طباعة هذه الصفحة

قراءة أدبية في أعمـــــال الشّـــــاعرة سليمة مليزي

«الشّعر... نغمة لذيذة وصوت عذب»

بقلم: د ـ سمير عبد الرحمن

 

 

 

أجد إيناسي في سماع صوت المرأة الحرة بتموّجات صوت الشّاعرة سليمة مليزي، التي ترفض العبودية والعنف المادي والرمزي الذي يمارس ضد المرأة، فهي لا تحب لعبة المناورات والخداع وصنوف اللعب والأخابيث، ولا تستسيغ معاملة المرأة كأداة لاستحصال اللذة والنظر إليها من منظور ضيّق ألا وهو إرواء الشّهوات للرجل وتربية الذراري والقيام بالأشغال المنزلية فقط، مع استصغار مؤذ لعقلها وروحها وموهبتها، والتعامل معها من زاوية طلب اللذة وبحب يحركه الباه بطريقة متعسفة والرغبة الجامحة في التفوق والاستعلاء عليها بضروب من الشــر والنقص والظنون الفاسدة، في علاقة تحركها الأهواء المتناشزة في العقول المتكلسة التي تعربد برؤوس الرعاع والسفهاء والجهلاء، وبمنأى عن قسطاس الحكمة والتبصر والقيم الآدمية السوية.

بحس عال بالكرامة تنبّه الشّاعرة سليمة مليزي أهل الباطل وجهابذة الجهــل والأجناس الخشنة من الرجال الذين يغلفون الباطل بغلاف إنساني، أنّ المرأة حــرّة لابد من احترامها والنظر إليها من زاوية عقلية وروحية وإنسانية، وعــدم اختصار شخصيتها في بُعد واحد، ولقد أشارت الدكتورة لطيفة الزيات أنّ:
«الإنسان مجموعة ملكات عقلية ووجدانية وحسية، وأي اختلال في إشباع جانب يصاحبه نوع من الإحباط، وكلما كان الإشباع كان التوازن».
وعلى سياق متصل أومأت في غير مرة، أنه في زماننا يجنح الناس صوب المحسوسات واللّذائذ والمصالح الضيقة والجشع الفاحش ويهملون العالم الداخلي للإنسان، فتصاب كثرة كاثرة من الناس بالخواء الروحي فيغفلون اللياقة في التعامل مع الكائن الأنيق « المرأة»، حيث تشوب علاقتهم بالمرأة بمسحة سلبية، ويتميزون بالبرود العاطفي وخشونة في العلاقات الإنسانية، أو على حد تعبير عالم النفس الأمريكي دانييــل جولمان: «تنقصهم المهارة الأساسية للذكاء العاطفي، نجــدهم صمّاً بكماً عاطفياً، وهذا الفشل في تسجيل مشاعر الآخر هو أكبر نقطة ضعف في الذكاء العاطفي، بل هو فشل مأساوي في معنى إنسانية الإنسان».
صدقت الشّاعرة سليمة مليزي بنبرة حارة وصوت عــذب وبأسلوب راقٍ في التعبير بجمال الصورة وبلاغــة الإيجاز، وجزالة وفخامة القول وبصورة شعرية متأنّقــة حين قالت في قصيدتها «جموح الحرية»:
دع جســدي يركض كالفرس
حــراً في مداه
كاسراً أضلاع القفص
كاسراً قيــد خوفك
قيد الحرس، قيد العسس، قيد الوجس
حرّاً في علاه
جسدي ليس حكايات
أو شوارد من قصص
ليس عرشاً يملك بالســيف
ليس حرثاً مشاعاً للغصص
لست نزوة ليليــة
لست إسفنج غسيل
إنّنــي حريتي مهما يكــن
طال الزمن أو عــــز الثمن
سألقـــي بين القيود سبيل
دع جسدي حياً في مناه
أنا، حريتي حياتي وإلاّ
ما معنــى الحياة؟
ولست بحاجة للقول، أنّ المبدعة سليمة مليزي موهوبة حتى أطراف أصابعها، فهي شاعرة وصحفية وقاصة ومذيعة تركت أصــداء صوتها وآثار أقدامها شاخصة في الساحة الأدبية والثقافية في تجربة متميزة.
فبرنامج قراءات للأديبة سليمة مليزي الذي بثّتــه إذاعة الاتحاد العالمي للثقافة والأدب، ثري وحافل باللمعات الإبداعية والصور الخلابة والموسيقى العــذبة والصوت النّاعم السلس، يطير بنا في فضــاء أليق عابق بالمسحة الرومانسية والمهارة والجمال، ويجوب بنا في دروب الشعر والآهات الكظيمة والصلوات الصامتة، والإيقاعات الساحرة والتعابير الباهرة الممزوجة بالمسرات والأحزان والتشامخ والتألق والذكريات وزفرات العاشقين وهتاف روحي مرهــف وإيماءات فسيولوجيا الصوت الفخـــم برنينه الأنيق المشحون بالطاقة الشعرية واللــذة الجمالية والفنية، ملفوفاً بالدفء والحيوية ومتعة التلذذ بالحزن والشعر والغناء، والمــــد والجــزر العاطفي والمفاكهة والمباسمة في أدب اللسان ودقات أنباض الحياة.
الشّاعرة سليمة مليزي غاية في الرقة والذوق، تحتل مكانة شـــماء في عروش القلوب ومترعة برائحة الحــب والحنين، تمنحنا جرعات مكثّفة من العاطفة وتنشــر المودة والفرح في تجربة شعرية خصبــة بحس رقيق ومهـــذب، وتطلق صرخات هادئة في شعرها في غاية الشجاعة والعفــة، وبتنميقات أسلوبية جميلة وبتموجات صوتية لطيفة تتدفق منها البساطة وعذوبة الانسياب، بهنــدام شعري أنيق وبكلمات ناعمة تلامس الروح وتعابث أوتار القلب.
في شعرها ترمــي سليمة مليزي بأسئلتها في الفضــاء العمومي، وتنثر أحلامها وأشواقها وتقتحم المسالك العصيــة وتقتل الأرواح الشريرة، وتدمّر النّفوس المريضــة وتحفر في المناطق الغويرة في اللاّوعــي، فالشعر على حــد تعبير الشاّعر أدونيس: «طاقة تدفع الإنسان إلى أبعـد ممّا هو، إلى أعلى مما هو، إلى تجاوز نفسه باستمرار».
فشــعر سليمة مليزي يتجاوز قوة الألم والغربة، ورعشــة الخوف وســدف الظّلام، وبخيالها وقلمها الأنيس الممشـــوق تركض في مروج وسهول وغابات الشعر ترسم الذكريات والقصص، وتبني القصور والسقوف المرصعة والقــبب المزركشــة، وترفرف كفراشــة في الفضاء وتسكن جنات الحــب والجمال:  
حين ترسم ذكرياتي
قصصك الحميمة
تنثـر عشــقك على جســدي..
وأبنــي لك قصراً من سلسبيل..
في روحي..
وترانيم صوتك تطربني..
تحرقني..
تقتلني..
ترميني بين خفايا العشــــق..
أجــدك تغفو على صــدري..
وأحكــي لك قصص ألف ليلة وليلة..
أزرع على جسدك عطر أميرة (إزبال أردن)
أســكنك فيافي شعــر نزار
أنثر أزهار قلبي على وجنتيك..
وأمطرك قبلاتي حتى الثمل..
كطفل يحنّ إلى لعبة الصغار..
يعــدو فوق حدائق قلبي
ويقطف ثمار الروح..
ويسكنني جنّات الخلــد..