طباعة هذه الصفحة

شريط سياحي يروي وقائع من عمق تاريخ “البهجة”

كيتانـي ..تحفـة عمرانية بألـوان البحـر

سارة بوسنة

رؤيـة جديـدة للفضــاءات العامّـة تترجـم سياسـات التنمية المستدامــة

هندسـة محكمـة تراعـي البعـد الاجتماعـي وتراهـن علـى البعــد الجمـالي

شاطئ “قـاع الســور”.. مـن عتمـة الإهمـال إلى أنـوار الجمــال

شهدت العاصمة الجزائرية مؤخرا افتتاح مشروع واجهة كيتاني الجديدة، التي يعتبرها كثيرون من أبرز المشاريع التي جاءت ضمن “المخطط الأزرق”، الهادف إلى إعادة إحياء الشريط الساحلي للعاصمة، ومن المتوقع أن تشكّل هذه الواجهة نقطة تحول حقيقية للمكان، لكونه يقع في حي باب الوادي الشهير الذي يتمتع بتاريخ طويل وعلاقة وثيقة مع البحر.
 لطالما كانت واجهة كيتاني واحدة من أبرز النقاط في قلب المدينة، حيث تعكس صورة حي باب الوادي بكل ما يحمله من ذاكرة اجتماعية وثقافية، لكن مع مرور السنوات، عانت الواجهة من الإهمال والتدهور، إذ تحوّلت إلى منطقة يغلب عليها طابع الفوضى العمرانية والنفايات، ممّا ساهم في تراجع مكانتها في الذاكرة البصرية للعاصمة، وعلى الرغم من هذا التراجع، كانت تلك المنطقة تختزن إمكانيات كبيرة، وهو ما جعل المشروع الجديد بمثابة فرصة لإعادة الاعتبار لهذا الفضاء الساحلي.
ومن هنا، جاءت الرؤية المعمارية للمشروع كمحاولة لترميم العلاقة بين الإنسان ومحيطه البحري، عبر مقاربة شاملة تجمع بين الجمالية العمرانية والاستعمالات اليومية المتنوعة.

تصميم يستجيب للبيئة والإنسان

 عند الحديث عن تصميم واجهة كيتاني، تبرز بوضوح فلسفة المزج بين الجمالية المعمارية والاحتياجات الاجتماعية والبيئية، فقد شمل المشروع تهيئة شاملة للمرافق العامة، مع تخصيص فضاءات للأنشطة الرياضية، ومسارات للجري وركوب الدراجات، ومناطق جلوس للتنزه والاسترخاء. كما تمّ إنشاء مساحات خضراء تهتم بالبعد البيئي، في حين حافظ التصميم العام على طابع المكان الأصيل، مع دمج لمسات عصرية في الهندسة المعمارية.
ومن بين أبرز تجليات هذه الرؤية، برزت مجموعة من الفضاءات الجديدة التي منحت للمكان روحا عصريا وهويّة جديدة، أما من جهة البحر، تمّ تحويل “قاع السور” إلى شاطئ حضري صغير مجهز بمرافق حديثة، ليشكّل وجهة جديدة للسكان والزوار.
ويعد الشاطئ الاصطناعي بمياهه الصافية ورماله البيضاء من أكثر المعالم جذبا، إذ أضفى على المكان لمسة ساحرة، كما تم إنشاء ممشى خشبي طويل بمحاذاة البحر، مزوّد بكراسٍ مظللة وأضواء ناعمة، توفّر أجواء مثالية للتأمل والمشي، خصوصًا في فترات المساء.
ولم يغفل المشروع البعد الجمالي، حيث تمّ توزيع الإنارة الليلية بطريقة مدروسة، وترتيب الأشجار والممرات الحجرية بعناية، ما أضفى على المكان سكينة خاصة وأناقة متفرّدة.
وقد استخدمت في المشروع تقنيات ري ذكيّة واقتصادية، كما تمّ الاعتماد على مواد معاد تدويرها في البناء، بما يعكس حرصا بيئيًا واضحا والتزاما فعليا بمبادئ الحفاظ على البيئة.

وجهة سياحية في قلب العاصمة

 بفضل هذه المقاربة المتكاملة، لم يقتصر أثر المشروع على سكان الحي، بل تعدّاه ليشمل بعدا سياحيا جديدا في قلب العاصمة، فموقع الواجهة الاستراتيجي المطل على البحر الأبيض المتوسط، جعل منها وجهة سياحية مفتوحة للجميع، تستقطب العائلات من العاصمة ومناطق مجاورة، ولم يعد سكان العاصمة بحاجة إلى قطع مسافات طويلة للتمتع بالبحر، إذ بات بإمكانهم الاستمتاع بالشاطئ والخدمات المرافقة في قلب العاصمة. كما أن التنوع الكبير في الأنشطة يجعل من المكان مساحة مثالية للترفيه والاستجمام، سواء أكانت رياضية أو ثقافية أو اجتماعية.
وقد تمّ أيضا تخصيص فضاءات تجارية لاحتضان عربات بيع الوجبات الخفيفة والمثلجات والمشروبات، بما يضفي على المكان روحًا شبابية ديناميكية،إلى جانب هذا تم تثبيت كاميرات مراقبة عالية الجودة لتعزيز الأمن، ما زاد من شعور الزوار بالراحة والطمأنينة خلال تواجدهم في الموقع.
ورغم التحديات التقنية المرتبطة بتنفيذ المشروع في بيئة بحرية حسّاسة، إلاّ أنّ الورشات نجحت في تجاوز العقبات، مقدّمة نموذجًا ناجحًا لإعادة تأهيل الواجهات البحرية بطريقة متكاملة،
وساهم المشروع في تعزيز القيمة العقارية والسياحية للمنطقة، ومن المتوقع أن تتوسع التأثيرات الإيجابية مع مرور الوقت.

زوّار كيتاني..إشادة وثناء

 في جولة سريعة بين زوّار واجهة كيتاني، تتوحّد الآراء رغم اختلاف الأعمار، عبّر كثيرون عن إعجابهم الكبير بالتحول الذي عرفته المنطقة، مؤكّدين أنّ المشروع لم يجمّل المكان فحسب، بل غيّر أيضًا طريقة تفاعلهم مع الفضاء الحضري.
في هذا الصدد، تقول سعاد (وهي أم لثلاثة أطفال جاءت من بلدية براقي) في تصريح لـ “الشعب”: “لم نكن نتصور أن نرى مثل هذا الشاطئ وسط العاصمة..أصبح بإمكان أطفالي اللعب بأمان بينما أستمتع أنا وزوجي بالمشي على الممشى الخشبي”. أما يوسف، شاب في العشرينات من سكان باب الوادي، فأكد أن المشروع يمثّل نقلة نوعية قائلا: “أشعر بالفخر بعد أن بات يستقبل زوارا من كل مكان، ولم نعد نُعرّف فقط بتاريخنا، بل أيضا بهذه الواجهة الجميلة”.
كثير من الزوار أشاروا إلى التحسن اللافت في النظافة والتنظيم، معتبرين أن المكان بات يعكس وجهًا جديدًا للعاصمة. وأشاد آخرون بتوفير فضاءات رياضية ومناطق جلوس مريحة تتيح للجميع، كبارًا وصغارا، فرصة الاسترخاء والاستمتاع بجمال البحر.
يقول أحد الزوّار من بئر خادم: “لم أعد مضطرّا للذهاب بعيدًا للاستجمام..كيتاني أصبحت وجهتنا الجديدة”، وما هذه الآراء إلا انعكاس واضح للتحول المجتمعي الذي أحدثته الواجهة، سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية أو أنماط الحياة اليومية، فقد أصبحت المكان المفضل للقاء بين فئات المجتمع المختلفة، الأطفال، الشباب، كبار السن، وحتى ذوو الاحتياجات الخاصة، باتوا جميعا يشتركون في استغلال المساحات العامة بشكل متساو.
لقد أولى مشروع الواجهة البحرية لكيتاني اهتماما خاصا بتوفير بيئة آمنة وصحية للعائلات، من خلال تخصيص فضاءات لعب للأطفال، ومسارات للجري وركوب الدراجات، وهو ما أثار إعجاب فئة الشباب الذين رأوا في ذلك خطوة نحو نمط حياة صحي. وأشار البعض إلى أنّ وجود مرافق رياضية مكشوفة بهذا الشكل أمر غير معتاد في المدن الجزائرية، ويُعدّ نقطة تحول مهمة في السياسات الحضرية.
من اللافت أنّ مشروع كيتاني لا يُقرأ فقط من منظور عمراني أو سياحي، بل من زاوية رمزية أعمق، فهو يعكس إرادة الدولة والمجتمع معًا في استعادة العلاقة التاريخية بين المدينة وساحلها، وهي علاقة تدهورت لعقود بسبب الإهمال وتغير أنماط العيش، فالمكان الذي كان يُعرف سابقا ببساطته الشعبية وأجوائه البحرية، عاد اليوم ليحتضن ذاكرة الناس وهويتهم الجماعية، وذلك من خلال هندسة تراعي البعد العاطفي والحضري في آن واحد.
وقد ساهم المشروع في خلق فرص عمل مؤقتة أثناء أشغال التهيئة، كما من المتوقع أن يفتح آفاقًا جديدة للمبادرات الشبابية والمقاولات الصغيرة التي يمكن أن تنشط في فضاءات الواجهة، سواء في مجالات السياحة أو الترفيه أو الحرف المحلية.
ومن بين المبادرات التي لاقت استحسان الزوار، تلك التي تتعلق بعروض موسيقية حية وأخرى فنية مفتوحة في الساحات العامة، مما يعزز من حيوية المكان ويجعله أكثر من مجرد وجهة للنزهة.
من جانب آخر، بدأت العديد من الجمعيات البيئية والثقافية في تنظيم أنشطة دورية على مستوى الواجهة، مثل حملات التنظيف التطوعية أو ورش الرسم للأطفال، وهي مبادرات تؤكد على أهمية إشراك المجتمع المدني في الحفاظ على الفضاءات العامة، وتعد هذه الديناميكية الاجتماعية مؤشرا إيجابيًا على إمكانية استنساخ التجربة في مواقع أخرى.
وفي هذا السياق، أكّد بعض الخبراء العمرانيين على أنّ مشروع كيتاني يمكن أن يشكّل “نموذجا مرجعيا” يُستدل به في إعادة تهيئة باقي الواجهات البحرية عبر الوطن، فالمعادلة التي تم تحقيقها بين الحفاظ على البيئة، وتعزيز الجاذبية السياحية، وتوفير مرافق عمومية ذات جودة عالية، تمثل تحديا نجح المشروع في تجاوزه بشكل فعّال.

رمز جديد للتّنمية الحضرية

 واجهة كيتاني لا تختزل في كونها مجرّد مشروع ترفيهي، بل تمثل رؤية جديدة في التعامل مع الفضاءات العامة، وهي ترجمة فعلية لسياسات التنمية المستدامة التي تسعى لإعادة الإنسان إلى قلب المدينة، ومن المنتظر أن تحتضن الواجهة في المستقبل فعاليات ثقافية وفنية تُعزّز من مكانتها كوجهة سياحية وحضارية متميزة.
إضافة إلى هذا هناك مخطّطات لتوسيع نطاق الخدمات، من خلال إضافة مطاعم ومقاهي وفنادق صغيرة ومرافق إضافية تلبي احتياجات الزوار المحليين والسياح على حد سواء.
أنّ مشروع واجهة كيتاني لم يكن مجرد تهيئة عمرانية، بل هو مشروع يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والمكان، ويمنح سكان العاصمة طريقة جديدة لاستكشاف مدينتهم، وبهذا المعنى، أصبحت الواجهة رمزًا للتغيير، ومرآة لجزائر تتطلّع إلى مستقبل حضري أكثر إشراقا.