طباعة هذه الصفحة

المجاهد والسفير محمد خلادي المدعو «سي خالد» يثير خباياها

الدبلوماسية الجزائرية ذات هوية أصيلة وفي طليعة المدافعين عن الشعوب المضطهدة

سعيد بن عياد

المصالح الوطنية، مرجعية ثورة التحرير والشرعية الدولية ثوابت لا تتأثر بالظروف
إلتزام الدبلوماسي وبعد النظر يحددان مدى نجاحه في المحافل الدولية

ولدت الدبلوماسية الجزائرية مع السنوات الأولى للحركة الوطنية واشتد عودها مع اندلاع الثورة التحريرية فكانت لها منذ البداية هوية أصيلة لدبلوماسية النضال من أجل التحرر والعدالة والتضامن بين الشعوب. ولم تكن الدبلوماسية ومن تحملوا مهامها بأبسط الإمكانيات وبوسائل شحيحة خريجة مدارس أو معاهد في السياسة، إنما تمخضت عن ديناميكية أطلقها رواد النضال السياسي الذين ترعرعوا جيلا بعد جيل في حضن الوطنية الصادقة فأخذوا على عاتقهم واجب قيادة الشعب الجزائري إلى الانعتاق من الاحتلال الفرنسي وإشاعة نور الثورة على باقي المناطق التي خضعت لحقب طويلة للاستعمار.

محمد خلادي المكنى في زمن الثورة خالد وجه من الدبلوماسيين الجزائريين الذين ولدوا من رحم ثورة أول نوفمبر، فخاض مسارا طويلا في هذا العالم ليقتحمه بدون عقدة فكان على قدر المهمة. من موقع نشاطه ضمن مصالح وزارة التسليح والاتصالات العامة المتمركزة في وجدة مسقط رأسه (مدينة وجدة كانت تحتضن الكثير من الأسر  الجزائرية من مختلف مناطق البلاد الفارين من الاحتلال وخاصة الشباب الرافض لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية تحت علم دولة الاحتلال)، تفتحت أعينه على العالم الخارجي خاصة وأنه كان يتكفل بمهام ترجمة الوثائق ومتابعة ما ينشر في الصحافة العالمية وبالذات الأمريكية.
سي خالد صاحب أزيد من 8 عقود لا يزال يتذكر بأدق التفاصيل تلك المحطات التي غيرت مسيرته وقوة الثورة التي صقلت مواهبه وأهلته للقيادة أمثال بوصوف وبن مهيدي لطفي وبومدين الذين احتك بهم في الولاية الخامسة التاريخية ليكون بدل مقاتل في الميدان كما كان يأمل، ضمن الحقل الدبلوماسي والجانب الاستعلاماتي.
أولى الخطوات.. البحث عن صحفي أمريكي
كان خيط البداية عندما عثر على ورقة لجريدة نيويورك تايمز الأمريكية ضمن شحنة أسلحة مهربة تتضمن افتتاحية معادية للثورة لصحفي أمريكي نقل رواية إدارة الاحتلال حول الصورة والمجاهدين، فأخبر موصوف قائد المخابرات (مالغ) بذلك واقترح دعوة الصحفي الأمريكي للعيش أياما مع الثوار حتى يتعرف على الحقيقة فيغير نظرته. غير أن بوصوف كان على موعد مع «بوف ميري» من لوموند الفرنسية فطلب من سي خالد مقابلته فحصل اللقاء بوجدة سنة 1956 وكان الفرنسي يحمل رسالة لوقف إطلاق النار لأنها لا تستجيب لمطالب الثورة كما حددها بيان أول نوفمبر.
لكن عاد مسؤول المالغ بعد إسدائه رتبة ملازم أول ليكلف سي خالد بالبحث عن الصحفي الأمريكي واسمه «جوزيف كرافت» ودعوته لزيارة الثورة، وقد تحقق هذا بعد مغامرة دامت فترة، حيث قضى شهرا في مناطق بني سنوس وأولاد ميمون ومواقع عديدة للثوار، غير أن ما كتبه بعد تلك الرحلة لم ينشر على صفحات جريدته فصمم على نشرها في مجلة «ساتردي افنينغ بوست» الأسبوعية المخصصة للمشاهير.
كينيدي الذي كان سيناتورا يومها قرأ المقال واكتشف الحقائق المذهلة ليتبلور لديه موقفه التاريخي الشهير بإدلائه علانية بتصريح في 2 جويلية 1957 يعلن تأييده لحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، وهو ما أحدث زلزالا في صفوف المسؤولين الفرنسيين، كيف لا والقضية تسللت إلى الرأي العام الأمريكي واقتربت من مقر الأمم المتحدة يوضح الدبلوماسي خلادي، الذي شق طريقه في كواليس الدبلوماسية التي مارسها في مناطق الكراييب وأمريكا اللاتينية، حيث كان دائم الحضور وفعال النشاط تجاه الدول لشرح الموقف الجزائري.
لقاء بومدين مع فيصل أزعج الكثيرين
هذا الرصيد الخالص أهله ليكون دبلوماسيا نشيطا، فاشتغل بعيدا عن الأضواء واضعا المصالح العليا للجزائر في بوصلة عمله حيثما حط الرحال. ويؤكد هنا بشكل دقيق أن المصالح الوطنية للدول تكمن في جوهر الدبلوماسية، موضحا أن الدبلوماسية الجزائرية لا تزال تتميز، منذ تأسيسها، بصلابة المواقف المستمدة من روح الثورة التحريرية، وترفع عاليا مواقف تقرير المصير، مساندة حرية الشعوب المستعمرة، رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول، التضامن الإنساني وحلّ النزاعات بالطرق السليمة والسياسة.
وأهلها ذيع صيتها في العالم قاطبة لتتحول بدورها إلى مدرسة للدبلوماسية في خدمة العالم الثالث خاصة على مستوى البعثة الدائمة للجزائر لدى منظمة الأمم المتحدة حيث استفاد الكثيرون من مبعوثي الدول المتطلعة للحرية والإنعتاق من الاستعمار من التجربة الثورية الجزائرية واستمر ذلك النهج بعد الاستقلال وإلى اليوم حيث لا تزال الجزائر عاصمة لدبلوماسية السلام والتضامن.  
ويضيف محدثنا أن القوة التي اكتسبتها خلال سنوات الثورة من خلال نسج علاقات قوية مع مختلف الدول من كل جهات العالم مكنتها من ترسيخ صورة أصلية لدبلوماسية شاملة تنتهجها الجزائر دون تغير في المسار أو انحراف لبوصلتها، فكانت تتصدى للنزاعات والصدمات والأزمات بكل ثبات ووضوح للرؤية بعيدا عن أي أنانية أو تلاعب أو مناورة.
ويحتفظ سجل الدبلوماسية الجزائرية بعناوين لمواقف لا تزال بصمتها بادية إلى اليوم، ويتذكر خلادي، الذي يتقن الانجليزية، بفخر كواليس ترتيب اللقاء التاريخي بين الراحلين الرئيس بومدين والملك السعودي فيصل سنة 1969 وكان اللقاء يومها حدثا تصدر الصحافة الدولية، كون اجتماع قوتين بهذا الحجم الثوري والنفطي يزعج لا محالة أكثر من عاصمة، خاصة وأن النفط كان في جوهر العلاقات الدولية وفي قلب النزاعات.
محطّات للوساطة بين كبار العالم
كانت صورة للدبلوماسية الاقتصادية الواقعية ذات المعالم المستقبلية بوضع مصلحة الشعوب في صلب الاهتمام الدولي وتحمّل الضغوطات الدولية وامتصاص مناورات الشركات متعددة الجنسيات انطلاقا من ثوابت وقناعات لها مرجعية راسخة وتندرج في البعد المستقبلي ضمن إطار القانون الدولي خاصة ما يخص حق الشعوب في استغلال ثرواتها والانتفاع بها أو ما يعرف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وبالفعل أعقب ذلك العديد من المحطات الدولية والعربية البارزة التي سجلت فيها الجزائر مواقف لا يمكن تجاوزها أو إغفالها، مثل اجتماع منظمة البلدان المصدرة للنفط «أوبيب» وما تمخض عنه من صدمة بترولية هزت العالم ومؤتمر عدم الانحياز. ناهيك عن النشاط الدؤوب وغير المنقطع الذي قاده وزير الخارجية الجزائري في تلك السنوات عبد العزيز بوتفليقة.
في الجزائر تأسست وبشكل كبير دبلوماسية الوساطة الحديثة لما حقق بومدين المصالحة بين إيران والعراق وأعاد الدفء إلى قناة التواصل بين الشاه وصدام مسجلا التوقيع أمام العالم على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وإبطال مفعول حرب كانت توشك أن تندلع، ويذكر محدثنا مثل هذا المثال للتأكيد على مدى العمل السياسي والدبلوماسي الذي تحملته الجزائر في كافة المراحل من أجل تنمية مناخ السلام والتنمية.
ويكشف خلادي في هذا الإطار عن إنجاز نوعي وإنساني لوساطة قامت بها الدبلوماسية الجزائرية بعد حرب فيتنام التي انهزمت فيها أمريكا وفقدت الكثير من أبنائها واهتز الرأي العام الداخلي لهول المفقودين خاصة الطيارين، حيث توصلت الجزائر في تلك الفترة إلى الحصول من فيتنام على قائمة دقيقة للطيارين الأمريكان الذين قتلوا أو أسروا في فيتنام لتسلمها إلى دولة الولايات المتحدة الأمريكية. وتجدد إنجازها للوساطة في أكثر من مناسبة منها تحرير الرهائن الأمريكان المحتجزين في إيران بعد أن أسقطت ثورة الخميني نظام الشاه.
نضال أكثر من وظيفة
وواجه الدبلوماسيون في سنوات السبعينات خاصة، مواقف محرجة من بعض الأوساط التي عن جهل أو سوء نية كانت تربط بين فعالية الدبلوماسية الجزائرية والنفط المزدهر حينها. ويتذكر خلادي كيف أن سفير تونس بإسبانيا في تلك الفترة قال له» أنتم تمارسون دبلوماسية البترول»، لكنه يجهل أو يتجاهل، كما يوضح سي الطاهر، أن أجور الدبلوماسيين الجزائريين في سنة 1977 كانت في الترتيب ما قبل الأخير ومن ثمة ليست كما كان يعتقد صاحبنا إنما هي دبلوماسية نضالية تتجاوز بكثير إطار الوظيفة. وكان في آخر القائمة من حيث الجوار دبلوماسية الكيان الصهيوني الذين يستفيدون من دعم جاليتهم من خلال أطر تضامن مختلفة.
وبخصوص قوة الدبلوماسي في الإقناع وترسيخ الموقف، أجاب أن المشكلة تكمن في درجة الثقافة التي يتمتع بها الدبلوماسي فكلما كان واسع الاطلاع ومتبصر الرؤية كان فعالا ولذلك ينبغي كما يؤكد أن تحظى الثقافة الواسعة بأهمية في التكوين الدبلوماسي الحديث ليكون المشتغل في هذا الحقل، المرن والمتغير دوما والمرتبط بمصالح حيوية للدول، احترافيا فيحقق التفوق في الدفاع عن مصالح بلاده. وللتاريخ مكانته البارزة لبناء تراكم المعارف والمعطيات، كما أن للاحتكاك بين الأجيال أثره في بناء شخصية الدبلوماسي قصد إجادة قراءة المؤشرات وتمحيص المواقف وتحليلها قصد إيجاد المنافذ لتأمين المصالح الوطنية يقول المجاهد والدبلوماسي محمد خلادي.