طباعة هذه الصفحة

قنبلة موقوتة تهدّد الأسرة والمجتمع

النّزاع حول الإرث «بسيكوز» يؤرق العائلات

فتيحة ــ ك

مرافعات حول قضايا ساخنة وشهادات تنقلها «الشعب»

رغم أنّ اللّـه تعالى فصل في الإرث وأوضح حصة كل واحد من الورثة فيه، وأعطى طريقة تقسيمها بشكل دقيق في سورة النساء، إلاّ أنّه أصبح في السنوات الأخيرة سببا مهما في تفكيك العائلة الجزائرية، التي استسلمت للأنانية البشرية وطغيان المصلحة الشخصية على رابط الدم والرحم أمام قطعة أرض أو شقة أو رصيد مالي في بنك. «الشعب» رصدت هذه الوضعية، ونقلت شهادات من الواقع المعيش.

سألت «الشعب» المواطنين والمختصين لتتعرف عن قرب على المآسي التي تعيشها الأسرة الجزائرية بسبب الإرث، الذي أصبح يشكل انشغال أغلب القضايا المتنازع عليها في المحاكم.

«التركة حوّلتني إلى لقيط لا حقّ له»
❊ «أبو بكر ــ ش»، 50 سنة، عون أمن بإحدى المؤسسات العمومية، وجدناه بمحكمة الرويبة ينتظر دوره للمثول أمام القاضي، وبحزن كبير يروي قصته مع الإرث قائلا لـ «الشعب»: «منذ ما يقارب الأربع سنوات وأنا آتي إلى المحكمة آملا في أن يكون ذلك اليوم الأخير للفصل في قضيتي ولكن هيهات أن تكون الأمور بهذه البساطة، ورغم أنّني استنفذت كل طاقتي إلاّ إنّني لن أسكت على حقّي الذي شرعه الله لي في السماء، ولن أتنازل عن حصتي في ميراث والدي حتى آخر يوم من حياتي، لأنّ إخوتي من أبي اغتصبوا حقّي وحرموني وأمي من الميراث فقط لأنّها الزوجة الثانية».
وروى «أبو بكر» قصّته بمرارة: «عندما توفي والدي لم أفكّر في الإرث أو أي شيء آخر يخص ممتلكاته لأنّه كانت بالنسبة لي خسارة والدي لا تساوي شيئا في هذا العالم، وكنت أظن أنّني وإخوتي واحد رغم كل المشاكل التي كانت بيننا لأن رابط الدم أقوى من أي شيء آخر، ولكن ظهر العكس مع مرور الزمن. فبعد أن أصيبت ابنتي بفيروس خبيث في الكبد كان علي نقلها إلى ألمانيا لإجراء التحاليل وإجراء العملية لها علّها تشفى وتعود إلى حياتها الطبيعية، وكانت القيمة المالية لحالتها الصحية تفوق 500 مليون دج».
وأضاف أبو بكر: «في البداية لم أشعر بالخوف عليها لأن حصتي من الإرث تساوي أضعافها أربع مرات، ولكن عندما ذهبت إلى أخي الأكبر لأخبره بالأمر فاجأني بقوله أنني «مَا نسَال وَالُو»، حاولت إقناعه أنه لولا مرض ابنتي ما طلبت فتاتا من مال والدي، ولكنه تعنّت وأصرّ على ما قاله، بل أكثر من ذلك اتّهمني ووالدتي بالسرقة والخيانة، وهو الأمر الذي لم أقبله وجعلني أضربه وأشتمه، ما كان السبب في دخولي السجن بسبب الاعتداء الجسدي على أخي، الذي زوّر الشهادة الطبية التي أكدت إصابته بعجز، وطبعا شهدت السكرتيرة ونائبه زورا بأنّني من قام بالاعتداء عليه دون سبب واضح».
وهنا سكت «أبو بكر» قليلا ليواصل حديثه: «في تلك الفترة التي قضيتها في السجن فقدت ابنتي التي أنهكها المرض، ولم تستطع والدتها فعل شيء لإنقاذها، هذه المصيبة أفقدتني صوابي ومرضت مرضا شديدا لأنني شعرت بالحقرة وقلة الحال، ولم أستطع محو أخي من ذاكرتي، الذي كان السبب الأول في موتها، وبالنسبة لي هو قاتلها، لذلك ومع أول خطوة وضعتها خارج السجن كان مكتب المحامي وجهتي الأولى وطلبت منه رفع قضية على مستوى المحكمة لأحصل على نصيبي من تركة والدي الذي ظلمني في حياته وبعد مماته، فقد اكتشف المحامي أن أبناءه من الزوجة الأولى قسّموا التركة بينهم بالتوكيل الذي كان يستفيد منه أكبرهم في حياته، لأنه كان بمثابة اليد اليمنى في تسيير كل أعماله، ولم يتركوا سوى الشقة التي كنت أعيش فيها مع أمي ليطالبوننا بحصتهم منها لأنها بقيت على اسم والدي».
«طردنا منها شر طردة إلى الشارع لأنها دار الورثة!؟، حرموني من كل شيء حتى من ساعة أدعو فيها لوالدي بالخير، لأنّه السبب الأول في كل ما أعيشه فهو أعلم بأبنائه، على الأقل لو كتب لنا مكانا يحفظ لنا ماء وجهنا أمام المجتمع، جعلني في مكانة اللقيط الذي لا يرث من تركة والده، استغل طيبة أهل والدتي ليتزوّجها بالفاتحة دون عقد مدني لمدة خمس سنوات، لأكون الابن الذي يؤرّخ يوم ميلاده لأكذوبة اسمها العائلة بكل ما تحمله من معاني».
«طردوني خوفا من مطالبتي بالإرث»
❊ «جمال ــ ق»، 48 سنة، عامل حر عانى كثيرا قبل الحصول على تركة والده في ميلة، سرد قصته لـ «الشعب» قائلا: «ولدت وجميع إخوتي بالعاصمة، تربّينا وتعلّمنا وتزوّجنا، ولم تكن لنا أي علاقة قوية مع العائلة الكبيرة في ميلة، ولكن بعد وفاة والدي دفناه بمسقط رأسه بفرجيوة كما طلب، لذلك كنت دائم التردد على تلك المنطقة لزيارة قبره، وكنت أنزل ضيفا على أعمام أبي لأنه الابن الوحيد لجدي الشهيد، ولكن بعد فترة من الزمن أصبح أقاربي يرفضون بقائي عندهم، ووصل بزوجة أحدهم إلى حد طردي من البيت قائلة أنّني لا أملك الأرض حتى أعيش عليها. في الحقيقة تركت كلماتها تلك تساؤلا كبيرا في نفسي لأنّني لم أطالب بشيء حتى تسمعني إيّاها».
وواصل «جمال» بحرقة قلب: «انتقاما منها ذهبت إلى فرجيوة وطلبت حصر إرث والفريضة، حينها انتفض الجميع وقالوا أنه يجب عليّ العودة من حيث أتيت لأنني سأعود لا محالة خالي الوفاض، ولكن المحامي الذي وكلته كان محترفا ومتمرّسا، لذلك تتبّع كل التفاصيل لأجد والدي يملك حتى الأرض التي يعيشون عليها، يملك حقول الزيتون التي حرموني من ثمارها بحجة أنهم من يتعبون في الاعتناء بها، وبالفعل بيعت كل الأملاك وبين عشية وضحاها صرت وإخوتي من أصحاب الملايير،
ولكن كما جاءت بسرعة ذهبت...
وهنا استطرد «جمال» قائلا: «بسبب انشغالي الدائم وكلت أخي ليقوم بتقسيم التركة بيننا، وكان هدفي من وراء ذلك استفادة أخواتي المتزوّجات من المال، ولكن أخي استولى عليه وأعطاهنّ 800 ألف دج فقط أما أنا فأعطاني مليار ونصف، أما هو فأخذ ستة ملايير كاملة، اشترى بها شقة لزوجته و سيارة لأخيها وفتح مشروعا مع أهلها، وكأنهم الوارثون الحقيقيون لأبي. أعلم أنها قسمة ظالمة ومجحفة، ولكن ماذا أفعل لأنّ التّوكيل صحيح وأنا المغفّل من وثق في رجل تتلاعب به أوراق نقدية زائلة».
  الجشع والطّمع يؤجّجان الصّراع بين الاخوة
في حديثها إلى «الشعب»، أكّدت سميرة فكراش الأخصائية الاجتماعية أنّ النّزاع حول الميراث من بين الأسباب الرئيسية التي تعصف ببناء الأسرة والمجتمع بسبب تغلّب الجشع والطمع على القيم الإنسانية، وانعدام القيم داخل المجتمع الجزائري، فعوض أن يكون الميراث وسيلة تزيد من ترابط أفراد الأسرة الواحدة وارتقاء التعاليم الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية أصبح سببا مباشرا في تفككها.
أرجعت فكراش السبب إلى رغبة أحد أفراد الأسرة الحصول على حصة من الميراث أكبر من الآخر، وأيضا إلى الأنانية والجانب الذاتي والفردي الذي سيطر على الشخص، وتغلّب على القيم الإنسانية داخله.
قالت فكراش أنّه عند اجتماع أفراد العائلة في حالة مرض الأب يبدأ الكل في التفكير في الحصة التي سيحصل عليها بعد وفاة الوالد، في مجمل الأوقات يطرح مشكل الميراث قبل دفن الميت، وهذه سابقة خطيرة في الأسرة الجزائرية لأنّها تحطّم الروابط العائلية بين أفرادها، وهذا مؤشّر سلبي لما آلت إليه الأسرة وأيضا للقيم التي نقدمها للجيل الصاعد، لأنها تنبئ بهيكل اجتماعي مبني على ماديات.
وذكرت سميرة فكراش أنّ تعاليم الشريعة الإسلامية فصلت في مسألة الميراث، وبيّنت طريقة حسابه وتقسيمه بشكل دقيق لتفادي المشاكل التي نعيشها اليوم.
لكن الحقيقة أننا أخذنا من القيم الدينية السطحيات فقط، ولم ننتبه إلى أهمية الأواصر والروابط الأسرية للإرث في لمّ شمل الأسرة، فمع الأسف الإنسان يريد أن يحصل على أكبر ما يستطيع ويخسر أقل قدر ممكن، وفي ظل هذا الصراع يكون النساء والإخوة الصغار هم الفئة الأكثر تعرضًا لهضم الحقوق، ناهيك عن الشحناء والبغضاء التي تحل بين الإخوة بسبب هذا الطمع والجشع. وقالت الأخصائية الاجتماعية إنه من الأحسن أن تقسّم التركة مباشرة بعد دفن الميت حتى ينتفع كل وارث من نصيبه، ونحمي الأسرة من الهشاشة والشتات.
أرجعت سميرة حرمان المرأة من حقها في الميراث في بعض المناطق إلى الجهل والأنانية والطّمع، وهو دليل على وجود خلل في التربية الاجتماعية والتصورات الأسرية لأنّها تعكس تجرّدنا من القيم الإنسانية لأن المرأة هي النصف الثاني للرجل، فهي الأم والأخت والزوجة، ولكن كونها كذلك بالنسبة لهم لا يعطيها الحق في الميراث، وهذا إجحاف في حقها الذي شرعه اللّـه تعالى لها.
 الطّلاق والإرث يعصفان بالأسر
كشفت المحامية كوثر كريكو أنّ النّزاع حول الإرث والطلاق أصبحا السببين الأولين اللّذين يضربان الأسرة في أسسها وتفككها، ما يجعله موضوعا اجتماعيا جد حساس لاعتبارات أخلاقية.
فالموضوع محدد في الشريعة الإسلامية، لذلك فلا يمكن القول أن الأشكال يحدث في الأنصبة وإنما في إنكار بعض الأشخاص حق الآخر في الإرث، ولا يقبلون ما شرعه الله تعالى في محكم تنزيله، ولكن القضاء دائما يفصل فيها حسب الأنصبة المحددة.
وقالت القانونية كريكو إنه في كثير من الأحيان عندما يتوفّى الأب لا يتّفق الأبناء حول القسمة ولا يتقبلونها، بل يرضى البعض اللجوء إلى القضاء وبيع الإرث المشاع في المزاد العلني قبل فصل المحكمة بفض النزاع بثمن اقل بكثير من قيمة الأملاك الحقيقية على أن يحل المشكل وديا. وأكدت في حديثها لـ «الشعب» أنه غالبا ما تدخل قضايا الإرث إلى القضاء الجزائي بسبب السب والشتم ما يعمق المشكل بين الإخوة أو العائلة الواحدة ، ومن ناحية أخرى نجد كذلك قضايا جزائية بسبب الاستيلاء على مال التركة قبل قسمتها، والذي يعتبر جنحة يعاقب عليها القانون.
وذكرت الاستاذة أنّه غالبا ما يصطدم رجال القانون بقضايا يكون فيها الأب قبل وفاته معتمدا في عمله على أحد أبنائه، الذي يكون الابن الأكبر في جل الحالات، وهو الذي يستولي على الأملاك والأموال المودعة والسيولة الموجودة بحكم معرفته الجيدة لكل ما يتعلق بالعمل، بل يواصل تسيير أمورها كوكيل بالإيجار. كل هذه الأمور والنزاعات حول التركة تجعل الأخ يقاطع أخاه ويدور صراع كبير بين أفراد الأسرة قد تدفع بعض أفرادها إلى التعدي على الأصول بالضرب والشتم والشجار، رغم أن الحل بسيط يتمثل في القسمة الودية أو تعيين خبير يبيع وديا كل الأملاك لأن المزاد العلني هو خسارة حقيقية للورثة.
عن الحل الأمثل لتفادي هذه النزاعات التي تعصف بالأسرة، قالت كوثر كريكو إنّ التوعية بحقوق وواجبات المورث هو خير سبيل لنقلّل من مثل هذه المشاكل لان الشريعة حدّدت الأنصبة بدقة كاملة، لذلك يبقى فقط أن يعرف المرء ما له وما عليه، ونبّهت في ذات الوقت إلى أن قضايا التركة تأخذ مدة طويلة على مستوى المحاكم للفصل فيها، لذلك يحبّذ اللجوء إلى القسمة الودية بين الورثة حتى نحافظ على الروابط الأسرية والاجتماعية التي تعد اللّبنة الرئيسية لبناء مجتمع سوي ومستقر بعيد كل البعد عن الانشقاقات والتصدعات.