طباعة هذه الصفحة

د.عبد الرزاق ڤسوم في حوار مع «الشعـب»:

العلامــة إبن بــاديس سخّر علمــه في سبيــل الوطــن

حاورته: فتيحة. ك

دلالات اجتماعية، سياسية وأخلاقية قي الاحتفالات بيوم العلم

في حوار جمع جريدة “الشعب” مع الدكتور عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حاولنا الإلمام من خلاله بمختلف التحديات الراهنة التي يواجهها المجتمع اليوم. وبكل موضوعية قدم لنا حلولا جوهرية مرتبطة أساسا بالذات والهوية والانفتاح على الآخر دون الذوبان فيه. وذكّر الدكتور بدلالات يوم العلم الذي نحتفل به اليوم وأشياء أخرى مفصلة في هذا الحوار.
الشعب”: ارتبط يوم العلم ارتباطا وثيقا بالعلامة إبن باديس رائد الإصلاح الوطني، فما تقولون عنه وعن أبعاده الحضارية؟
^^ د.عبد الرزاق قسوم: هو وسام تعلقة الجزائر على جبينها، لأنه اليوم الذي يصادف وفاة العالم العلاّمة عبد الحميد بن باديس. يتساءل البعض، “لماذا خصص هذا اليوم بالذات؟”، نجيب إنه إذا بحثنا في تاريخ الجزائر كلها من الناحية العلمية، سنجد أن عبد الحميد بن باديس هو المثال والنموذج للعلم والعالم العامل بعلمه في سبيل الوطن؛ العالم الذي خصص حياته ووهب علمه وحياته لهذا الوطن يجب أن يخلد، احتفلنا بيوم وفاته لأن يوم وفاته حياة لمجتمع وحياة للوطن، حسب المبادئ التي وضعها هو وصحبه.
بالإضافة إلى هذا البعد العلمي، نجد البعد الاجتماعي المتمثل في توحد الأمة كلها على مفهوم العلم الملتزم بقضايا المجتمع، وليس العلم الفقهي فقط، بل هو العلم بجميع مقوماته، بشرط واحد هو أن يكون في خدمة الوطن. لذلك، وجدنا في الجمعية بعض العلماء الذين يشتغلون في الفلسفة، في الفقه، في علم الاجتماع، في التاريخ... كلهم كانوا تحت رايتها، ما يعني أن العلم ليس مختزلا في علم الفقه فقط، بل هو علم شامل لكل ما يتعلق بالعلم الحقيقي.
أما البعد السياسي له، فيتمثل في استحالة القضاء على التخلف دون العلم، لأنه الأداة الحقيقية والأسلوب والمنهج الناجع والناجح لتحقيق ذلك، فمادمنا نعرف أننا متخلفين لابد من أن نُعلّم الناس قيمة العلم العام والشامل لكل ما وصل إليه الإنسان، معتمدا في ذلك على أصالته وهويته وعلى شخصيته ووطنيته.
وأخيرا، البعد الأخلاقي وهو نوع من الوفاء للذين ضحوا من أجل الجزائر. فالشيخ ابن باديس ومن معه ضحوا بحياتهم وبكل ما يملكون حتى تستعيد الجزائر شخصيتها وهويتها وقد تم. والحمد لله.
الاستلاب الثقافي أهم التحديات الراهنة
كيف تتعامل جمعية العلماء المسلمين مع التحديات الراهنة؟
^^ جمعية العلماء اليوم، باسم الوفاء للجمعية الأم وكامتداد لها، تأمل أن تؤدي نفس الدور الذي لعبته في الماضي. فقد كان أمامها تحدّي الاستعمار أولا، التخلف ثانيا، الأمية والجهل ثالثا، وتحدي الغياب عن الواقع الوطني. فجاءت جمعية العلماء وتصدت لها بالعلم والثقافة بالأخلاق والدعوة إلى الله وهذا ما تحقق والحمد لله. يمكننا القول إن اندلاع الثورة كان نتيجة من نتائج هذا العمل الذي قامت به جمعية العلماء آنذاك.
تجد الجمعية نفسها اليوم أمام تحديات أخرى مختلفة، أهمها الاستلاب أو الغزو الثقافي للعقول والذي يتجلى ويظهر في مجموعة من الأسباب السلبية، منها أننا مازلنا مسكونين بالثقافة الأجنبية في معاملاتنا وحياتنا الخاصة. في البيت نتكلم الفرنسية مع أولادنا، مع بناتنا ومع أصدقائنا. هذا تحد كبير، لأن السيادة أو الاستقلال كلٌّ لا يتجزأ، إما أن تكون مستقلا سياسيا، ثقافيا وأخلاقيا أو لا تكون. فنحن الآن مستقلين سياسيا نعم، لكننا مازلنا نعيش عالة على ثقافة وعلى لغة العدو. نحن نعمل على توعية المواطنين بحقيقة أن الاستقلال لن يكتمل إلا إذا اكتملت سيادتنا الثقافية على وطننا، بعودة مدرستنا وجامعاتنا ومؤسساتنا إلى حضن الوطن لبنائه بكل أصالة وبكل فعالية.
أما التحدي الثاني الذي نعيشه، هو التهديد بالانفصالية في بعض المناطق من الوطن، واعتبره مستحيلا بل هو من علامات قيامة الساعة عندما تنفصل منطقة عن الجزائر ولا يمكن قبوله أبدا، لذلك تعمل الجمعية على توعية المواطن بأن الجزائر كلٌ لا يتجزأ من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، كلنا نعيش نفس المعاناة، نفس الآمال ونفس الآلام.
ثالثا، الاستلاب الثقافي الذي يعانيه شبابنا اليوم، حيث نرى تقليدا أعمى للأجنبي في لباسه، في سلوكه، في العنف الذي يعيشه، في عدم التماسك الاجتماعي، بل حتى في حلاقته وقصّات شعره... لذلك، تعمل الجمعية على توعية شبابنا وبناتنا بالعودة إلى الذات وهي تتطلب نوعا من التحلي ببعض الأخلاق والقيم والمبادئ وهذا ما نحن نعمل من أجل تثبيته في نفوسهم.
طموحنا هو أن يعي ما يجب أن تقوم عليه جمعية العلماء المسلمين وهذا يعني أن أغنياءنا ومثقفينا وشبابنا سيلتفون حولها: المثقفون يمدّونها بأقلامهم وعلومهم، الأغنياء يمدونها بأموالهم، لأننا في بناء ونطمح لبناء جامعة خاصة ومعهد نموذجي يقدمان العلم بأحسن ما فيه وبأحسن ما في الإسلام من أخلاق. أيضا ينبغي للمحسن أن يعلم وقت التصدق على اليتيم بعشرة دنانير قد انتهى، الآن أصبح التحدي أكبر وهو كيف تستطيع ان تتبنّى مشروع بناء معهد، جامعة، قناة إذاعية، قناة تلفزيونية تعمل جميعها لبناء المواطن بناء صحيحا يملك ثقافة حقيقية وعلمية ليس لديه مشكل مع العالم. عندما يشعر بأنه ينتمي إلى الجزائر كجزائري يكون سلوكه جزائريا ووطنيا، ولن يكون ذلك إلا بالمعهد والجامعة العلمية، بالصحيفة الملتزمة، بالمجلة الملتزمة، بالقناة الإذاعية الملتزمة، هذه مهمة الأغنياء الذين عليهم ان يتبنوا هذا العلم والمنهج وهذا الإعلام، لأنه الطريق للعودة إلى الذات.
ما تعريفكم للوطنية، مع كل هذا اللغط الكبير في تفسيرها؟
 الوطنية ليست مكاسب وليست مناصب، بل هي تسير في دم الإنسان، يلتزم به، تملأ قلبه وطنية فيفيض على يده، على لسانه وعينه، وعلى أعماله كلها. الوطني الحقيقي هو الذي لا يقبل أي مساس بوطنه، هو الذي لا يرضى المذلة لوطنه، هو الذي يتحلّى بأخلاق وطنه، هو الذي يلتزم بنشر ثقافة وطنه،هو الذي يبني ولا يهدم، يصلح ولا يفسد، يوحد ولا يعدّد، والميدان هو المجال الحقيقي لنميّز بين الوطني وغير الوطني بين المحسن والمصلح، وبين الصالح والطالح،... هو الميزان الذي نحتكم إليه وهو الحكم أو الفيصل بين كل أحد.
الحيادية لا تعني المقاطعة
إذن الجمعية تلتزم الحياد الإيجابي، لكن دون مقاطعة الواقع الذي تعيش فيه؟؟
 الحياد الإيجابي الذي تلتزم به جمعية العلماء المسلمين ليس انسحاباً من الحياة وعدم لعب دور في المجتمع، لأنه سيكون بهذه الطريقة حيادا سلبيا. فالحياد الإيجابي الذي تتبعه الجمعية، هو أن تقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت. هي مع الذي يبني وتلفت انتباه الناس إلى الذي يهدم حتى لا يهدم.
الحياد الإيجابي هو عدم التحزّب، فلسنا مع أي حزب ولا ضد أي حزب ولكننا مع الحزب الأكبر الجزائر، هي التي تجمعنا تحت مظلة واحدة، هي الجزائر بكل أبعادها الثقافية والاقتصادية والأخلاقية وعلومها وقيمها.
ولأن الجمعية مخلصة لهذا الحياد الإيجابي، احتفلت بيوم العلم قبل موعده، بسبب مصادفة تاريخه والحملة الانتخابية، حتى لا تُؤَوّل أي محاضرة على أنها تصبّ في صالح فلان أو ضد فلان.
احتفلت بالمناسبة بولاية الشلف، بالتعاون مع مديرية الشؤون الدينية ووالي الولاية، أين استمع الحاضرون إلى ندوات ومحاضرات في المساجد وأخرى في دار الثقافة وقد كانت النتائج طيبة جدا والحمد لله.
 إذن، هل الحياد يعني المقاطعة؟
_ الإنسان خلَق اللهُ له عقلاً وفهما وعلماً وهذه التي تسمح له بمعرفة الصالح من الفاسد. فإذا كان الإنسان المطلوب منه ذلك، إذاً عليه أن يكثر الصلاح ويقلل الفساد. ونعتقد أن الانتخاب هو شهادة يسأل عنها الإنسان يوم القيامة وإذا شهد بها يجب أن يعرف كيف يؤديها، فهي كشهادة الدخول إلى الإسلام. يجب أن يكون واعيا بما يفعل وما يقدم عليه. أنا لا أنتخب فلانا لأنه إبن عمي، ولا أنتخب علانا لأنه صديقي، ولكن انتخب على الشخص الذي يعلي من قيمة الجزائر، إن شاء الله.
أما الحياد السلبي، الذي انسحب فيه من الحياة نهائيا، فأعتقد أنه لا يخدم الجزائر.
ما هو دور الأسرة في التغيير الإيجابي للمجتمع؟
المسئولية العائلية تبقى الأولى، لأن الأم أو الأب هما المعلم الأول للطفل والبصمات التي يتركانها في حياته تظل معه إلى مماته، وهو ما يسجل في عقله الأول. لذلك، التغيير يبدأ من الأم ومن الأب، من العائلة. ثم بعد ذلك ينتقل إلى المدرسة التي هي امتداد الأسرة أيضا، تقوم بعملية تغيير وهذا يكون بالقدوة وليس فقط بتقديم المعلومات. والمعلم يجب أن يكون قدوة للتلميذ، في شكله، في مضمونه، في معاملته وفي سلوكه، هو الذي يجب أن يكون حامل هذه القيم حتى يقلده التلميذ.
نرى اليوم بعض المعلمين يدخنون أمام تلاميذهم وهذا خطأ، لأنه يشجعه على التدخين. ونحن نعلم أن التدخين آفة. التعليم بالقدوة يجب أن يبدأ بالعائلة، ثم ينتقل إلى المدرسة، ثم الثانوية، فالجامعة حتى نكوِّن جيلا جزائريا وطنيا أفضل ونموذجيا للأجيال القادمة، لنبني مجتمعا أفضل.
الوسطية هي الحل...
 كيف يمكننا خلق علاقة تناغم بين الأسرة، المدرسة والمؤسسات؟
 يبدأ بالوعي بالذات، وعي الأم والأب والمعلم والأستاذ بالذات التي ينتمي إليها. فعندما يعيها، أي الذات في بعدها الوطني، الثقافي والسياسي والإسلامي، في ذلك الوقت يستطيع كل واحد أن يعمل من أجل تحقيق هذا الهدف وهذا لا يكون إلا بتناغم هذه المؤسسات كلها. ولكن المأساة أو المشكل الذي نعيشه الآن هو أن بعضها تخلت عن الجانب التربوي وأصبحت تقدم فقط معلومات هزيلة غير مدعمة بالأخلاق والقيم. نقول إن المطلوب هو واحد، يجب أن يعوا هذا البعد الحضاري الجزائري، بحيث يصب فيما نقدمه من سلوك ومن معاملة ومن معلومات.
فعبد الحميد بن باديس مثلا، عندما كان يسأل تلامذته، ما هو البحر الأبيض المتوسط، لا يقول إنه البحر الذي يربطنا بفرنسا، بل هو الذي يفصلنا عنها، حتى يوصل فكرة أن الجزائر وفرنسا منفصلتان عن بعضهما. أما قولك العكس فإنك تعطي الانطباع بأننا امتداد لها. سألوه إن كنا ننطق فرنسا بالفتحة أم بالكسرة فكان يجيب بـ “الكسرة كسَّرها الله”، حتى النحو يوظَّف لصالح القيمة الوطنية والأخلاقية.
ونقول للأم، الأب والمعلم، أن يبدأ الحديث مع ابنه بلغة الوطن ويعلمه الشهيد الفلاني ومن هو المجاهد الفلاني ومن هو الحاكم الفلاني.
عندما تسألين الشباب اليوم عن العربي بن مهيدي يقول، إنه لا يعرفه، بينما ميسي أو رونالدو فيعرف أدق تفاصيل حياته. لذلك، يجب العودة إلى ذاتنا، ويجب أن نجعلهم القدوة في حياتنا.
العربي بن مهيدي وديدوش وابن باديس والعربي التبسي... هؤلاء العلماء الشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل أن تحيا الجزائر.
هل يمكن استرجاع صورة المجتمع السوي؟؟
 أنا متفائل، فلو تعاونا ووضعنا يدا في يد، سنتمكن من ذلك ولكن بالكلمة الطيبة، بعيدا عن العنف وعن التشدد وعن الغلو، حتى الدين نقدمه في قالب لبق وليّـن حتى يقبل الناس عليه. لكن «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضّوا من حولك»، فلذلك ينبغي عليك «وجادلهم بالتي هي احسن»، يجب أن تتكلم معهم باللّين وأن تخفض لهم جناح الذل، أن تكون طيبا معهم حتى يأتوا إليك. لا يمكن للإعلام أن يكون عنيفا،لا يمكن للدعوة الإسلامية أن تكون عنيفة، لا يمكن للإمام أن يكون عنيفا، لا يمكن للعالم أن يكون عنيفا، لابد لهؤلاء جميعا أن يكونوا ليّنين طيبين، متسامحين حتى مع الذين يختلفون معهم.
أنا متفائل إذا وعى كل واحد انتماءه إلى هذا الوطن وإلى هذا الدين وإلى هذه الثقافة، سنصل إن شاء الله.
مشكلة العنف الذي يسود، حتى لغتنا وألفاظنا ومعاملاتنا بصفة عامة، لذلك لابد من حلها. فالجيل الذي نشأ في سنوات العنف وحظر التجول، انعكست هذه على واقعه. فالإنسان لم يخلق ليكون عنيفا ولا متشددا ولا سبّابا. لذلك علينا أن نعمل على نزع هذه الفظاظة، لأننا شعب، الجنازة توحده، الأعياد الدينية والوطنية توحّده والولائم أيضا توحده، إذاً لماذا لا تكون سببا في المحبة والتواصل الاجتماعي.
ما رأيك في المكانة التي احتلتها مواقع التواصل الاجتماعي في حياتنا؟
 مواقع التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين والتكنولوجيا وجدت لتسهيل مهام الناس، وليس لتعقيد مشاكلهم، كما يقول الفلاسفة: نصف طبيب يفسد الأبدان ونصف عالم يفسد الأديان. والتكنولوجيا كذلك، إذا كان الإنسان غير متحكم بها تفسد العلاقات والروابط الاجتماعية وتصبح أداة هدم بعدما كانت أداة بناء. التكنولوجيا موجودة لتثقيف الإنسان ليطلع على الجديد في العالم، وليس للسب أو الثلب، أو التحدث عن أعراض الناس... يجب أن نقضي على الاستعمال السيّئ لها.
مواقع التواصل الاجتماعي هي تواصل من أجل المحبة والأخوة وليس من أجل “التفاصل” الذي يؤدي إلى ضرب المجتمع في أساساته.