إن من أخطر الأسلحة الفتاكة التي يستعملها الشيطان ليوغر القلوب بين الناس، الشقاق والخلاف، والتقاطع والهجران وافساد العلاقة بين المتحابين، فيعمل على أن يفصل بينهم بعد اتحاد، ويتنافروا بعد اتفاق، ويتعادوا بعد أخوة وحب.
ولقد اهتم الاسلام بمسألة احتمال الشقاق والعداوة بين الناس باعتبار أن الشيطان يسعى لوقوع ذلك وهو الذي اتخذ على نفسه عهدا ليحتنكن ذرية آدم ويحّرش بينهم بعد أن آيس من أن يعبدوه، فلما كان الأمر كذلك اهتم الاسلام بمسألة معالجة الخلاف وذلك عن طريق الصلح والمصالحة واعتبر إصلاح ذات البين عبادة جليلة وخلقا جميلا يحبه الله ورسوله وهو خيرُُ كله “والصلح خير”. “سورة النساء”
فبالاصلاح يصلح المجتمع وتتآلف القلوب، وتجتمع الكلمة وينبذ الخلاف وتزرع المحبة والمودة بين الناس ويعتبر الاصلاح في الاسلام عنوان الاخوة الصادقة حيث قال تعالى: “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم” سورة الحجرات، ولأهمية إصلاح ذات البين نجد أن الله تعالى أمر به في القرآن على سبيل الوجوب، فقال: “فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين” سورة الأنفال.
اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم في حق من يقوم بها ويسعى فيها بين الناس أفضل من الصلاة والصدقة والصيام في النافلة، فقال عليه الصلاة والسلام:« ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة؟ قلنا بلى يا رسول الله قال:« اصلاح ذات البين”.
فانظر الى عظمة الاسلام كيف يتشوّق الى الصلح ويسعى له وينادي إليه ويحبّب لعباده درجته فاعتبر أنه خير كله و« الصلح خير”، وأنه أجاز حتى الكذب للاصلاح بين أهل الخصومة فقال عليه الصلاة والسلام: “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا”.
صحيح أن الخلاف أمر طبيعي بين الناس وهذا أصل في الجبلة التي فطروا عليها، فقد يكون بين الأخ وأخيه والأب وابنه والجار وجاره والزوج وزوجه، وهذا لا يزعج في شيء لأن الله قال: “ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” سورة هود.
حصل الخلاف حتى مع أفضل الناس وأزكاهم عند الله وهم الصحابة كحادثة بلال وأبي ذر الغفاري، حين قال له بعد مشاداة كلامية يابن السوداء ولكن ذلك لم يكدّر صفو المودة والمحبة بينهم لاسيما بوجود المصلح الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك لما وشىّ شماس بن قيس اليهودي بين الأوس والخزرج وذكرّهم بحالهم في الجاهلية بعد مارأى منهم مارأى من التجانس الأخوي والحب المتبادل والإيثار الخارق، غاظه ذلك الأمر وحاول أن يشعل بينهم الفتنة ليتقاتلوا، وفعلا تصافّى القوم صفين وكادوا يتقاتلون بالسلاح ولكن خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ونصحهم وتذكيرهم بنعمة الاخوة التي جاء بها الاسلام تصالحوا وتعانقوا وفوّتوا على الشيطان وأوليائه منيته وأفسدوا عليه عرسه، ورجعوا الى رشدهم وأعلوا بنيان ربّهم ورصّوه رصًا.
وبما أن عملية الصلاح تكتسي أهمية عظيمة، وهي في نفس الوقت مهمة خطيرة قد تتحول الى عكس ما يريده المصلح فإنما تتطلب شروطا وآدابا يتأدب بها من يريد مزاولتها ومن أعظم هذه الشروط والآداب:
١ - الاخلاص في النية لله تعالى فلا يبتغى من ورائها مالاً ولا جاهًا أو رياءً أو سمعة وإنما يريد وجه الله فقط “ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نوتيه أجرا عظيما” سورة النساء.
٢ - وعليه أيضا ان يتحرّى العدل حتى يقع في الظلم فلقد أمر الله بذلك فقال: “فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، ان الله يحب المقسطين” سورة الحجرات.
٣ - وليكن المصلح يملك العلم الشرعي الذي به يعرف كيف يدخل الى ميدان الصراع وذلك بالسماع للطرفين وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام بل لابد عليه من التريث.
٤ - كذلك على المصلح ان يختار الوقت المناسب للصلح بين المتخاصمين بمعنى أن يترك القضية حتى تبرد وتخف حدة النزاع وتنطفئ نار الغضب ثم بعد ذلك يصلح بينهما.
٥ - والأهم من هذا التلطف في العبارة ومحاولة ذكر خصال كل واحد من المتخاصمين على سبيل الحمد والثناء على الطرفين وتذكيرهما بأهمية الاصلاح والتحذير من فساد ذات البين التي هي الحالقة للدين، إذا نستطيع القول ان إصلاح ذات البين تعد الركيزة الأولى في إبقاء قوة المجتمع متماسكة، وأن ينظر إليها المسلم على أنها طريق نحو المحبة والإخاء، وليعمل كل واحد منا على أن يرجع المياه الى مجاريها وأن نصلح بين بعضنا البعض ما استطعنا الى ذلك سبيلا، ولاينبغي أن نترك الفجوات بيننا تغير وتزداد سوءا ولنعلم ان أعمال المتشاحنين ترد عليهم حتى يصطلحوا فيما بينهم وخيركم الذي يبدأ بالسلام.
الأمانة حياء وصدق تدل على مستوى الايمان والخوف من الله تعالى
إن من الأخلاق التي ترتبط بالحياء وتدل عليه خلق الأمانة وأدائها ، وهي خلق عظيم تدل على مستوى ايمان المرء وخوفه من الله تعالى، وخوفه من العواقب التي تنتظره، وبالحياء من الله يدفعه ضميره من الداخل الى إيصال الأمانة وأدائها الى أهلها، فلا إيمان لمن لا أمانة له.
كانت الأمانة خلقا للأنبياء والمرسلين، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلّقب بالصادق الأمين قبل البعثة وكان كفار قريش يتركون عنده ودائعهم الثمينة وعند الهجرة أوكل الى علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه - بأن يرد الأمانات الى أهلها وفعل.
جاء القرآن بالحث على أداء الأمانة وحفظها ونهى عن خيانتها فقال سبحانه: “إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى أهلها” سورة النساء، وقال أيضا: “يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون”.
أعظم الأمانة أمانة الله في دينه والمتمثلة في عبادته وطاعته المطلقة وعدم الاشراك به، وهي العهد الذي أخذه سبحانه على الانسان الأول منذ خلقه فقال تعالى: “وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم قالوا بلى شهدنا” “سورة الأعراف.
ثم تليها الأمانة في تولي المسؤوليات، وذلك باسنادها أهلها وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص فيها، ونبذ الاستغلال والتعسف في استعمال سلطتها، فهي أمانة عظيمة وخزي وندامة يوم القيامة فكل مسؤول سيسأل يوم القيامة عن تبعاتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فمن أهمل حق الناس في إدارة شؤونهم، فهو شخص في ميزان الاسلام فاقد للحياء من الله تعالى.
ثم تأتي بعد أمانة الله وأمانة المسؤولية الأمانة في رد الودائع لأهلها وعدم السطو عليها كأن يجد الانسان لقطة ما معتبرة فعليه ان يشهّر بها ولا يستولى عليها ظلما وعدوانا، وكذلك اذا إستلف شخص ما مبلغا من المال أو مما ينتفع به فإن الحياء يطالب هذا المسلم بأن يؤدي الحق لأهله وإلا هو مخادع ماكر لا يستحي من الله ولعله تحول الى منبوذ في المجتمع بسبب هذا التصرف المشين.
والحقيقة ان هذا السلوك أصبح عنوانا لكثير من الناس في هذا الزمان فلا يهمهم أكل أموال الناس بالباطل والتحايل عليهم المهم ان يشبع رغبته وغريزته.
وأخيرا هناك الأمانة التي تتعلق بالأحوال الشخصية فيما يتعلق بين الزوج وزوجه حيث لا يحل لكل منهما ان ينشر السر الذي بينهما لسيما في العلاقة التي بينهما ومن يفعل ذلك فإنه مجرد من خلق الحياء ووقع في الخيانة والعياذ بالله.
إذا الأمانة خلق عظيم يدل على حياء المسلم وايمانه وان خيانتها دليل على عدم الحياء وانعدام الايمان في قلبه فلقد قال عليه الصلاة والسلام: “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لاخُلق عنده”.