طباعة هذه الصفحة

الدلالات السردية في حالتي النفي والإثبات

وقفـــــة مـــــع قصـــــة «طنـــــــين» للقــــــاص سعــــد سعــــود شخـــــاب

بقلم : عبد القادر صيد

 تعتبر قصة «طنين» عنوان يبدو لك لأول وهلة أنه فاضح وكلاسيكي، ولكن ما إن تنغمس في قراءة القصة حتى تغير رأيك تماما، فتجزم أنه لا يقصد صوت الذبابة، ثم يصارحك قبل النهاية بأنه هو ذاته ما يقصده، وعندما تفرغ من القصة لا تصدقه في تصريحه، تجزم أن صدره ينطوي على شيء آخر، ليس استهانة بالذبابة ولا بصوتها، ولا إكبارا للسارد من أن ينشغل بمثل هكذا مواقف، ولكن استشفافا لمرايا حروفه التي تحس أن أشياء خفية تتحرك خلفها، شيء ما يحضّر نفسه للبروز، بينما السارد يمنعه، ويدعوه إلى التريث قليلا.

أول ما استرعاني هو استهلاله بالنفي «لم يكن يلتفت إليها»، مع عدم إهماله للجمل المنفية في الوسط والنهاية، وهذا النفي هو منتهى الإثبات، وهو مرتبط في حالاته كلها بالبطل، مما يؤكد الفرضية الضمنية التي وضعناها منذ البداية، ومنها « لم يكن يلتفت إليها»، «لم يعد يستطيع ومواجهتها، و «لم أفرغ لك «، وهذه في رأيي مفاتيح النفي في النص، حيث كانت الذبابة غائبة في بداية القصة تعدى إليها بحرف جر»إليها»، ثم بقيت غائبة في وسط الجملة، ولكنه تعدى إليها بمصدر مواجهتها، ثم أخيرا اقتربت لحظة التكشف،، إنه يواجهها، ويخاطبها بلا حجاب ولا تورية، «لم أفرغ لك» يخاطبها بنوع من الاستعلاء، التحقير، والتهديد.
 ما يلفت النظر أيضا في هذا السبك هو القدرة العجيبة على جعل الموضوع حيويا، فعلى الرغم من أن الحادثة بسيطة إلا أنك أمام حركية فاعلة، حركية لا تعتمد على الأنشطة الواقعية الأرضية والحسية، ولكن على غليان أفكار وخواطر في ذهن البطل، تتفاعل، تتماوج، وتتكتل متكورة مع الحوار الباطني، كما كرة الثلج التي تنذر بكارثة وشيكة، هذه الكارثة هي الخروج من التفاعل الذاتي إلى التحدث بصوت عال مع الذبابة، أو مع هذا الشيء الذي يماثل الذبابة في صغره وفي إزعاجه في نفس الوقت.
 بعض مكونات هذه الحركية الخلاقة هو هذا الحشد الهائل للأفعال، والجمل الفعلية المعطوفة التي تتوالى تترا كأنها تخرج من رشاش أفكار، ثم اختياره للأفعال المضارعة ولا يخفى ما في هذا من تحفيز ذهن القارئ وتحيينه مع اللحظة الراهنة حيث مركز الانتباه.
تعزيـــــز الفرضــــيات مرهــــــون بتمرّس الشخصيـــــة الانسانيـــــة
 الطنين هو نزوة خفية هينة، لكنها استطاعت أن تزعجه، كما تفعل ذلك الذبابة، وهي تصل به إلى « يرمي من يده هذا الكتاب «، المراد أن هذه الخفقة الغريبة والمتطفلة تشوش عليه التركيز في طلب العلم، ويعزز هذه الفرضية تعريفه لكلمة «الكتاب» وتدعيمه له باسم إشارة. الذبابة الحقيقية تموت في فصل الشتاء أو تدخل في سبات شتوي، ولكن تلك التي يقصدها الكاتب لا يؤثر فيها الجو، بالعكس، فهي تزداد شراسة في أوقات البرد، حيث تتهور لتلتصق به.
 على الرغم من أن الرمز طافح في هذه القصة، وكذلك القدرة اللغوية، إلا أن ما شدني إليها أكثر هو هذا التلطف بيد القارئ بفضل جمل مكثفة المعاني، ولكنها ميسرة عن طريق صور خاطفة تعبد له الطريق، بلغة صارمة متعرقة بمسك شطحة صوفية، تجعل من الأفكار دائرية الانسياب.. الشكل البنائي للقصة منسوج على رقصات توتر البطل، لا خروج عن الموضوع، أنفاس الحرف على قدر مقاس تنهدات المعاني، لا مجال للتعبيرات الفضفاضة التي تصلح لحالات مختلفة وأحيانا متناقضة
و للكاتب بعض الخرجات اللطيفة التي لا ينتبه لها إلا من يدقق فيها، وربما لم ينتبه لها حتى عقله الظاهري، في حين أنه قصدها بعينها، مثل (لكن الأحداث تجري في الحياة كثيرا بما لا نشتهي نحن) لينفي كلمة السفن لتكون العبارة له، ولتلامس المأساة الذات الإنسانية لا الخشب الذي يمثل الحياة الجسدية، كما أن كلمة كثيرا زادت المعنى تثبيتا وأضفت على الموقف فاجعة أشد.
العبارات المستقاة من القاموس القرآني كثيرة، نذكر منها: تسلب منه شيئا «و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه»، وعبارة «لم أفرغ لك» في قوله تعالى: «سنفرغ لكم أيها الثقلان» و»ضعف الطالب والمطلوب وقد أوردها كاملة كما هي..
السارد ناقــــل لحـــــالات حدثــــت وأخــــــرى خياليـــــة
دعك من قصة الجاحظ، فالجاحظ لم يحتكر الذباب، كما لم يحتكر الموقف بمجمله، لأنه متكرر، ناهيك من أن صورته كاريكاتورية، في حين جاءت صورة الكاتب سعد سعود شخاب صوفية وجودية.
بدا السارد مجرد ناقل لحادثة بسيطة، ولكن ما إن توشك القصة على الانتهاء، وفي لحظة ذهول، ينطق السارد منتحلا شخصية البطل المعني بهذا الانزعاج، يتحدث بضمير المتكلم دون فتح لأدوات الحوار، ربما يكشف علاقة خفية بالحادثة، أو يثبت تعاطفا وتبنيا مبطنا لموقف البطل.
لا يملك بطل القصة الوقت الكافي لمواجهة هذه الذبابة، لأن حركتها سرمدية، وطريقه طويلة، فهو يعرف أنها قد تفرغت له، لكنه لم يتفرغ لها، همت به مرارا، ولم يهم بها، هو يتوعدها بمجرد كلمات، وهي تحقق إنجازات واقعية، منها تكدير ساعات صفوه، وتعطيله عن المسير إلى مقصده، تحاول الالتصاق به، لكنه مصر على المضي إلى هدفه.. محبوبه.
بدأ قصته بمقدمة مهادنة، تتكون من سطرين توهمك أنك تستطيع أن تترك المتابعة في أي لحظة، ولكن الكاتب قد وضع لك في نصه فخاخا، فخ متانة اللغة، السرد الساحر، التصوير الأخاذ المدعم بتشبيهات آسرة، والأجواء الصوفية الصافية، ثم اعتماده على أسلوب الاستفهام في العديد من المواطن لينقل المعركة إلى وجدانك. لقد تعدى دور قاص يرتدي اللباس الرسمي، وتحول إلى محدث حميم، ممتع، و متمرس بخبايا النفس الإنسانية.