طباعة هذه الصفحة

بول ديفارج، رئيس أساقفة الجزائر في حوار مع «الشعب»:

«العيش معا بسلام ».. مبادرة جزائرية جديرة بالتنويه

حاورته: فضيلة بودريش

المصالحة الوطنية مرجعية  التسامح

جاء صوته داعما بقوة للأصوات التي تنشد السلم والحرية في العالم وتعبّد برؤيتها الدقيقة جسرا متينا للعيش معا في سلام وتآخ ومودة، مشترطا تقبل الآخر مهما اختلفت جذوره وانتماءاته وإيديولوجيته وقناعاته. هو مقتنع أن الإنسان يلتقي مع أخيه الإنسان في القيم الإنسانية المشتركة، ولا مفرّ من خيار التعايش الذي ينبض في صميم وجدان الشعوب وثقافتها، ولا خوف من الانفتاح، لأنه يساعد الشعوب على الارتقاء بهويتها..بهذه العبارات رد  بول ديفارج، رئيس أساقفة الجزائر عن أسئلة جريدة «الشعب» التي خصّها بحديث سلط فيه الضوء على مختلف المسائل التي تتعلق بحوار الحضارات وتأثيرات ما عرف بـ «الربيع العربي» وحرية المعتقد وتجربة المصالحة الجزائرية..

»الشعب»:  تم اختيار الجزائر أول عاصمة للعيش في سلام عبر العالم. ماذا يحمل هذا العرفان في طيّاته؟
بول ديفارج، رئيس أساقفة الجزائر: مباشرة بعد أن تلقيت خبرا مفاده أن مشروع الشيخ خالد بن تونس والطريقة العلوية، وصل إلى التتويج بيوم خاص «للعيش معا في سلام»، اغتبطت كثيرا بعد أن وصل هذا المشروع إلى النهاية ورأى النور نحو الإرساء على أرض الواقع. ما زاد من سعادتي أن الجزائر كانت البلد الذي قدم للأمم المتحدة المشروع، وبعد ذلك حظي المقترح بإجماع وتزكية جميع البلدان، حيث لم تتردد أية دولة في التصويت عليه، وتقاطعوا ملتفين حول مسعى تأسيس اليوم العالمي «للعيش معا في سلام».
القرار أكثر  تاريخي، بل روحي بأبعد مداه في عالم القرية الواحدة وتشابك تعقيداتها؟
 «التعايش معا» مسألة مهمة للجميع، وعلى سبيل المثال كمسيحي نحرص على العيش مع بعضنا كأخوة يجمعنا الاحترام وفي جو يتسم بالهدوء والتعايش في سلام. وبالموازاة مع ذلك عندما تحدثت مع خالد بن تونس، تأكدت بأنه قرار أكثر من تاريخي بل روحي، من شأنه أن يساعد العالم في  التقدم بهدف العيش معا في سلام، على خلفية أن العالم في الوقت الراهن يعيش في ظروف صعبة، في ظل وجود توتر وانغلاق البلدان، هناك دول تبحث عن حقوقها وتنسى بلدانا أخرى، وحتى بالنسبة لموضوع المهاجرين فإنه مهم جدا، ولا يخفى أنه كل عام نفكر في أهمية التعايش، وبعد أن ثبت أن جميع البلدان صوتت على التعايش معا، فإن التعايش ينبض في صميم قلوب الشعوب والثقافات، ولا ينبغي إنكار أن التعايش يوجد به صعوبات وعوائق، ولا يخفى أننا نتطلع كي يعمل هذا اليوم العالمي للسير والعيش أكثر فأكثر في سلام.
لعل ما يزيد من خصوصية هذا القرار المهم،  أن المقترح بادرت به الجزائر التي مرّت بظروف صعبة، ونحرص بشكل تدريجي لقبول بعضنا البعض لنعيش كلنا في سلام، وبالتالي نعود إلى السلم الاجتماعي الذي يعمّ الجميع وحتى نتسامح مع المخطئين.

 حتى في بؤر التوّتر يمكننا الوصول للعيش معًا في سلام
 
ألا ترون أن الجزائر كان البلد الأول الذي بادر بمصالحة وطنية مرجعية في العالم، أعطى ذلك بعدا حقيقيا لمفهوم التعايش، ما رأيك؟
 ليست لدي بدقة التجارب السابقة للمصالحة، ماعدا تجربة جنوب إفريقيا، التي عاشت ظروفا صعبة وعانت من العنصرية، وتمكنت بعد ذلك من إرساء السلم وبناء بلد جديد، يتعايش فيه صاحب البشرة البيضاء مع السمراء، وتطلب ذلك مسارا طويلا ولجنة حقيقية من أجل معرفة كل الحقيقة. لا يخفى أن مسار الجزائر في المصالحة كان رائعا، ونجحت في العودة إلى السلم الاجتماعي، بالرغم من مواجهتها لبعض العقبات، وبإمكانها الوصول إلى غاية نهاية مسار المصالحة. وأرى أنه في اليوم العالمي للتعايش، للجزائر تجربة مهمة يجب أن تستمر فيها، لما أظهرته من نتائج ملموسة استفاد منها المجتمع خاصة من الجانب الاجتماعي والاقتصادي والتنموي والتواصل مع الشعوب الأخرى، وعلى صعيد آخر عودة الاستقرار، الهدوء واختفاء العنف.
حتى لا يبقى التعايش مجرّد شعار، بل قاسما مشتركا قولا وعملا، ما هي نظرتكم لهذا المسعى؟
تتطلع جميع الشعوب من صميم وجدانها وتتوق النساء والرجال في العالم إلى تكريس السلم وتعميقه وتوسيع دائرته، بما يعني أن القاعدة التي قمت باستنتاجها على ضوء خبرتي، تتمثل في قبول كل الإنسانية بإنسانيتها، سواء كان الشخص مسيحيا أو مسلما جزائريا أو أمريكيا، يابانيا أو باكستانيا أو فرنسيا، وكل إنسان مخلوق من الخالق في إنسانيته توجد بداخله طيبة، وإمكانيات الطيبة ينبغي أن تدفعنا إلى التعارف في إطار إنسانيتنا، حيث لا يجب أن نتعرف على الآخر، انطلاقا من انتمائه أو إيديولوجيته.. كل إنسان أخ للإنسان في مفهوم الإنسانية وقيمها الثابتة المقدسة. وقفت على هذه القيمة في الجزائر، حيث لدي جزائريين أصدقاء بمثابة الأخوة. ما يعزز هذا الطرح أن العديد من الجزائريين يتزوّجون من الأجانب، وهذا ما يعكس أن الموّدة والمحبة والأخوّة أمر مهم يجب أن نثق فيها ونبني عليها، ولا ننكر في هذا لإطار الانتماء لبلداننا، ومن حق كل واحد أن يحب بلده.
 مرّت عديد البلدان العربية بعواصف ما يسمى «الربيع العربي»، ألم يكن ممكنا إنجاز تطلعات الشعوب دون تعرّض أمنها ونموّها وأجيالها للفوضى والضياع، كما هي الصورة اليوم؟
  أعتقد أنها قضية سياسية، ولست برجل السياسة لأخوض في هذا الموضوع، وأظن أن التطلع إلى الحياة في الحرية يوجد في عمق قلوب الشعوب وجميع الناس، و»الربيع العربي» تعرض إلى الفشل، لكن نتمنى أن تعيش الشعوب في سلم واستقرار وسلام، وعلى وجه الخصوص في كل من سوريا واليمن وليبيا، ولا يخفى أن هناك صراعات داخلية وخارجية ولست خبيرا وليست لدي كل الجزئيات، وفوق ذلك لست محللا لأتحدث عن ذلك. لكن إيماني عميق أنه يمكننا الوصول للعيش معا في سلام، غير أنه يشترط تقبل الآخر، كما هو وليس كما أريد، ورغم أن كل الشعوب محبة وتتوق للسلم والتعايش، لكن توجد صعوبات بسبب ظروف داخلية ومصالح  وإرادات قوية ووضع عالمي ومحيط عالمي لا يساعد دائما على ذلك.
تبين أن ما يعرف بـ»الربيع العربي» ليس وليد تطلعات محلية وإنما ضخ فيها أطماع قوى خارجية، مثلما ترّوج إليه نظرية المؤامرة؟
 يصعب تحليل الجزئيات ومختلف الجوانب، من أجل الوصول إلى حكم نهائي حول هذا الموضوع، لكن هناك عوامل خارجية وأحلام داخلية، غير أن التطلع موجود وقائم، ولا شك أنه يأتي الوقت الذي تصل فيه الشعوب إلى حرية أكبر.

الأجانب يمارسون طقوسهم الدينية في سلام وبحرية

الجزائر وضعت حرية المعتقد في صميم تحوّلاتها..كيف تقيم التجربة في الميدان؟
 لا أخفي بأنني جد مرتاح وفخور أن الدستور الجزائري ينص على حرية الأعراف والضمير وحرية ممارسة الطقوس المعترف بها والتي يحفظها الدستور وهو أمر كبير في الجزائر، وعلى أرض الواقع المسيحيون على سبيل المثال ليست لديهم أي صعوبة مع السلطات، لكن جزائريين مسيحيين أحيانا يجدون صعوبة مع عائلاتهم، ولكنهم سيصلون إلى القبول مع مرور الوقت، ونسير في الجزائر في طريق التقدم لأن كل الأجانب يمارسون طقوسهم الدينية في سلام وحرية وبشكل طبيعي.

معالجة العنف والتطرف يكون بالسلم

لماذا حوار الحضارات يراوح مكانه وتعترضه عراقيل ومقاومة بعد أن حقق انطلاقة في وقت سابق؟
 في الوقت الراهن وصلنا إلى ظرف مغاير، حيث أن البلدان والثقافات عوض أن تنفتح على ثقافات أخرى انغلقت على نفسها، ويمكن القول أن هذا الانغلاق جاء من الخوف، ولأن العولمة صارت تخيف الإنسان والشعوب والثقافات تخاف من فقدان خصوصية ثقافتها، وإلى جانب الخوف أن تسيطر ثقافة على ثقافة أخرى وبالتالي تهيمن عليها، ومن ثم تسجل محاولات للانغلاق، وينتج عن هذا الانغلاق صعوبات جديدة حيث لا يقبل المهاجرون ويصعب التبادل التجاري، مع صعوبة التنقل والحصول على التأشيرة.

الانفتاح على الآخر يتطلب التخلّص من الخوف

للأسف صار التطرف في بعض المناطق السمة الطاغية، وما زاد من الخطر بروز مجموعات تستعمل الدين لأغراض ضيّقة ضاربة التسامح عرض الحائط.. كيف يمكن تجاوز ذلك بالحوار؟
 يمكن وصف التطرف بالمرض الإيديولوجي والمرض الديني، أو تغيير فاسد وطريقة معالجته أننا لا نقابل التطرف بتطرف آخر، لأنه توجد خطورة الوصول إلى العنف، ومواجهة العنف والتطرف يكون بالسلم، لذا ينبغي فتح الحوار في أقرب وقت إلى أقصى حد، ولأن التطرف يرفض الحوار، يجب التحلي بالصبر والهدوء بدون منح جواب للمتطرف بالتطرف، وما ينبغي تسليط الضوء عليه أن الناس قادرون على التغيير، وعلى خلفية أن الشخص المنغلق على نفسه مرشح أن يكون متطرفا، لذا ينبغي الصبر على الشخص العنيف حتى يتلاشى عنه العنف، وبالتالي نعترف بالآخر ونكتشف في صميم إيماننا حب الخالق وحب الآخر، ومن ثم خدمة «ربي» وخدمة الآخر، وأعتقد أن في جميع الأديان حب الخالق يسير مع حب الآخر.
سجل في فترات سابقة ببعض العواصم الغربية اعتداءات على رموز الدين الإسلامي، بل استهدفت أفرادا من الجالية المسلمة، برأيك ألا يغذي هذا تيار التطرف؟
 إن الخوف يجعل الإنسان ينغلق ويبتعد، وبعد ذلك يصبح قلبه قاسيا، صحيح يجب قبول المسلمين، ويجب التعرف واللقاء مع بعضنا البعض والحوار حتى نتعرف أكثر على بعضنا، وهذا ما يجعل الخوف يتقلص، ولأن الخوف ينتج عن جهلنا بالآخر، وكل الأمور تنطلق من العائلة والمدرسة وكذا تنشئة الأطفال على قبول الآخر، مهما كان مختلفا عنه في انتمائه ولونه وديانته ولغته.
 
     الثقافة لا تهيمن، بل تنفتح

كيف نبني تعايشا من دون أن يذوب مجتمع في قيم مجتمع آخر؟
إنه التحدي أي الاعتراف بالآخر بقيمه، لأن جميع الثقافات ثرية وكل شعب له قيم راسخة يحترمها، وتتطلب عملية الانفتاح على الآخر التخلص من الخوف، لأنني إذا كنت خائفا من الآخر لا أقبل الانفتاح عليه، أي لا أصبح أرى الآخر ومن الطبيعي أنني أرفضه. وللتوضيح أنه لدى كل شعب قيم إيجابية واستعداد للتفتح على شعب آخر من خلال الاجتماع واللقاء والحوار، لأنها كلها تجعلنا نرتقي في إنسانيتنا، ومن ثم التقدم في العيش في سلام وهدوء وتقدم ورفاهية.
  في وسط جميع الشعوب يوجد رجال سلم ينصحون بالتخفيف من العدوانية والخوف، وبالموازاة مع ذلك لما أعود إلى فرنسا أؤكد بأنني أعيش في الجزائر في سلام ومحبة ولدي أصدقاء، وبهذه الاعترافات الصحيحة فإن التصورات الخاطئة تتلاشى.
 لعب الوطن العربي دورا كبيرا وساهم في بناء الحضارة الإنسانية، وتحمل الكثير جراء إختلالاتها.. كيف يمكن الانتقال بهذا الوطن العربي إلى وضعية انسجام مع النسيج الإنساني بنفس القيم التي يحملها والثقافة التي يتنفس منها؟
 ساعدت الحضارة العربية بلا شك في تطوير الحضارات،  وساهمت في تقدم العالم، وأظن أن للوطن العربي قيم، ولا يمكن لأي ثقافة أن تهيمن وتسيطر، وإنما تنفتح، وإذا انفتحت لا أخاف أن أفقد هويتي، بل أرتقي بهويتي أكثر خاصة إذا فهمت الآخر، ومن الضروري أن يحاول كل شخص أن يكون معطاءً للآخرين بحسب قدراته وكذا من خلال كتبه، لأن الكتب يمكنها تجاوز الحدود وقادرة على لعب دور التقريب بين الإنسانية.
 كلمة أخيرة ؟
 أتمنى أن ترتقي الجزائر وتتقدم في المواطنة التي تسمح لكل واحد العيش بطريقته في سلام وسلم، لأن المواطنة تساعد كثيرا على ذلك، كما يجب قبول اختلافاتنا..