طباعة هذه الصفحة

التّاريخ من أفواه صانعيه

نور الدين لعراجي
03 جويلية 2018

سيظل التاريخ من أفواه صانعيه المادّة الحيّة التي لا يشوبها أدنى شك، باعتبارها الحقيقة التي لا يمكن أن نجدها بين رفوف المكتبات ولا بين روايات المؤرّخين، ولا يمكن المساس بها عند تسجيلها لأول مرة بين أيدي من هم أعداء للتاريخ وللذاكرة، وهم من دون أدنى شك أعداء الوطن بامتياز.
 الكثير من الأصوات تحاول في كل مرة الاستنجاد بفرنسا الاستعمارية، طالبة منها منحنا الأرشيف المتعلّق بالثورة، دون أن يدري هؤلاء عن أي أرشيف يتحدّثون، ذلك لأن المستعمر بالأمس كان يمثل إدارة فرنسية وهي نفسها الإدارة الفرنسية التي كانت موجودة، ولكنها بوجه مخالف ومغاير.
ببساطة إذا حاولنا تحليل معادلة الاستدمار لوجدنا أن هناك ثلاثة أشياء أساسية كانت من بين الأسباب الكبرى لاستعمار الجزائر، وليس هناك غيرها، وكل ما قيل في هذا الشأن هو سابق لأوانه، وما حدث من مجريات أخرى عقبت الأحداث، كانت لابد لها أن تضع في ذلك السياق بتزامن الأحداث وتعقبها.
من بينها في الشق الأول، الطمع في الخيرات الاقتصادية الظاهرة والباطنية للأراضي الجزائرية، من معادن نفيسة وثمينة، إلى جانب الغاز والطاقات، والقمح بلونيه الأصفر والأخضر.
ثانيا الموقع الجغرافي الذي تتربّع عليه الجزائر، إذ يعتبر من بين أهم مساحة في المغرب العربي وفي إفريقيا، وفي عرض واجهة ضفتي المتوسط، ويمتلك كل المقومات السياحية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
ثالثا وهو الأهم من ذلك محاولة فرنسا الاستعمارية طمس الهوية الوطنية، ومحو آثارها من الوجود الانساني والهوياتي بإدخال النعرات وزرع الأساليب الاستيطانية بين فئات المجتمع كالتفرقة والعروشية والقبلية والصراع الاثني والطبقي، وحتى وإن استطاعت إلى فترة قليلة من استدراج بعض هذه الفئات إلى صفوفها كالباشاغات والقياد والحكام
«جمع حاكم»، ثم الحركى والقومية في وسط الثورة، لكنها منيت بشر هزيمة لم تشهدها الامبراطوريات، أو عفوا الجمهوريات الفرنسية في عهودها السالفة.
إنّ أهم خطوة وضعتها فرنسا الاستعمارية بين صفوف أبناء الشّعب، ومازالت خيباتها إلى حد اليوم نجني بعض آثارها الجهنّمية، لكنها في الأخير لم تستطع إركاع هذا الشّعب طول هذه المدة الطويلة من الاحتلال التي قاربت القرن ونصف من الاضطهاد والاستغلال والقتل والتشريد.
لذلك إن الايمان بالقضية لا يستدعي إلاّ أمرين أو خيارين لا ثالث لهما، وهما إمّا النصر أو الشهادة، وهما مكبحا القاطرة التي تمّ وضعها في أول بيان أول نوفمبر رسم معالم أعظم ثورة في التاريخ، وخاب حكم فرنسا ومن ورائها.
 ما يمكن أن تمنحه فرنسا بالأمس أو اليوم، قد يتعلق بالخرائط الجهنّمية التي من خلالها زرعت الألغام على طولي خط شال وموريس، ومازال إلى اليوم يحصد ضحاياه من المواطنين العزل ومن كل الفئات، قائمة الشّهداء الذين يجهل إلى الآن أسماءهم ومكان دفنهم، ناهيك عن قائمة العملاء والحركى الذين استطاعت القوة الاستعمارية طمس وتهريب بياناتهم، بعد معاهدات ايفيان، وبقيت الأسئلة الى حد اليوم مطروحة.
أما ما يتعلق بالجزائر كمصير وتاريخ وكفاح وقهر للغطرسة الاستعمارية، لا يمكن أن يجمع إلا من عند صانعيه الأوائل أولئك الأشاوس الذين كانوا في الخطوط الأمامية للمعارك الطاحنة في مجابهة أكبر قوة استعمارية في العصر الحديث.
الشّهادات من أفواه صانعي هذه الملاحم لهو زبدة القول والحقيقة، التي لا يشوبها أدنى شك، مهما حاولنا تغييبها، فإنّنا عبثا إذ نحاول فقط، وشهادات لا يحضر فيها هؤلاء لا معنى لها، قد لا تمنح أو لن تضيف شيئا، ولا أية سلطة تأريخية تحملها كأمانة للأجيال القادمة.
خذوا الشّهادات من أفواه صانعيها، قبل أن يعبث بهم الزمن، كما عبث السن بأعمارهم والمرض.