طباعة هذه الصفحة

«الشعب» على آثار تضحيتهم الثانية من أجل الوطن

القصة الكـاملة لميلاد «المقاومين المعروفـين بـ «البـاتريوت»

البليدة: لينة ياسمين

شهادات  من عمق النضال ووفــاء لجـزائــر الانتصارات والصمود

العشرية السوداء أوالحمراء، تسعينيات الدم والخوف، الفترة غير الآمنة، الجماعات الإرهابية، الاغتيالات، كلها تسميات ونعوت لحقبة مأساوية عاشها الشعب الجزائري، عرف فيها الرعب والجوع. تحوّلت جزائر الشهداء وقبلة الثورة وحركات التحرّر، إلى نقطة نكرة ومعزولة وحصار غير معلن من «جماعة شنغن». صورة نمطية ظلت تروّج عبر الفضائيات والمنابر من أشباه المثقفين والمحللين الذين وضعوا أنفسهم في موقع الخبراء بشؤون البلاد وحدهم يعلمون «الحقيقة المطلقة». أصبح الجزائري و»لا يزال» فردا «مشبوها»، يشار إليه غمزا وهمزا بالأصبع، على أنه خطر يجب الحذر منه حتى انقلبت الأمور وصار الإرهاب الذي قيل خطأ أنه صناعة جزائرية يدق عواصم من قالت «تخطي راسي». التفاصيل ترصدها «الشعب».

وسط هذه الظروف التعيسة التي غيّبت الجزائر عن الساحة الإقليمية والدولية، لما يزيد عن عقد من الزمن وجعلتها تواجه وحدها «شبكات الجريمة العابرة للأوطان» وتتصدى «لربيع عربي» مسبق ونزيف دامي لمفردها، بوحدات أجهزتها الأمنية وأفراد جيشها الوطني، تخندقت في صف تلك الأجهزة فئة من الشعب الجزائري في عدد منها وأجبرت في العدد المتبقي، حمل السلاح ومواجهة خطر الإرهاب، متحملة مسؤولية العواقب والمصير، أطلقوا على أنفسهم لقب «الباتريوت» وبالعربي المقاومون.
 «الشعب» رصدت مسارهم وتتبّعت خطواتهم ووصلت إلى حقائق حزينة مبكية في بعض الأحايين، وصفها لن يزيد عن حقيقة واحدة «الباتريوت يعني» تراجيديا الإنسان «وفي شقّ آخر كيف كان لهم يدّ في مشاركة أجهزة الأمن وعودة رسم البسمة على وجوه الناس، ونبذ الخوف والرعب الذي ساد وقتها.

بداية المخاض...
يتفق العارفون بتاريخ «الباتريوت» في الجزائر، أن 1992، هوميلاد هاته الفئة، وكان ذلك مع حكومة رضا مالك، ويشهد محمد لوزري عضوبالتنسيقية الوطنية للمقاومين، أن حملة اغتيالات استهدفت من شاركوا في ثورة التحرير من مجاهدين، مسبلين ومناضلين، وضباط بالجيش تقاعدوا وموظفين لدى مؤسسات الدولة وكل من حمل الجزائر في القلب ورفض أن يمسها سوء من هذه الجماعات الدموية التي اعتدت بشراسة على أقدس حقّ آدمي ألا وهو الحق في الحياة.
 كان الدافع من وراء قنصهم، أنهم ينتمون الى احرار الجزائر. لما كثرت جرائم القتل الفظيع وتوسعت دائرة الاغتيالات، وجد من شعروا بأن الدور سياتي عليهم، المبرر الكافي في مشاركة الجيش وأجهزة الأمن، حمل السلاح والدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم وممتلكاتهم والمؤسسات الرسمية.
 توسعت الدائرة النضالية التي اعتبرت تضحية ثانية من اجل الوطن وضمت فئات اخرى من الشعب تجاوزت عقدة الخوف وانخرطت في معركة الشرف والوطن مرة اخرى.
كان محمد سلامي اول من كون نواة «الباتريوت»، بحوش «لقرو» ـ سويداني بوجمعة حاليا ـ في بوفاريك، ضمت 17 شخصا، وتوسعت الى احياء ومناطق، وعمّت بقية ولايات الوطن، حتى انتهى ذكرها الى عدد 80 ألف باتريوت، تسلحوا وتدربوا وشاركوا في عمليات التمشيط والدفاع والتصدي لكل محاولات القتل وارتكاب المجازر الدامية، وأدوا ـ حسب قوله ـ دورا فعالا لمشاركتهم في انجاح عمليات عسكرية، لخبرة الكثير منهم ودرايتهم بجغرافيا مناطقهم، وكانوا فعلا عيونا يعتمد عليها، وهكذا كانت بداية المشوار.

نساء وشباب في الواجهة
يقال أن «الإرهاب أعمى لا يفرق بين كبير وصغير، رجل وامرأة، واخضر ويابس»، هو كالطوفان الجارف، لا يأتي على أرض إلا وخرّبها ودمرها ونشر الحزن في كل بيت ودار.
 والحال كان في جزائر التسعينيات، مسّ الإرهاب كل ركن وزاوية، وحزنت عائلات لمجازر اقترفت في حقّ الأبناء والأزواج والآباء والجيران، كان الجرح عميقا وينزف.
دون تفكير التحق بـ «الباتريوت» شباب لم يبلغوا سنّ الرشد، عدد منهم ضحى بأغلى ما يملك. استشهد وهو يحمل في يد سنوات شبابه وفي اليد الأخرى سلاحا يدافع به.
 والأمر كان ايضا مع سيدات فضلن التسلح والمقاومة مثل الأيام الخوالي في زمن ثورة التحرير، ولم يتخلفن يوما عن المشاركة في أي عمل للدفاع وصد آلة القتل الوحشي، ونسجن فضلا عن الشباب قصصا ملحمية بطولية، مثل تلك التي يرويها شهود عن خالتي فاطمة بمنطقة جيجل، وسلاحها «ماط 24».

 العقد النفسية والكوابيس والمسكنات الثالوث الزاحف...
على عكس اعتقادهم، لم يكن يتوقع ؛الباتريوت»، أن ينعكس الواقع ويتحولوا ضحايا الأمراض النفسية والهلوسات والكوابيس. لكنهم كانوا مقتنعين بأن كل شيء يصغر أمام الوطن الذي يتحملون من اجله كل شيء ولا يبالون بتعب الظرف ومرض المرحلة. يروي واحد من مؤسسي «الباتريوت» في بوفاريك زوهير حمتوت لـ»الشعب» انه تخلى عن لعبته المفضلة ورياضته والتدريب في الملاكمة ـ تحصل على الميدالية الذهبية في الألعاب الوطنية عام 1976 وكان أحد عناصر الفريق الوطني العسكري المتأهلين لبطولة العالم في 1978.
وواصل حمتوت وهويروي قصته الكاملة لـ»الشعب»، إنه حمل السلاح كما فعل آخرون بالمنطقة، وظلّ سنوات الجمر مرابطا، وبعد عودة الأمن والأمان، أدار بعض من كان يحميهم وعائلاتهم ظهورهم له ولرفاقه، وأصبحوا يرفضون استقبالهم، في الوقت أصيب شقيقا له ووالدته الراحلة بصدمات نفسية، وأصبح يعاني من مرض في القلب، وضاع وضيع مستقبله. في وقت كان لا يزال قادرا على العطاء، وأمثلة زوهير بالمئات، كوابيس تطاردهم وأمراض مزمنة وهم في سنّ الشباب، وأدوية مهدئة لا تفارقهم.

الباتريوت والاختيار المسؤول...

يجمع من حلموا السلاح تحت لواء «الباتريوت»، انهم اختاروا تلك المهمة وابناءهم للدفاع عن الجزائر، وانعزلوا عن بقية العالم، مهمتهم تستدعي التركيز والانتباه، والابتعاد عن التجارة والعمل والمال والأعمال والدراسة. زهدوا عن كل شيء بما في ذلك الاغتراب عن الأهل وهم في ديارهم، وعرضوا أهاليهم الى الخطر والتهديدات اليومية والاختطاف. قاوموا بلا توقف الخطر الارهابي ولم يستسلموا لمشروعه التغريبي عن المجتمع مقتنعين حدّ الثمالة ان لغة السلاح هي التي تفهمها جماعات التراجيديا والموت.
لم تنج عروس وتفرح بعرسها، لكنهم بالرغم من سواد الليل والخوف، تحملوا مسؤولية التصدي لكل من يريد النيل من المواطن والممتلكات العامة، مثلهم مثل بقية أجهزة الأمن الباسلة.

عودة الأمن والاستقرار...
بدت خطوات أولى في اعادة الأمن الى البلاد وظهرت بوادر ترتيب البيت من جديد في نهاية سنوات التسعينات بفضل سياسية رئيس الجمهورية واقراره ميثاق السلم والمصالحة وفاء لبرنامجه الانتخابي ووعوده بأنه جاء لوقف نزيف الدم بين الجزائريين واعادة السلم والطمانينة الى القلوب الجريحة والنفوس الحائرة. ظهرت مؤشرات الانفراج، وزادت في التحسن مع حلول الألفية الثانية، وبالموازاة بدأ الباتريوت يشعرون بنوع من التخلي عنهم، وأحسوا بمحاولات نسيانهم وتركهم وشأنهم. هكذا كانوا يشعرون. لكنهم كانوا يعيشون على الأمل والانفراج في الالتفاتة اليهم والعناية بهم كقوة حية تبنى السلم الاجتماعي وتعزز الاسقرار الوطني وتقوي الوحدة.
يجمع مقاومون على أنهم لم يستفدوا من أي مكسب أول الأمر، وهو ما هزّ نفوسهم وآلمهم بشدة، وراحوا يسترجعون الخطب لكنهم تفاءلوا خيرا لتصريحات رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة حينما قال «سيصون الباتريوت كما صان المجاهدين «. وهوما اعتبروه وقتها بأن فعل ذكرهم اعتراف لأفضالهم وتضحياتهم، وعاد الأمل الى قلوبهم من جديد.

تاريخ بداية المطالب...

حلّ العام 2011، ودخل فصل الربيع شهر مارس، كانت فيه حركة وأخبار تأتي وتشاع، من أن الباتريوت في طريق اسماع صوتهم والتنسيق بينهم. نظموا تجمعات سلمية ومسيرات حرصوا على ان تبقى في اطارها النظامي الهادئ. تجمعوا بساحة الشهداء الشهداء، ظهرت «التنسيقية الوطنية للباتريوت»، وكان مقرها بـ بوفاريك، وانتخب في اختيار شقيق سلامي محمد الذي اغتالته ايادي الغدر، ورفعت ارضية مطالب على ديوان رئيس مجلس الأمة»، استقبلهم وقتها.
 وبعدها توالت اللقاءات مع مختلف المسؤولين للنظر في مطالبهم وتسوية ملفهم. استمرت المفاوضات وأثمرت بإقرار حقوق الآلاف منهم، وتخصيص لهم منحة مالية أعادت لهم روح الأمل من جيدي بعد أن شعروا بالتخلي عنهم، حتى ان واحدا من مسؤوليهم اعترف وقال، بأن دولته لا تتخلى عن ابنائها، لكن الظروف فقط هي من تعطل.

الخاتمة.. ثناء وشكر

في سياق الأحداث التي مرّت والاختلاف الذي كان يحدث من حين لآخر، والاعتقاد بأن الدولة نسيت الباتريوت، بدأت مؤشرات على أن الدولة تحملت وأكثر مسؤولياتهم ولم تنس ولم تتخل عن أي مواطن جزائري، واثنى ممثلون عن التنسيقية الوطنية للمجهود الذي تأتى من السلطات العليا في البلاد، والتطمينات والقرارات المتخذة مؤخرا.
 لم يكن ذلك لا بالحلم أو الخيال، بل هي الحقيقة التي اقرها متحدثون باسم الباتريوت، وكان المنسق الوطني وهو يتحدث لـ «الشعب» علي بوقطاية، يثني أيما ثناء على الاهتمام بفئتهم، ووعود تسوية ملفات من حاربوا الظلام، وشاركوا في نشر النور وعودة الأمن والآمان إلى نفوس الجزائريين.
ختم قوله بأنهم يشعرون دوما بالفخر والعزة في سبيل خدمة بلادهم.، وهم اليوم ة وغدا سيكونون في الصفوف الأولى وبالمجان، متى تم الاحتياج لهم، لأن الجزائر غالية على قلوبهم، وحبها يجري في عروقهم، ولن يدخروا جهدا مثل ما فعله الشهداء الابرار، فـالجزائر أولا وآخرا «الوطن الأم». وهي تحتضنهم دوما في السراء والضراء.—-