طباعة هذه الصفحة

الأستاذ الجامعي فتاح كمال لـ «الشعب»:

تحقيق الرّقابة على دستورية القوانين ضمانة لبناء دولة الحق

حاورته: أم الخير سلاطنية

تحدّث فتاح كمال، الأستاذ الجامعي والباحث بكلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة مصطفى اسطمبولي بمعسكر لـ «الشعب»، عن مراجعة الدستور، في المحاور التي دعا رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى إثراء النّقاش فيها من خلال تنصيب لجنة خبراء، حيث تحدّث عن محور الحقوق والحريات ومكافحة الفساد وأخلقة الحياة السياسية والعامة في هذا الحوار.

«الشعب: كيف تصف تجربة الجزائر في مجال الحقوق والحريات، وبالأخص حماية التظاهر السلمي وحرية الرأي والتعبير والصّحافة، وما هي الضّوابط والخطوط الحمراء الواجب التزامها حتى لا تتحول نعمة الحرية إلى نقمة،هنا طبعا من خلال القوانين والتشريعات التي يجب أن تؤطّر مجال الحقوق والحريات؟
 الأستاذ فتاح كمال: تعتبر الحقوق والحريات العامّة من أهم المبادئ والمرتكزات التي جعلها الدستور الجزائري في طليعة اهتماماته وأولوياته، وهذا بالنظر إلى مكانتها ومنزلتها في حياة الإنسان واستقرار أحوال المجتمع، ومن ثمّة كانت الدولة الجزائرية بمؤسّساتها حريصة كل الحرص على تحقيق التوازن بين حماية حقوق المواطن والحريات العامة وصيانتها، وبين بسط هيبتها وفرض النظام في ظلّ التحولات المحلية والإقليمية والدولية التي يشهدها عالمنا اليوم، ومن أبرزها سلسلة الحركات الاحتجاجية في الكثير من الدول العربية والغربية على حدّ سواء، والمطالبة بضرورة تبنّي إصلاحات جذرية في أنظمة الحكم، وتدبير الشأن العام وتحسين ظروف المعيشة.
وبالتطرق إلى التجربة الجزائرية في مجال الحقوق والحريات العامة وحماية الحق في التظاهر السلمي وحرية الرأي والتعبير والصحافة، نلاحظ بشكل واضح وجلي مدى النضج الكبير والحكمة، والتحلي بروح المسؤولية من طرف قائد أركان الجيش الوطني الشعبي أحمد قايد صالح رحمه الله وأكرم مثواه، من خلال موقفه التاريخي المشرف في حماية المتظاهرين من أبناء وبنات الشعب، مؤكداً في خطابه على أنّ الموقف الثابت للجيش، نابع من إيمانه بضرورة الحفاظ على أمن واستقرار الجزائر.
وعلى هذا الأساس ينبغي تثمين دور المؤسّسة العسكرية والأجهزة الأمنية في حماية الحقوق والحريات العامة، وتأمين المتظاهرين والحفاظ على أمن الأشخاص والممتلكات في وقت الأزمات، فالمراجعة الدستورية المرتقبة في الجزائر ينبغي أن تتّجه نحو الرُقي بالحقوق وتكريس الحريات العامة التي يجب أن تشمل دعم حق المواطنين في حرية الرأي والتعبير، وحماية الحق في التظاهر السلمي خلال كلّ الظروف والأحوال، مع ضرورة مراعاة المصلحة العامة في استقرار وأمن المجتمع والدولة، حيث يتمّ في هذا السياق تقرير الرقابة على دستورية القوانين كضمانة لبناء دولة الحق والقانون، وحماية مبدأ سمو الدستور، وهذا بدوره يضمن مبدأ آخر ألا وهو مبدأ تدرّج القواعد القانونية، خاصة وأنّ النص على الحقوق والحريات يكون في متن القوانين على اختلاف درجتها في الهرم القانوني، فالقوانين تضمن للفرد حقوقه وتوضح الحدود لممارسة حرياته، وبهذا تكون الرقابة على دستورية القوانين كأداة لحماية تلك الحقوق والحريات العامة.
كما يجدر التأكيد على حقوق الطفولة في الرعاية الصحية والاجتماعية، وحق الشباب في مجال التشغيل وتشجيع ترقيتهم في مناصب المسؤولية داخل الهيئات والإدارات العمومية، فضلًا عن تدعيم مجال حماية حرمة الإنسان من خلال قمع كلّ أنواع المعاملات اللإّإنسانية والمهينة التي قد يتعرّض لها، وفتح المجال أمام حرية الاستثمار في المجال الاقتصادي، وضمان ممارسة الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي في إطار القانون، مع الارتقاء بحريات الاجتماع والتحفيز على الحرية الإعلامية والحزبية الهادفة من أجل خدمة وبناء الوطن، بالإضافة إلى العمل على تعزيز دور فعاليات المجتمع المدني في ضمان حق التنشئة والتثقيف للمواطنين وحماية الثوابت الوطنية والتراث الثقافي والحضاري للأمة.
وهذا الصّرح الدستوري بحاجة إلى إطار قانوني عملي يجسّدهُ على أرض الواقع حتى تتحقّق الإضافة المرجوّة منه، ولا يتحقق ذلك إلاّ من خلال وضع دستور جديد يكفل مبدأ التداول السلمي على السلطة، ويضمن تعزيز الفصل بين السلطات وتوازنها، ويدعّم أخلقة الحياة العامة ويحفظ حقوق وحريات المواطن من كلّ أشكال التعسف والظلم المفضي إلى الفساد وغياب الأمن وعدم الاستقرار.

تفعيل الدور الرقابي  للقضاء على الفساد


ما هي نقاط الخلل والثّغرات الواجب سدّها في الدّستور القادم من أجل تعزيز آليات مكافحة الفساد؟
 لقد شكّل التّحرّر من الفساد دافعاً قوياً للذّهاب إلى التّغيير، فقد برزت ممارسات سيّئة وفاسدة مثل اختلاس المال العام وتبييض الأموال، وإعاقة سير العدالة أو منعها، وهو الأمر الذي أثّر على الثقة لدى الرأي العام، لذلك وجب تصحيح هذه الانحرافات في وظائف الدولة من خلال إعادة الاعتبار للبرلمان كمؤسّسة تشريعية رقابية، وظيفته مراقبة نشاط الحكومة ومدى تنفيذها للسياسات العامة الهادفة إلى تحقيق المنافع ودرء المفاسد، بالموازاة مع تفعيل الدور الرقابي للأجهزة الأمنية والقضائية في مجال محاربة ظاهرة الفساد بمختلف أشكاله وصوره، وكذلك إعادة النظر في القوانين المنظمة لتمويل الأحزاب السياسية والجمعيات، وتنقية المناخ السياسي العام من خطر الأموال المشبوهة التي ساهمت في شراء الذمم.
إنّ الإصلاحات السياسية الصّائبة هي التي تستهدف أخلقة السياسة والحياة العامة، من خلال تكريس القدوة الحسنة في اختيار المسؤولين والمنتخبين الذين يمثّلون الشعب على المستويين المحلي والوطني، وفرض الشفافية والنزاهة والمساءلة والمحاسبة والرقابة على الجميع باعتبارها أهم مرتكزات الحكم الراشد.
ومن أبرز نقاط الخلل والثّغرات الواجب سدّها من أجل تعزيز آليات مكافحة الفساد، والحدّ منه على سبيل المثال لا الحصر نذكر ما يلي:
يجب أن تحتل مكافحة الفساد رأس الأولويات في عملية بناء الدستور القادم، من خلال تعزيز الديمقراطية التشاركية والتمثيل الخاضع للمساءلة، ووضع أطر دستورية صارمة تجمع بين الآليات الوقائية والتصحيحية والتصالحية، بهدف محاربة كافة جرائم الفساد التي تشمل إساءة استخدام الممتلكات العامة واستغلال الوظائف والرشوة والجرائم المشابهة لها (الابتزاز، المحسوبية، المحاباة، الإثراء غير المشروع والمتاجرة بالنفوذ)، مع ضرورة اعتماد مقاربة منسقة لمكافحة الفساد تضم تدابير للمنع والتجريم وتطبيق القانون والتعاون الدولي، واسترداد الممتلكات المنهوبة.
إلزامية تبني منظومة النزاهة الوطنية التي تحقق التوازن بين ركائز النزاهة والشفافية الثمانية في أي بلد وهي: الإدارة السياسية، الثقافة الأخلاقية في الخدمة المدنية، وكالات مكافحة الفساد، البرلمان، المحاكم، وسائل الإعلام، القطاع الخاص، المشاركة العامة للمواطنين.

مراجعة عميقة لدستور دائم

هل يكون الدستور القادم بوصلة للجزائر؟
 بقيت علاقة الجزائر بدساتيرها مضطربة منذ أزيد من نصف قرن من الزمن، وكلّما وجد نظام الحكم نفسه في مأزق سياسي أو اقتصادي لجأ إلى لعب ورقة تعديل الدستور، من أجل إيجاد مخارج.
ومن الملاحظ تاريخيّا أنّ لكلّ رئيس جزائري دستوره الخاص به، فمنذ عام 1963، وضع الرئيس الراحل أحمد بن بلّة أول وثيقة قانونية في البلاد لكنّها لم تعمّر سوى سنتين فقط، ثمّ صدور دستور 1976 الذي كرّس مبادئ النظام الاشتراكي الأحادي، قبل أن تحاصر السلطة بتداعيات أزمة النفط وأحداث أكتوبر 1988، وهو ما اضطرّها إلى الانفتاح الديمقراطي عبر دستور الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في 23 فبراير 1989، وجرت رياح التجربة التعددية بما لا تشتهيه سفن النظام، فعمد مجدّدا في عهد الرئيس اليامين زروال إلى وضع دستور بديل في 28 نوفمبر 1996، وتحديد العهدة الرئاسية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط.
غير أنّ الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لم يتوان منذ وصوله إلى سدّة الحكم سنة 1999 عن نقد الدستور، وقام بتعديله ثلاث مرات بين 2002 و2008 و2016، أفضت إلى تعطيل مبدأ التداول السلمي على السلطة والإسهام بدخول البلاد في مأزق سياسي مرير بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية العالمية.
وباندلاع الحراك الشعبي في 22 فبراير٢٠١٩ تغيّرت الكثير من قواعد اللعبة، وكلّف الرئيس الجديد عبد المجيد تبون الأكاديمي، أحمد لعرابة برئاسة لجنة خبراء من 15 عضوا لصياغة مقترحات مراجعة الدستور في غضون ستين يوما. وتعهّد الرئيس عبد المجيد تبون بفتح مشاورات واسعة بعدها مع الفاعلين في الحياة السياسية والمجتمع المدني، قبل عرض المسودة الجديدة للمصادقة البرلمانية ثمّ الاستفتاء الشعبي، وهو ما يعني دستوريا أنّ التعديلات ستكون جوهرية وجذرية من أجل مواكبة التغيرات الطارئة واستجابة لمتطلبات الشعب الجزائري والتأسيس لجمهورية جزائرية جديدة.
وفي اعتقادي المتواضع أنّ الجزائر بأمس الحاجة اليوم إلى دستور جديد أكثر من حاجتها إلى تعديل جزئي، لكون دستورها الحالي مبنيا أصلاً على ركائز مختلة ويجمع في طيّاته متناقضات كثيرة، وعلى هذا الأساس ينبغي القيام بمراجعة عميقة للدستور الحالي في كلّ فصوله، واختصار المواد الدستورية البالغ عددها 218 مادة، لأنّ الكثير منها غير قابل للتطبيق أو يتم قراءتها بتفسيرات متناقضة ومختلفة، وهو ما يقتضي إعادة صياغة جديدة لمواد الدستور حتى يكون أداة فعّالة لاستقرار المجتمع و عصرنة الدولة وتحديث مؤسساتها، وفق هندسة دستورية تكرّس مبدأ التداول السلمي على السلطة الذي لا حياد عنه أبداً، وإلزامية الفصل بين السلطات وتحقيق التوازن والرقابة فيما بينها، وكذا تحديد المبادئ الجوهرية التي تحكم المجتمع وضرورة حسم طبيعة نظام الحكم السائد في الدولة، مع التأكيد على رسم خارطة الحقوق والحريات العامة للمواطن، والحرص على أن يحتفظ المؤسس الدستوري بمهامه من خلال ضبط الأحكام الدستورية، وترك ما يتّصل بتنظيم الاقتصاد والتربية والإعلام، وكلّ نواحي الحياة للمشرّع المؤهّل قانوناً قصد مسايرة وتنظيم المتغيرات السريعة للمجتمع.
ومن هذا المنطلق، فإنّ استقرار الدستور يرتبط بمستوى دسترة الحياة العامة في المجتمع، أي أن تكون المؤسسات مبنية وفقا لأحكام الدستور.