طباعة هذه الصفحة

أستاذ التاريخ بجامعة المسيلة الدكتور عبد الحميد عمران لـ «الشعب»:

علينا النظر واستخلاص العبر للبناء والتطلّع نحو المستقبل بعين التفاؤل

أجرى الحوار: نورالدين لعراجي

مرجعية الثورة ومواثيقها تعرّضت بكل أسف للتحريف والتشويه

تحقيق استقلال الجزائر كان في ظلّ الوحدة الترابية والشعبية
حذاري من الوقوع في فخّ التنافر والعداء للوطن وللأمة

أكد أستاذ التاريخ بجامعة محمد بوضياف بالمسيلة الدكتور عبد الحميد عمران بأن السلوك السياسي للشعب الجزائري، عليه أن يستلهم من تلك المبادئ التاريخية، وأن يتجسد ذاك من أجل وحدة الوطن والشعب.. كما حثّ على ذلك بيان نوفمبر الذي رسم الهدف من الثورة وهو تحقيق استقلال الجزائر في ظلّ الوحدة الترابية والشعبية.. البيان الذي حدّد طبيعة الدولة الجزائرية المستقلة بهويتها الإسلامية من أجل إقامة جمهورية جزائرية شعبية في إطار المبادئ الإسلامية. البيان حدد نوعية نظام الحكم.. ودور المجتمع في بناء هذا النظام وكذا الأسس الذي يرتكز عليها، كما اوضح ان تبلور الفكر الوطني ذو المشارب الفلسفية المتعدّدة والمتفتحة على الثقافات التحررية والرؤى الدولية عقب الحرب الكونية الثانية، كان مع التأصيل الوطني الممتد في جذور هويته التي تشكّلت منذ مئات السنين.

-  «الشعب»:  64 سنة مرت على ثورة نوفمبر المجيدة، كيف تقيّمون المحطتين 1954 - 2018 ؟ على اعتبار ان بيان اول نوفمبر المرجع الأصلي لبناء الدولة الوطنية، هل لكم تقديم بعض مواصفاتها؟

 الدكتور عبد الحميد عمران: وجّب الوقوف أمامه للتقييم وإعادة النظر.. وإصلاح القاطرة واستخلاص العبر للبناء والتطلّع نحو المستقبل بعين التفاؤل، حين تمّت صياغة بيان أول نوفمبر 1954 من قبل جماعة آمنت بالكفاح المسلح، وبعد عدم استجابة السلطات الاستعمارية للنداءات الوطنية وتراجع النضال السياسي في ظروف دولية اتسمت ببداية الصراع الدولي الإيديولوجي وتنامي الكفاح التحرّري المسلح عقب الحرب الكونية الثانية.. وما صاحب ذلك من بؤس للجزائريين عقب المجازر البشعة اللاانسانية من قبل الاستدمار الفرنسي.. وأيضا بتبلور الفكر الوطني ذو المشارب الفلسفية المتعدّدة والمتفتّحة على الثقافات التحررية والرؤى الدولية عقب الحرب الكونية الثانية، مع التأصيل الوطني الممتد في جذور هويته التي تشكلت منذ مئات السنين.. ووضع المناضلون بعد أزمة حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية الأهداف والغايات من الكفاح المسلح وسبل تحقيق الاستقلال.. كان بيان نوفمبر قد جمع مناضلين من مختلف جهات الوطن، رجال جمعهم الهم الأكبر وهو تحرير الجزائر من استدمار غاشم أهلك البلاد والعباد وعاث في الجزائر فسادا طيلة قرن ونيف من الزمن.. البيان الذي حدّد طبيعة الدولة الجزائرية المستقلة بهويتها الإسلامية من أجل إقامة جمهورية جزائرية شعبية في إطار المبادئ الإسلامية. البيان حدّد نوعية نظام الحكم.. ودور المجتمع في بناء هذا النظام وكذا الأسس الذي يرتكز عليها..

-   تحرص الدولة ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب على أن بيان أول نوفمبر يعدّ القاسم المشترك للهوية الوطنية، هل لكم أن توضّحوا سقوط بعض الهيئات في التنكّر لهذه المرجعية؟

 مرجعية الثورة ومواثيقها تعرضت بكل أسف للتحريف والتشويه من قبل أغلب هذه المنظمات والجمعيات السياسية والمدنية، لتستفيد من الريع لا لخدمة الوطن ولكن للاستفادة الذاتية وخدمة المصالح الضيقة التي تحقّق لها بعض المكاسب السلطوية أو المادية.. بعيدا عن التضحيات الوطنية.. وبعيدا عن خدمة الشعب والوطن وبعيدا عن المرجعيات التي أصّلت للأمة الجزائرية بمكوناتها الثقافية والجيوسياسية،، وأعتقد أن السلوك السياسي يجب عليه أن يستلهم من تلك المبادئ وأن يتجسّد ذاك من أجل وحدة الوطن والشعب.. كما حثّ على ذلك بيان نوفمبر الذي رسم الهدف من الثورة وهو تحقيق استقلال الجزائر في ظل الوحدة الترابية والشعبية.. وعلى هذه المنظمات السياسية الكف عن المتاجرة الخسيسة بالمبادئ الوطنية وإظهار نفسها بأنها حامية لتلك المبادئ، في حين نجدها تكرس فعل الانشقاق بعصبية مقيتة لأفكارها البراغماتية المصلحية المادية، وإقصاء الآخر وليس لخدمة الوطن والشعب والارتكاز على مبادئه، والاستفادة من تاريخه.

-   في ظلّ بقاء معامل مادة التاريخ في الحدود الدنيا، وابتعاد المنظومة التربوية عن خلق آليات التحفيز لدراسة تاريخ أول نوفمبر والمقاومة للتلاميذ بمختلف مراحل التعليم، هل يؤثر على ثقافة أبنائنا؟

  يفترض في الحكومات التي تحترم تاريخها أن تعتز به كمقوّم من مقومات البناء وركيزة من ركائزه للانطلاق نحو المستقبل الواعد بالخير والتطور.. تاريخنا القديم والوسيط والحديث والمعاصر مليء بالمحطات المشرقة التي تشكل قدوّة بناء وفخر.. لكن المنظومة التربوية والحكومات المتعاقبة في الجزائر المستقلة اهتمت ببناء الهيكل دون الإنسان المتعايش والمتآخي الطامح إلى غد أفضل.. بكل مرارة حتى التاريخ الذي يُدرس في المدرسة يعتمد على حفظ المعالم وتلقينها.. بعيدا عن التحليل والاستنتاج وأخذ العبر بمحاسنها ومساوئها فهو تاريخ تلقيني هدفه ذكر المحطات دون تثبيت وتحليل واستنباط واستفادة من أجل بناء رجل الغد المعتز بقيمه الحضارية والإنسانية، مما قد يؤدي إلى التفكك والتقليد الرديء والوقوع في فخّ التنافر والعداء للوطن وللأمة.. والتنصّل من قيّمه.

-   يتخرّج من معاهد التاريخ بجامعاتنا الجزائرية الآلاف من الطلبة، لكن لا نسمع عنهم أي جهد في تحصيل مجال البحث العلمي للمادة التاريخية، أين يكمن الخلل؟

  الجامعة هي نتاج للمنظومة التي وفدت منها أي التربية.. الطالب الذي لا يتقن فن المناقشة ولا يميل إلى المطالعة والتحليل وتنويع مصادره المعرفية ومرجعياته الفكرية لا يعوّل عليه في مجال البحث العلمي، الطالب الذي همّه تحصيل العلامات التقييمية من أجل أخذ شهادة، وليس تحصيل العلم والمعرفة لا يعوّل عليه،، الأستاذ الذي يتعصّب لآرائه ويفرض أفكاره على الطالب فرضا، لا يمكنه أن ينتج أفكارا.. وأيضا البرامج والمناهج غير المتوازنة والتي لا تخدم التكاملية المطلوبة ولا التكوين الكافي للطالب.. ورغم هذا الوضع البائس توجد محاولات من قبل باحثين وبعض مخابر البحث - أشير هنا أن الكثير من هذه المخابر قد تحوّلت إلى ملكيات ذاتيه للمؤسس صاحب المشروع لخدمة مصالحه الذاتية - هناك دراسات علمية جادة في مجال البحث التاريخي وجب تثمينها ويبقى على الحكومة أن تقف بين الحين والحين موقف المصحّح للأخطاء والسياسات في المنظومة الجامعية وإخراج الجامعة من دائرة الخدمة الاجتماعية وترضيّة الطالب إلى دائرة البحث العلمي النزيه.

- تشكّل رسائل التخرّج في الماستر والدكتوراه حصة الأسد سنويا بالنسبة لباقي التخصّصات وتبقى حبيسة الأدراج، ماهي الحلول التي ترونها ضرورية لإعادة الاعتبار لها وتصل القارئ

 المذكرات المنجزة في المراحل الجامعية سواء الماجستير سابقا أو الماستر حاليا مع رسائل الدكتوراه والتي تنجز في إطار البحث العلمي، يجب أن تغربل ليظهر الغث من السمين.. كما يجب إعادة النظر في طرائق المناقشة والتقييم التي تقوم حاليا على العُصب واختيارات الطالب والمشرف ليتم استقدام الأصحاب.. وطغيان المجاملاتية على حساب البحث العلمي وانتشار ظاهرة السرقات العلمية بشكل فاضح وفجّ دون ردع رغم القوانين الزاجرة..
والمنجز تكرار واستنساخ من بحوث أخرى في غياب طرائق ومناهج البحث العلمي السوي وعدم التعامل مع المصادر والأرشيف والوثائق بطرق علمية أصيلة.. هناك بعض البحوث الجدية التي يجب تقديمها وطبعها والترويج لها إعلاميا وفتح النقاش حولها للاستفادة منها.

- تبقى الشهادات التاريخية محصورة في شخصيات معيّنة بالمقابل تعكف المتاحف على تسجيل شهادات أخرى كيف نتأكّد من سلامتها وخروجها من الذاتية ؟

 الذاتية أصيلة في النفس البشرية والخروج من شر نفتها يتطلّب ذكاءً ومهارة من قبل الباحث من خلال المقاربة والتحليل والمناقشة والاستعانة باختصاصات أخرى لتحليل شخصية الشاهد وقياس درجة ذاتيته.. خصوصا وأن القلة الصادقة القليلة من المجاهدين تعاني من الشيخوخة وأمراضها. وبالتالي صعوبة الوصول إلى صدق الرواية ومناقشتها بالعودة إلى الأرشيف من قرارات وصحف وشهادات أخرى للمقارنة.

- في ظلّ تغييب الجامعة عن دورها في كتابة تاريخ الثورة وإجراء ملتقيات وندوات؛ في رأيكم أي دور لها يمكن تفعيله؟

 الجامعات أنجزت رسائل مهمة لباحثين حول التاريخ الوطني منذ الاستقلال إلى اليوم، وتنظم ملتقيات علمية دوريا وتطرح إشكاليات للمناقشة، لكن يبقى الإعلام والتوثيق عائقا نظرا لظروف عديدة منها قلة الوسائل للحفظ والطباعة والتوزيع والترويج.

كلمة أخيرة.

التاريخ الذي لا يُدرّس ولا يناقش ولا يستفاد من محاسنه ومساوئه، والذي يستغل مناسباتيا من قبل فئات تتاجر بنضال من أنجزه، لا يمكنه أن يبني وطنا.. وشكرا لـ جريدة «الشعب «التي منحتني مساحة البوح هذه، أملي أن تكون الجزائر أفضل