طباعة هذه الصفحة

المجاهـد محمـد غفـير المدعـو “مـوح كليشــي”:

56 سنة على مجازر ظلت وصمة عار في تاريخ فرنسا

دوبـري، بابـون، جــول فـــــيري وديغــول المسؤولون المباشرون عن جريمة 17 أكتوبر

 80  ألف مهاجر جزائري مهيكلون في صفوف جبهة التحرير الوطني
                                                       

17 أكتوبر 1961 - 17 أكتوبر 2017، 56 سنة مرت على المظاهرات التي اصطلح على تسميتها المؤرخ الفقيد جون لوك إينودي بـ “معركة باريس” والتي تعد معركة كبيرة ومحطة من المحطات الكبرى للثورة أبطالها كانوا المهاجرين الجزائريين الذين لم يتأخروا، في تلبية نداء قادة جبهة التحرير الوطني للخروج في مظاهرات سلمية للتعبير عن رفضهم للاحتلال، وإخبار الرأي العام الفرنسي والعالمي أن هناك شعب اغتصبت أرضه ونكّل به، ومطلبه الوحيد هو استرجاع سيادته كاملة لا منقوصة. هذا ما أبرزه المجاهد وعضو فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا محمد غفير المدعو “موح كليشي” لدى نزوله ضيفا على جريدة “الشعب”، كونه كان أحد المسؤولين بمقاطعة كليشي، وشارك في توعية وتنظيم المناضلين للتحضير للمظاهرات.

المجاهد غفير فضّل سرد الأحداث بطريقة كرونولوجية وبالتفصيل، قبل بداية المظاهرات التي لم تأت اعتباطا وكعادته لم يفوت لا صغيرة ولا كبيرة سعيا منه لمحاربة ثقافة النسيان، وحرصا على نقل الوقائع التاريخية بكل أمانة وبدون تزييف كي يستوعبها الشباب، ويدركوا حجم تضحيات الأجداد الذين تصدّوا بشجاعة لهمجية الاستعمار الفرنسي، يدفعه في ذلك حب للوطن وغيرته على التاريخ، وبطبيعة الحال هو كان من المسؤولين الذين صنعوا الحدث بطريقة منظمة بمقاطعة كليشي وضواحي باريس.
أوضح موح كليشي أن البداية للتحضير لمظاهرات الـ 17 أكتوبر 1961، كانت حين ألقى الجنرال شارل ديغول خطابا أمام الاقدام السوداء بعد قدومه إلى السلطة سنة 1958، مفاده أن الجزائر فرنسية من داكار إلى تمنراست، ما أثار حفيظة لجنة التنسيق والتنفيذ الذين قاموا بالرد عليه عن طريق فرحات عباس عضو اللجنة في تصريح له من القاهرة قائلا: “جبهة التحرير الوطني قررت نقل الحرب إلى أرض العدو”، بعدها تم الاتصال بفيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا.
وأشار إلى أنه، بعد اغتيال الشهيد البطل العربي بن مهيدي انتقل عبان رمضان وسعد دحلب إلى المغرب، وقام عبان بتعيين عمر بوداود للإشراف على الفيدرالية كي يبقى النظام متماسك، لكن أعطيت له أوامر بالذهاب الى ألمانيا تجنبا من إلقاء القبض عليه مثل بن مهيدي، وتحضير أنفسهم لنقل الثورة الى عقر دار العدو وكان ذلك في 10 جوان 1957. وهي النقطة الاساسية التي ركز عليها عبان باسم لجنة التنسيق والتنفيذ.
 وهو ما تمّ بالفعل، بحيث بقي عمر بوداود بألمانيا من 1957 إلى 1962، ونفذت فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا أرضية الصومام التي نصت على ثلاث أهداف محددة وهي هيكلة كل الجالية الجزائرية بأوروبا وإشراكهم في دعم الثورة، الدعم المالي للثورة، وتنوير الرأي العام الفرنسي والعالمي، وطبقت الأوامر بحذافيرها.
علما أن سنوات 1955، 1956 و1957 كانت صعبة بالنسبة لمناضلي جبهة التحرير الوطني بحكم الخلافات مع المصاليين، وبتواطؤ ودعم من الشرطة الفرنسية للطرف الآخر، لكن مع نهاية 1957 تمكن مناضلو الجبهة من القضاء عليهم وبقي فقط الجزائريون الشرفاء الذين ساهموا في دعم ميزانية الثورة ب80 بالمائة حسب إحصائيات أحمد فرنسيس، و80 ألف مهاجر جزائري مهيكل في صفوف جبهة التحرير الوطني بفرنسا.
ولم يفوّت المجاهد غفير الفرصة للإشادة بالدعم والمساعدة الكبيرة التي قدمها المثقفون الفرنسيون مثل شبكة كوريال وجونسون، وبيان 121 الذين ساهموا في التعريف بالثورة وتسهيل نشاط مناضليها.
150 فدائي متطوع بفرنسا أرسلوا إلى المغرب وألمانيا للتدريب على استعمال الأسلحة مدة شهرين، تحت إشراف رئيس المالغ عبد الحفيظ بوصوف، بحيث قاموا بأول معركة أو ما اصطلح على تسميتها الجبهة الثانية في 25 أوت 1958 استهدفت معامل تكرير البترول بفرنسا أولها معمل “موري بيان” بمرسيليا، وذلك على الساعة منتصف الليل، تلتها عمليات أخرى استهدفت عشر مصانع تم حرقها، قال ضيف منبر “الشعب”.
ليعود بنا الى الوراء بقليل للحديث عن واقعة أخرى في 1 سبتمبر 1958، حين قام محافظ الشرطة الفرنسية موريس بابون الذي كان بقسنطينة وأحضره الوزير الأول دوبري بمنع حظر التجوال على الجزائريين بباريس وضواحيها، وأمر بقتل كل شخص له ملامح عربية وقد راح ضحيتها حتى الاوروبيون من جنسيات اسبانية وايطالية، لأن لهم نفس ملامح بعض الجزائريين ما خلق ضجة في وسائل الاعلام الفرنسية فتم توقيف حظر التجوال، كما أن السفاح بابون أحضر معه من قسنطينة 500 حركي، ووزعهم في بارباس بلباس خاص وبمرافقة الشرطة الفرنسية فأصبحوا مرتزقة يقتلون إخوانهم، لكن استطاع مناضلو الجبهة القضاء عليهم، ولم يتوقف نشاطهم الفدائي.
وفي 15 سبتمبر 1958 قام ثلاث فدائيين بعمل جبار ضد وزير الاتصال جاك سوستال بقلب باريس بالتحديد بساحة النجوم، بعد إطلاقهم وابل من الرصاص على هذا العنصري لكنه نجا من الاغتيال تعرض فقط لجروح، بالمقابل أظهرت تلك العمليات الفدائية للعدو أن جبهة التحرير قوية ويمكنها الضرب في أي مكان، بحيث أعطت هذه العملية فرصة للجنة التنسيق والتنفيذ لتأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 19 سبتمبر 1958، وفي 15 سبتمبر من نفس السنة قام ديغول بتغيير تصريحه بالحديث لأول مرة عن تقرير المصير، وفي 9 سبتمبر 1960 بعين تيموشنت قال عبارته الشهيرة “الجزائرية جزائرية”.
بابــــون يأمـــر 7 آلاف شرطي و1500 دركــــي بقمــــع الجزائريّــــــين
في 5 أكتوبر وضع حظر التجوال الثاني، بحيث أحضر بابون 7 آلاف شرطي و1500 دركي وشرطة بلباس مدني لقمع الجزائريين، لكن قادة جبهة التحرير أعطت أوامر بعدم الخروج وفي 7 أكتوبر 1961 راسل مسؤولي المقاطعات الفرنسية قادة الثورة المتواجدين بألمانيا، بتقديم طلبات وانتظار الاقتراحات، وكان الرد من القيادة في 12 أكتوبر 1961 التي طلبت من مسؤولي الضواحي الفرنسية تحضير أنفسهم ليوم الـ 17 أكتوبر بإعلام كل المناضلين بضرورة خروج كل فئات الجالية في مسيرة سلمية دون حمل أي سلاح أو أداة والسير في باريس الوسطى، بحيث جنّد موح كليشي أكثر من 20 ألف مناضل في الولاية الاولى لتطبيق أوامر النظام. وكان رد السلطة الفرنسية بتنصيب الشرطة في كل مداخل الميترو وإلقاء القبض على كل جزائري ووضعه في الحافلة، بحيث كانت ليلة 17 اكتوبر دموية بحق وقمع لا مثيل له حسب شهادة المجاهد غفير.
وبحسب إحصائيات المؤرخين الفرنسيين، فإنّه تم القبض على 12500 جزائري، أما عدد الموتى فلا توجد إحصائيات دقيقة بشأنها. ونشير هنا إلى فرقة الشرطة الجمهوريين قدمت شهادتها حول ما وقع في تلك الليلة من قمع رهيب، مؤكدة أنه تم تكبيل الجزائريين ورميهم في نهر السان والبعض الآخر تم حرقهم ليلا وآخرون تم شنقهم وتعليقهم على الأعمدة والجسور، في حين أرسل البعض الآخر للجزائر وتم رميهم في البحر، وهذه الشهادات اعتمد عليها المجاهد غفير في تدوين كتابه حول مظاهرات 17 أكتوبر 1961.
بالمقابل، أعطت نقابة الشرطة الفرنسية معلومات مفادها، أن دوبري، بابون، جول فيري وديغول هم المسؤولون المباشرون عن جريمة 17 أكتوبر وينبغي معاقبتهم، لأنهم ألقوا بـ350 جزائري في نهر السان وهناك من جردوا من هويتهم ثم قتلوا، وقد تحصل المؤرخ جون لوك إينودي على أسماء الموتى من المستشفيات ومصلحة الجثث.
في اليوم الموالي قام التجار بإغلاق محلاتهم، وفي 19 أكتوبر 1961، خرجت النساء بأمر من قيادة جبهة التحرير الوطني وتوجهن نحو محافظات الشرطة، السجون ومراكز التجميع للمطالبة بإطلاق سراح أزواجهن والمناضلين، ورفع شعار تحرير الجزائر. وبحسب موح كليشي، فإن المناضلين كانوا يجتمعون في الميترو ويتبادلون المعلومات كي لا يشك العدو فيهم، واصفا باريس بعاصمة مجزرة الإنسان وليس حقوق الانسان.
تخليدا لذكرى العديد من الجزائريين الذين قتلوا أثناء القمع الدموي للمظاهرات السلمية، التي قاموا بها يوم 17 أكتوبر 1961، لوحة تذكارية وضعها رئيس بلدية باريس بارتران دولانو عند جسر سان ميشال بمناسبة الذكرى الأربعين لمجزرة 17 أكتوبر 1961 بباريس. ونحن ماذا قدمنا لهؤلاء الذين ضحوا من أجل الجزائر في عقر دار العدو؟.