طباعة هذه الصفحة

54 سنة على التفجيرات النووية برقان

«الشعـب» تنقل شهادات النّاجين من الجـريمةالفرنسية

أدرار /فاتح عقيدي

«اليربوع الأزرق» لازال يخلّـــــف ضحـــــــايـا وأمـــــراضــا

في يوم 13 فبراير 1960 فجّرت فرنسا أول قنبلة نووية لها بالصحراء الجزائرية بمنطقة حموديا، على بعد 60 كلم جنوب رقان بولاية أدرار بأقصى الجنوب الغربي الجزائري. وتعتبر القنبلة النووية الفرنسية برقان 03 أضعاف القنبلة النووية بنكازاكي وهيروشيما، اشتغل بها 6500 فرنسي، وكان أزيد من 42 ألف من سكان المنطقة عمال بسطاء وفئران تجارب في مسرح الجريمة. كيف؟ ومتى؟ في هذا  الاستطلاع الذي قامت به «الشعب» بعين المكان.

 

أوضح الأستاذ ختير الصافي، باحث في التاريخ لـ«الشعب»، أنّ فرنسا كانت تعتبر الصحراء ولاية خاصة بها بداية من الأربعينات من 1949 وصولا إلى 1956 بعد اكتشاف البترول، حيث أصبحت تسعى جاهدة إلى جعل الصحراء من المناطق الخاصة بها، ولذلك جاء مشروع فصل الصحراء، بدليل أنّ قادة الثورة والشعب رفضوا مشروع التجزئة جملة وتفصيلا، حيث أصبح المشروع فاشلا، لأجل ذلك جعلت فرنسا من الصحراء فضاءً واسعا وقاعدة عسكرية. فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية خرجت منكسرة وأرادت أن تبني مجدها على مستعمراتها، سواء في آسيا أو في إفريقيا، وخاصة الجزائر. ومن هذه المشاريع الإستراتيجية التي كانت تسعى إليها جاهدة التفجيرات النووية، حيث أشرف عليها الجنرال «بوشالي» بتحديد الاطار الزماني ، وسمي المشروع العسكري الذي يتمثّل في مناطق التنظيم الصناعي الإفريقي.
وبالنسبة لاختيار منطقة «حموديا»، أوضح ختير الصافي أنّه وحسب شهادات لمصادر شفوية أنّ أول ما بدأت به فرنسا آنذاك هو إنجاز المطار سنة 1957، وبعدها صرّح الجنرال ديغول قائلا بعد الوصول إلى الاختراعات الناجحة في المجال النووي الذري: «...مرحبا بفرنسا»، ردّدها ثلاث مرات في وسائل الإعلام، وذلك يعني أنّ فرنسا سيكون لها بعد مدة امتلاك قنبلة نووية مثل ما هو عليه الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، وبالتالي أصبحت بهذا العمل المنطقة صناعية عسكرية مثل منطقة «تنفوشاي»، «حما قير» ومنطقة «واد الناموس»، بحيث أنّ معظم الصحراء أصبحت مناطق عسكرية، وكل هذا لتظهر فرنسا أمام الرأي العام على أنّها قوة عسكرية عالمية وكقوة رادعة للثورة الجزائرية.

أسباب سياسية، استراتيجية وعسكرية وراء اختيار رقان

 ومن جهته، أوضح الدكتور محمد حوتية، أستاذ جامعي بقسم التاريخ بجامعة أدرار لـ «الشعب»، أنّ أسباب اختيار منطقة رقان مسرحا لجريمة ضد الإنسانية بمنطقة حموديا برقان، يعود لعدة أسباب سياسية، استراتيجية، عسكرية واقتصادية، حيث أنّ الزائر لمنطقة رقان والملاحظ لموقعها على الخريطة يكتشف كل هذه الأسباب، حيث أنّه من المطار العسكري إلى حموديا يوجد تقريبا 30 كلم أرض  منبسطة. هذا من جهة، ولكي يتمكنوا من الاتصال المباشر مع باريس، وبدأت الاستعدادات لهذه الجريمة منذ 1957، حيث حضّرت كل اللوازم اللوجيستية لمدة 03 سنوات.
وأوضحت إحدى شهود عيان أنّها رأت ضوء قويا، حيث تشقّقت وتصدّعت كل أسطح وجدران المنازل، وأكّدت المتحدثة أنّه توفي جمع غفير من المواطنين آنذاك، حيث «مات أبي وأمي وأخي وأقاربي وغيرهم من المواطنين».
من جهته، أوضح لنا رقاني محمد بن هاشم، شاهد عيان وكان يشتغل بمصلحة العيون بالقطاع الصحي الفرنسي الوحيد سنة 1956، «أنّ فرنسا جاءت إلى رقان سنة 1957 حيث كانت موجودة آنذاك قاعة علاج واحدة ليتغيّر الأمر ويصبح لها عيادة طبية يسيّرها طبيب يدعى «بوشو»، حيث بقيت أعمل معه إلى سنة 1958 حيث حطّت برقان قاعدة عسكرية وأتى إلى المنطقة حوالي 4000 جنديا، أصبحوا يتردّدون على القاعدة العسكرية، حيث أنشأت فرنسا عديد الهياكل والمرافق، على غرار مطار وقاعدة عسكرية ومستشفى كبير بسعة 240 سرير، وكان يسيّر هذا المستشفى الطبيب «بيرنو». كل هذا حدث قبل انفجار القنبلة النووية. وفي 1960 جاء لرقان عدد هائل من الجنود والمهندسين، حيث منحونا جناحا في هذا المستشفى للقاعدة العسكرية، وكانت تسمى هذه المنطقة بالتارقية، حيث كنت أذهب مع القبطان لعمل دورية في القصور المجاورة من زاوية كنتة إلى رقان وكنّا نفحص المواطنين. وفي فيفري 1960 وزّعوا علينا أزيد من 1000 علبة من البلاستيك، توزّع على المستخدمين  وتوضع في الرقبة تدعى سكوبيدو، وتحتوي على جهاز قياس له علاقة مباشرة بالقنبلة النووية».
شهادات من عمق الجرح

أمّا الشيخ عمي «الحاج حمو» بتلولين بزاوية كنتة شيخ أنهكه المرض، استذكر معنا كيف استغلّه الفرنسيون كونه عامل مهني اشتغل لمدة عامين بمنطقة حموديا برقان، وقال: «...كنت أعمل بمنطقة التارقية، حيث جاء الفرنسيون بالقنبلة وحفروا الأرض ووضعوا فيها الحديد والاسمنت المسلح وكنّا نحفر في شكل ورشات مخصّصة للبناء، ولما انتهت عملية الحفر قاموا بإدخال كوابل كهربائية فيها، وقاموا بطلائها بالنحاس، ووضعوا بها بابا واحدا وجهّزوها بكافة المعدات والوسائل الضرورية، ومنعونا من التقرب منها وأحضروا بعد ذلك مجموعة من المواطنين، المعز والأرانب، وأخبرونا بموعد التفجير، ووزّعوا علينا سلاسل فيها أرقام توضع في الرقبة، وأعطونا تعليمات أنّنا عندما نسمع بالفرنسية 01، 02، 03 سيكون بعدها دويا وانفجارا قويا، ففزعنا من هول هذه الكارثة التي لم نراها قط في حياتنا».
وبالنسبة للحاج عبد القادر الذهبي الذي كان أحد العمال الذين استعملوا كفئران تجارب وتعاملت معهم فرنسا باضطهاد وتعسف، حيث اعتبرتهم كأرقام إلى جانب أنواع شتى من الحيوانات والآلات، قال: «تمّ توزيع سلاسل علينا وأرغمونا على البقاء بمنطقة التفجيرات، أخرجونا من منازلنا ووزّعوا علينا سلاسل مثل ما يسمى محليا بالحجاب، مصنوع من البلاستيك، يحتوي على رقم واسمنا واسم المنطقة التي ننتمي إليها، وقاموا بنقلنا إلى مسرح الجريمة، حيث التفّوا حولنا العسكر في شكل دائري، ووزعونا في شكل ثلاثيات، وقالوا لنا ممنوع الالتفات مهما كانت الظروف، ومن رأى منكم رأس زميله يحلّق في السماء أو ساقط أمامه أو خلفه، يجب عليه أن لا يلتفت إليه، حيث شددنا في بعضنا البعض واصطفينا، ولما انفجرت القنبلة بعدها بقينا نرقص ونقول الحمد لله على سلامتنا. وبدأ العسكر الذين كانوا يحيطون بنا، يضحكون لأنهم ظنوا أنهم سيموتون مثلنا».
كما شهد الحاج حمو تنقل الخبراء إلى المنطقة وقياس درجة الإشعاعات أيام عديدة بعد انفجار القنبلة النووية الأولى في 13 فيفري 1960 بمنطقة حموديا برقان، وأوضح المتحدث أن الموقع أقيمت عليه حراسة مشددة لكي يمنع المواطنون من الاقتراب إليه، حيث كان هناك أناس مختصين يترددون على هذا المكان بعد انفجار القنبلة النووية وكانوا يرتدون لباسا أبيضا ونظارات وأقنعة.

جمعية 13 فيفري تطالب بتصنيف رقان كمنطقة خطر

 نفى رئيس «جمعية 13 فيفري»، سيد أعمر الهامل الادعاءات الفرنسية باختيار منطقة رقان لكونها صحراوية وخالية من السكان. وقال بأن رقان وجدت قبل فرنسا تاريخيا، وأن المنطقة اختيرت لاعتبارات استرايتجية كونها منطقة ذات طبيعة صحراوية تحتوي على بيئة نظيفة، فضلا عن وجود أزيد من 40 ألف ساكنا من المنطقة وكونها تربط الجزائر بإفريقيا مما يجعل آثار الإشعاعات تتنقل على مسافات بعيدة.
وأكّد المتحدث أنّ المنطقة لم تكن خالية أبدا، حيث كانت تحتوي على فقارات قديمة وزوايا ومقاومين في المنطقة وكان هناك نخيل وواحات، أضف لذلك أنّ منطقة رقان كانت تمد الدول المجاورة بالتمور عن طريق المقايضة من زمان بعيد، وبالتالي هذا يدل على أن المنطقة كانت آنذاك مسكونة وأهلة بالسكان .
«أما الآن ورغم محاولة كتم هذا الموضوع والذي جعلته فرنسا ملفا عسكريا سريا حتى لا يكتشفه أحد، لكن كل مجرم يترك آثار جريمته»، يقول سيد اعمر الهامل.
وناشد رئيس جمعية 13 فيفري الهيئات المعنية بتصنيف هذه المنطقة على أنّها منطقة مخاطر كبرى لكي تعطى لها العناية اللازمة.

عاهات خلقية وأمراض مستعصية

 شهدت رقان خلال السنوات الأخيرة ظهور ميراث الإشعاعات النووية، وهو مرض السرطان الذي استهدف فئات وشرائح عديدة من المجتمع، وعديد الأمراض الأخرى التي لم تكن معروفة قبيل الجريمة، فضلا عن عاهات وتشوهات خلقية.
قصر «تاعرابت» ببلدية رقان من بين القصور الذي يحصي أزيد من 30 معاقا صما وبكما وعميا، وعديد المصابين بأمراض السرطان من أطفال أبرياء وغيرهم من شرائح المجتمع.
وأبرز رئيس جمعية قصر تاعربت برقان محمد خالدي، أنّ عدد المصابين بالعاهات الخلقية والأمراض المزمنة في ازدياد عام بعد عام، مناشدا الجهات المعنية بإنشاء مركز للصم البكم بمنطقة رقان للتخفيف من معاناة هذه الفئة من التنقل لعاصمة الولاية ادرار، وباعتبارها منطقة تتوفر على شريحة كبيرة من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة ة.
وقال الدكتور مصطفى اوسيدهم، طبيب عام بمستشفى رقان ومكلف بمصلحة علاج أمراض السرطان، أنّ السنوات الأخيرة سجلت معدلات متزايدة لأمراض السرطان بمختلف أنواعه بما فيها سرطان الرئة والبنكرياس والثدي والرحم وغيرها من الأمراض، حيث سجّلنا ازديادا في مرضى السرطان، وهو يدل أن معدلات الإصابة به في تزايد مستمر.  
وفيما يخص التكفل الصحي، أوضح المتحدث انه توجد نقائص في أجهزة وإمكانيات التشخيص والكشف، وذلك عدم توفر المصلحة على جهاز الماسح الضوئي الذي يعتبر وسيلة ذات أولوية في كشف هذا المرض، بالإضافة إلى نقص التأطير في التخصصات التقنية كالفحص المجهري للسرطان وتخصص مرض الدم وأمراض الغدة الدرقية.
الإشعاعات النووية برقان لم تأثر على السكان فقط، بل شملت الحيوان والفلاحة حيث تراجع الإنتاج الفلاحي والزراعي بالإقليم، في وقت كان يشتهر بإنتاج وافر، حيث كان معمل الطماطم برقان ينتج 85 طنا في اليوم، ليسجل تراجعا كبيرا في الإنتاج في السنوات الأخيرة، فضلا عن إصابة بعض الأشجار والمحاصيل الفلاحية في السنوات الأخيرة بأمراض لم تكن تعرفها المنطقة من قبل.