طباعة هذه الصفحة

“الشعب” ترافق خيمة سي غالم الشيباني في وعدتها السّنوية بوهران

الفنتازيا، الأغاني البدوية والشّعر الملحون تحت دوي البارود

وهران: براهمية مسعودة

توثيق المحبّة بالله وإصلاح البين وطقوس تخلد الذّاكرة الشّعبية


عاشت بلدية طفرواي، جنوب وهران، نهاية الأسبوع، أجواء احتفالية بهيجة، استقطبت آلاف المواطنين القادمين من كل حدب وصوب لمشاركة أكبر عروش المنطقة في إحياء وعدة الولي الصالح “سيدي غالم”، التي حضرتها “الشعب” منذ يوم الثلاثاء المنصرم، تاريخ نصب الخيم التي تتم وفق مخطط كل عرش.

الوعدة المذكورة، جرت فعالياتها على مدار ثلاثة أيام كاملة بصبغة تراثية شعبية، ميزتها عروض الفنتازيا والأغاني البدوية وحلقات الشعر الملحون على دوي البارود، ونغمات الناي وما توارثوه عن أجدادهم، من طقوس وعادات أصبحت تندثر مع مرور الوقت.
«الشعب” قضت يوما كاملا في ضيافة خيمة “غالم الشيباني” الوافد من مدينة سيدي بلعباس، الشيخ الشهم الذي جلب كل أفراد عائلته وبعض جيرانه صغار وكبارا، نساء ورجالا للمشاركة في هذه الاحتفالية التي تنطوي على عادات وتقاليد مميزة لا تتكرر في مناسبة أخرى.
 هذا بالضبط ما عاشت “الشعب” أجواءه وسط النسوة وهنّ يتسارعن متسابقات لإعداد طبق الكسكسي باللحم والخضار، بعد تهيئة الخيمة منذ الساعة التاسعة صباحا وإلى غاية المساء لتحسين ظروف استقبال قاصديها في أجواء مميزة من المرح والفرح والتكافل غير المسبوق والتراحم البارز بين الأهل والأحباب والأصدقاء، لتختم كعاداتها في المواسم السالفة بالدعاء والزغاريد.
 ونحن نشاركهم فرحتهم، داهمنا الشوق والحنين لنسترجع الماضي الجميل من  الأخلاق والأدب والقيم، وبدا ذلك واضحا جليا من خلال تنافس شيوخ وأعيان عرش الغوالم على إطعام الزوار إلى غاية ساعات متأخرة من الليل، حيث تنوعت الأطباق والأكلات على مائدة عشاء خيمة “الشيباني” من شوربة الحريرة والحميس والسلطة وطبق الزيتون والفواكه الجافة مع المشمش والبرقوق، وغيرها من مختلف أنواع المشروبات.
 وكما هو متداول في عرفهم، يشكّل “نحر الأضاحي” محطة أساسية للأسر “الغوالمية”، والتي تعمل من خلال هذا التقليد على تكريس “الصدقة” والانتماء العربي الاسلامي، حسبما أكده لنا سيدي غالم الشيباني الذي ساهم “بذبح 4 أضاحي سمان لوجه الله ولإحياء ذكرى الشيخ والولي الصالح”.
  كما نقلت “الشعب” تلك الأجواء التنافسية بين هذا العرش الكبير في ركوب الخيل واللباس التقليدي، وتلك الأجواء البهيجة الممزوجة بالصياح وأصوات ضرب العصي وزغاريد النساء، والفرق الفلكلورية التي أمتعت الحاضرين بنغمات الزرنة والقصبة ودقات الطبول.
 وبهذه المناسبة، جلب الشيخ “الشيباني” قافلة من أفحل الأحصنة يقودها أولاده وأحفاده، الذين أبهروا الحضور بمهارتهم في ركوب الخيل وممارسة الفنتازيا، وكان أصغر سنهم لا يتعدى 16 عاما، كما أضاف نفس المتحدث، مؤكدا بأنّ العائلات الغوالمية “تجتهد كثيرا في تحبيب وترغيب أطفالها الصغار في ركوب الخيل، وتذكرهم بأن إحياء عادات أجدادهم هو بمثابة الالتزام، وذلك من خلال إشراكهم في مختلف هذه التظاهرات الشعبية وغرس الأخلاق الإسلامية والمبادئ والأصول الثابتة”.

تحقيق المودّة والألفة بين النّاس
هذه الطّقوس الاحتفالية التي تنهل من تقاليد الجزائر العريقة، تحبّب الأجيال الصّاعدة وتحفّزهم على الاستعداد لمواصلة مشوار أجدادهم في السنوات المقبلة دون إجبار وإكراه يضيف جيلالي جميل الشيباني 3، ابن غالم، واحد من أهم أعضاء جمعية الغوالم للفنتازيا وتربية الخيول بسيدي بلعباس الذي قال “أنّهم أثناء قيامهم بمختلف الطقوس يكبرون لله وفي سبيل الله لتقوية روح التآخي والتصالح، والاعتزاز بخيولهم والحفاظ على اللباس العربي التقليدي”.

الحفاظ على التّراث المادي والمعنوي والعمل على تقويته
 وقال أنّ الوعدة “موعدا” للم شمل أبناء الوطن الواحد، وفرصة لإصلاح ذات البين مع الله والخلق وتحقيق المودة والألفة بين الناس لما فيها من الأجر الجزيل والخير العميم؛ مستعرضا دورها البارز في توطيد وتقوية العلاقات بين أفراد العرش وتقوية أواصره، بعيدا عن ما وصفه الكثير بالبدع والخرفات”.
كما دعا الحاج بوخلخال، الوافد هو الآخر من مدينة سيدي بلعباس إلى الحفاظ على التراث المادي والمعنوي والعمل على تقويته عن طريق دعمه والمساهمة سلطة وشعبا في الحفاظ على الثقافة الشعبية المتمثلة في ممارسة فن ركوب الخيل والفنتازيا الجزائرية التقليدية، قائلا أن “مثل هذه الممارسات بدأت تفقد شيئا فشيئا بريقها بسبب ارتفاع أسعار البارود الذي يبلغ الكيلوغرام الواحد منه 6 آلاف دج”

عادات ومعتقدات منبوذة
ومن الطّقوس التي تميّز هذه الوعدة وبالضبط في يومها الأخير، أن قوافل الخيول المشاركة تتّجه صوب ضريح الولي الصالح سيدي غالم وسط طوابير الناس المكتظة وطواف الزوار، حيث يطلق كل واحد من الخيالة عدة عيارات من البارود مقابل الضريح الكائن بالقرب من مقبرة ألشهداء وسط الزغاريد والأهازيج، ظنّا أنهم بهذا الفعل يحفظهم الله ويرعاهم على خيولهم، فيما يرفع الحضور أيديهم للدعاء وهنّ يذرفن الدموع في غالب الأحيان، في صورة رآها البعض أنّها تدخل في البدع.
كما لفت انتباهنا أجواء الرقص والتبريحات على وقع الطبل وكلمات من الملحون الماجن، في حضور يسيء للعادات، وبعيدا عن المبادئ والأخلاق والقيم الدينية، وهو ما جعل المصالح الأمنية وعلى رأسهم عناصر الدرك الوطني تكثّف من تواجدها، لاسيما في ظل التوافد الكبير للسيارات والحافلات إلى ساعات متأخرة من الليل.
 ومن محاسن الصدف ونحن نستجوب هؤلاء المشايخ المباركين، وإذا بأحد الشباب من مدينة مستغانم يقاطعنا فجأة ليبدأ في قراءة بعض القصائد في الشعر الملحون عن صفات وشمائل الرسول عليه الصلاة والسلام، بعدما دخل على الخط كهلا خمسيني أمتعنا بقصائد من الشعر الملحون عن الثورة ورجالها الأشاوس، ليتحوّل اللقاء إلى ما أشبه بالحلقة، توافد غليها عشرات المواطنين، تأثّروا ببراعة كلماتها الجميلة وصورها الشّعرية المبدعة.