا بحرمانها من مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري، مثلما هو الشأن بالنسبة لوكالة الأنباء والإذاعة والتلفزيون ومؤسسات أخرى.
مفهوم الخدمة العمومية في الصحافة المكتوبة، هو أن تكون الوسيط في نقل الانشغالات، زيادة على تنوير الرأي العام بالأخبار والأحداث، حتى يتم الاطلاع على ما يجري.. وكل فئات المجتمع تجد الحيز الخاص بها في هذا الفضاء التحريري، من خلال إبراز المشاريع المنجزة وما يستفيد منه المواطن من برامج التنمية الشاملة. وفي خضم هذه المهام المخولة لها، فإنه من الصعوبة بمكان مطالبتها بالربح أو شيء من هذا القبيل، أو اتهامها بعد المقروئية أو كما أسماه البعض بـ «العزوف» و«التقهقر». إنها أحكام قاسية جدا تجاه هذه الصحف.. التي كانت في مقدمة المقاومين والمتصدين للإرهاب في ظروف يعلمها العام والخاص.. وحملت رسالة الدولة في مرحلة إستثنائية كما واكبت كل مسار المساعي الرامية إلى إنهاء تلك الهجمة الشرسة على مؤسسات البلد، بدءا بقانون الرحمة، والوئام المدني والمصالحة الوطنية.
علينا أن لا ننسى أو تكون ذاكرتنا قصيرة في هذا الصدد، أو تهيمن علينا ثقافة النسيان.. آفة الإنسان، أو نكون ضحية أحكام مسبقة تجاه هذه الجرائد.
لا يوجد أي مقياس يوحي بأن هذه الصحف لا تقرأ أو لا تباع، أو لها مرتجعات عالية، هذه مجرد تخمينات مافتئنا نسمعها هنا وهناك، لا تمت بصلة إلى الواقع. وللأسف، حاول البعض جعلها القاعدة وهي في حقيقة الأمر الإستثناء.
وإلى غاية يومنا هذا، لا نتوفر على سبر للآراء أو دراسات أو إحصائيات، تسمح بإصدار مثل هذه الأحكام المسبقة، ما عدا ما يسجل من أرقام لدى المطابع وهي غير ثابتة.. وظاهرة عامة تعاني منها كافة العناوين.. يكفي اليوم القيام بإطلالة على الأكشاك، لتلاحظ أن الكميات المودعة صباحا هي نفسها التي تجدها مساءً.
وهذا دليل على أن المشهد واحد حتى الصحف التي تدّعي أنها واسعة الإنتشار، تراجعت بشكل رهيب في السحب وهي تعترف بذلك وهذا عندما طلبت ذلك من المطابع، أو أجبرتها هذه الأخيرة على تقليص رقم السحب إلى حد أدنى..
لابد من الإشارة إلى أنها، أيّ هذه الصحف، لا تدفع مستحقات الطبع وتقدر ديونها بالملايير، مما أدخلها في متاهات تسيير خطيرة كتقليص عدد العمال.
هذا الإنتقال من وضع معين إلى آخر، خاصة ماليا، هو الذي سبب كل هذه المتاعب للصحافة المكتوبة وحتّم عليها العمل بأقل عدد من الأعوان في أقسام التحرير ومصالح الإدارة، زيادة على تجميد التوظيف والعمل بالعقود في الجرائد الخاصة.
هذا لم ولن يمنع أبدا، أن يكون الإعلام العمومي في صدارة الأحداث من أجل إعطاء للقارئ كل ما يريده من معلومات، بعيدا عن الإثارة الموجودة عند الغير أو السقوط في تصورات لا صلة لها بمصالح البلد العليا.. وإنما القناعة العميقة لكل من يشتغل في هذا القطاع هو الدفاع عن الدولة الجزائرية والتصدي لكل المناورات التي تحاك ضد هذا البلد التي تقف خلفها أطراف معروفة.
هذه المهمة ذات الأبعاد السياسية، تفرض نفسها علينا كإعلاميين من باب الحرص على ترجمة كل هذا المجهود الوطني المبذول باتجاه بناء المؤسسات ووضع لبنات التنمية الشاملة، لابد وأن يجد هذا العمل مكانه في الإعلام العمومي، من باب المهنية البحتة لا أكثر ولا أقل.
الخط الإفتتاحي في الصحافة العمومية ليس عائقا أبدا بالنسبة للعاملين فيه ولا يتعلق الأمر بهامش الحرية، بقدر ما تطرح قضية المسؤولية. لذلك، فإن المطلوب من الصحافي في هذا القطاع، أن يكون مبادرا، لا يقع في دائرة العمل المكتبي الذي يجعله جامدا لا يستطيع الحركة، أو يرى الكتابة اليومية بمثابة عقاب له بإمكانه الولوج إلى رحاب المجتمع عن طريق البحث عن المعلومة والوصول إلى مصادر الخبر، باستطلاعات ومقالات حول الظواهر التي تصادفه يوميا، لكنه لا يسأل عنها.. ولا تثير لديه أي ردود مهنية، للأسف.. هذا الإنغلاق لا يطور مساره المهني أبدا.
ما قلنا هو رد مباشر وعملي على أولئك الذين يدعون انعدام الحرية في القطاع العمومي، أو يعتقدن أنهم محرجون في ذلك الهامش. هناك خط عام يتطلب الأمر إحترامه، مهما يكن الأمر، والسير عليه.
فليس هناك السياسة فقط، بل أن الاقتصاد والتنمية المحلية، والقضايا الإجتماعية وغيرها، تفرض نفسها بقوة على الصحافي.