طباعة هذه الصفحة

قراءة في قصيدة “كيمياء الدّهشة والألفة” لـ بوزربة عبد الرحمان

الاغتراف أقصى مراتب العرفان عند المتصوّفة و العرفان الشّعري عند الشّاعر

تقديم: د - سليمة مسعودي / جامعة باتنة 1

أبدًا
لم تخُنِّي القصيدةُ قبلكِ
لم يَهربِ الشعرُ منّي..
وكنتُ أميرَ الحروفِ وسيدَها
قبل عينيكِ..
ماذا تغيّرَ؟
حتى أصيرَ بلا لغةٍ
وبلا شفةٍ
لأغنّي كما كنتُ قبل المساءِ الأخيرِ
وأجرحَ بالعطر هذا المدى
مثلما كنتُ أفعل منذ ثلاثين عامًا..
وماذا تغيّرَ حتى يضيّعَني اللارجوع
وحتى تضيعَ جميعُ الخرائطِ مني
وأنْحاز للصمتِ
مثل صبيٍّ خجولْ
يباغته قبل عُشب الكلام الذهولْ..
أنا سيّدُ الشمسِ والليلِ
مالي أرتّقُ صمتيِ
وألثَغُ باسمكِ
أحبو إلى أوّلِ الحرفِ
أسقطُ في مستهلِّ الطلولْ..
وكنتُ وعدْتكِ أني
سأكتبُ عنكِ
كما يكتبُ
العاشقون الكبار
وهم يسرِجون إلى الحربِ
أنّي سأرسُم ريحًا تهبُّ
لتلهو بشالكِ
توقظ في قمحِهِ
ما تمَوْسقَ من مُستحيلْ
ومن وشوشاتِ الندى
وعصافيرَ مترعةٍ بالسماءْ  
فماذا تغيّرَ؟
حتى أصيرَ
أسِيرَ الرصيفِ الذي كلّما
قيل ها عبَرتْ
يتشكّلُ خلفكِ أسرابَ شوقٍ
ويغمره شجَرٌ للبكاءْ
وكنتُ الوحيدَ الذي يستطيع الغناءْ
فكيف أصير هنا فجأةً
مُعْدَمًا
دون قافيةٍ أو رَوَيْ
كأنّكِ ألغيتِ خمسين عامًا
من الحبّ والشعرِ
أخجلتِ كلّ القصائدِ
أفرَغْتِها من جميع النساءْ
ولا أعرف الآنَ
كيف أتيتِ
وكيف استويتِ
وكيف انفجرتِ
وبعْثَرتِنيِ فجأةً في مهبِّ الهباءْ..!
*
أنا ههنا
في عيون الجميلاتِ
من أول الوردِ
مُمتلئا بالينابيعِ والذكرياتْ
وأنصبُ في كل ركنٍ لهُنَّ
خياماً
وفُسطاطَ شعرٍ
وأُدهِشهُنَّ كما شئتُ
حتى عبرتِ هنا مرّةً
فاندهشتُ
وصرتُ بلا أثرٍ
أو رصيفْ..
كأنيّ هنا ما عبرتُ
كأنيَ ما كنتُ
إلاّ لأجْمَعني إذ تبعثرتُ
يا كلَّ هذي العواصفِ
يا كلَّ هذا الخريفْ
ويا عطر هذي الحدائقِ
يا جمرَ كلِّ الحرائقِ
ماذا سأكتبُ عنكِ؟
وهذي الأصابعُ
تبحثُ عن حرفِها
مثلما يتحسّسُ صمتَ المساءِ
مساءٌ كفيفْ..
مساءَ السنونو
مساءَ الحفيفْ..
مساءَ انتحارِ الشجَرْ
مساءَ الكَمنْجاتِ
مُصطفّةً في طريقِ القمرْ..
مساءَ المطرْ..
مساءَ ال...مساءْ
مساءَ الغزالاتِ راكضةً للسماءْ
مساءَ انهمارك فيَّ
مساءَ انهياريَ فيكِ
مساءَ الذي فجأةً
لم يعد
يستطيعُ
الغناء ..!

الرّؤية النصية..إيقاع الدّهشة..والائتلاف

على مفرق عمرين.. ومرحلتين.. وذاتين.. وحالتين..يقف هذا النص..النص الذي اختار أن يبدأ بنبرة نفي حائرة وحزينة..دافئة.. وتبحث عن الدفء أيضا..
أبدا..لم تخني القصيدة قبلك..
أي احتراق بإمكانه أن يضم المتناقضات..ويسفر عنها..بين أن يغيب الشعر فيما هو يقول التجربة بأوج ما يمكن أن يبلغه الشعر يوما..كيف ذهل الشاعر عن نفسه وشعره.. وهو يعاني اضطراب التجربة شعرا.. وأي شعر..
كيف نرتد إلى طفولتنا الأولى حين تصادفنا تجاربنا الكبرى.. وكيف يتغير منطق الحياة والجغرافيات بمختلف أشكالها..كيف يذهل الشاعر عن شعره.. وهو داخل ناره وأواره..هنا سر هذا النص المفعم بحيوية المشاعر والرؤى والاختلاجات التي تزلزل الروح والوجدان..لتحيل الشاعر صبيا يدرج خلف المعنى..ويكتشف الأسماء من جديد..كيف يستحيل عاشقا أكبر ورساما للريح.. وخالقا لموسيقى الأحلام ووشوشات الندى..و..و..و...الشاعر الخالق..والشاعر الساحر..وهو يقودنا في طفولة المعنى التي تتشكل على يديه..وتكبر..وتزهر..كل هذا السحر..
ليكتشف في رحلة العرفان هذه كيف تلاشى عمر بأسره في فراغ اللامعنى.. واللاشعر..بعد كل ما مر من عمر وشعر..ليكتشف أنه كان معدما..دون قافية أو روي..وشعر وحب..ليستقظ فجأة..حين ساد صمت الدهشة الذي أسفر عن كل هذا الجمال..
إنها كيمياء الأرواح حين تآلف في غفلة عن نسق الحياة ونظامها وتراتبيتها..لتبني الصدف المصير..وتحدد الوجهات..وكيمياء الحب التي تفتح الشاعر على عمر جديد في العمر والشعر معا..

ضميران اثنان وضمائر الغائب..دعائم بناء النص دراميا

لقد بني النص على ضميرين اثنين، وكثير من ضمائر الغياب - جميع النساء - لكن فاعليته جاءت عن طريق البناء الدرامي الذي شكل النص فيما يشبه الحوار بينه كذات متكلمة، وذات مخاطبة جاءت بتاء التأنيث لتحدث شرخا روحيا حادا..لكنه جميل الذات المتكلمة نخال في البداية أن لها فاعلية الحضور.. لنكتشف بعد أن نعبر الأسطر الأولى أنها الذات المنفعلة المفعول بها..وأنها في موقف حواري تكفل بأن يحمل لنا تمظهرات هذا الانفعال والتأثر عبر صور أقرب إلى مشهدية السرد وفاعلية التجلي السينمائي.. وكأننا إزاء أحد أعظم أفلام رومنسيات العهد الباروكي..
إن الذات المخاطبة هي التي خلقت هذا النص من كيمياء روحها، حين أعاد تشكيل الذات الشاعرة كائنا جديدا بأنطولوجيا جديدة قدت من كيمياء روحها..هذه الذات التي حملتها صدفة ما أثارت حيرة الأسئلة الوجودية الحادة..
لا أعرف الآن كيف أتيت
وكيف استويت
وكيف انفجرت
وبعثرتني فجأة في مهب الهباء..!
هذه الأسئلة التي تبطن داخلها أسئلة أكثر عمقا وتعقيدا..أسئلة تبحث في سر هذه الكيمياء الغريبة التي تؤلف بين الأرواح وتمزج دماءها..دون أن تمتلك سر معادلة التجانس هذه..لتترك الذات الشاعرة جزيئات مبعثرة في هباء الدهشة والحيرة والذهول والحب..
إنها الحيرة الكبرى، زلزلة الروح والانتقال بها من حال إلى حال..وهو ما يفتتح به الشاعر المقطع الأخير..حين يستحضر أوضاع حياته السابقة قبل هذا المنعطف الخطير..حين كان الفاعل المؤثر وصانع الدهشة..كيف يتحول بعد هذا العبور الكبير..إلى المنفعل الذي أذهشه سحر العابرة..فذهل به عن كل ما يحيطه..ليحاور هذا الكل بلغة الحيرة والسؤال..بعد أن جمعها أمامه بمناداتها..
يا كل هذي العواصف
يا كل هذا الخريف
ويا عطر هذي الحرائق
ماذا سأكتب عنك؟
إنها الدهشة التي تولد الأسئلة..والأسئلة التي تبحث عن أجوبتها في متاه الحياة والشعر معا..
وهذي الأصابع
تبحث عن حرفها
مثلما يتحسس صمت المساء
مساء كفيف
مساء السنونو
مساء الحفيظ..
مساء الشجر..
مساء الكمنجات
......
إنه مساء المتاه الكبير اللانهائي في مهمه الروح والشعر حين يجتمعان في حضرة الحب ذاهلين عن كل العالم..فيما هما يشكلان كل العالم..حين تنهمر فيه وينهار فيها ليتدفق كل هذا الغناء الذاهل عن نفسه ظانا أنه لم يعد يستطيع الغناء.
تعزف الذات الشاعرة كيمياءها في هذا النص على إيقاع دهشة الحب الأولى..التي تعيد تشكيل الخرائط والإحداثيات..بل تخلق كونها الشعري من جديد، وهو ما يحيلنا إلى لعبة تأويلية تجعلنا نعتقد علاقة الحب بين ذاتين وكيانين..هما الذات الأنثوية وذات الشاعر بالمنطق الظاهري الواقعي، وبين الروح والشعر بالمنطق التأويلي المضمر داخل المعادلة الأولى، لتتخذ القصيدة بعدا صوفيا، يعمل على تجلى لحظة الكشف والتجلي الشعرية، وهي اللحظة القائمة على الذهول والانخطاف والدهشة، ما يشكل معادلة صوفية من الطراز الأول:
من ذاق عرف، ومن عرف اعترف، ومن اعترف اغترف، وهي أقصى مراتب العرفان الصوفي عند المتصوفة، والعرفان الشعري عند الشاعر..

التّشكيلات البنائية للنّص

بدأ النص لحظته بإيقاع النفي كتشكيل أسلوبي لنسق المفارقة، هذه التي شهدها النص رؤية له؛ المفارقة بين حالتين وزمنين، وهو ما جعل الشاعر ينطلق من النفي المطلق “أبدا”:
أبدا لم تخني القصيدة فيك
ولم يهرب الشعر مني
ليؤكد الشاعر بالفعل الماضي الناقص كنت مسافة هذا التفارق:
وكنت أمير الحروف وسيدها
قبل عينيك..
ويبرز الأحوال المعرفية بين ما كان، وما تحول إليه الوضع في لحظة مباغتة مفاجئة..بين الفاعلية والانفعال..وبين الذات العارفة التي كانت سيدة نفسها وموقفها، والذات التي أصابتها الدهشة لتتشتت في متاه البحث والسؤال..
هاهنا يحضر الاستفهام كتمظهر تشكيلي مهم..هو ما يفتحنا على إيقاع الحيرة والدهشة..
ماذا تغير؟
إنه البحث في كيمياء الأوضاع وكيمياء الذات والصفات، بين ما كان وما هو كائن..سؤال الماذا وسؤال الكيف المتكرر بتناغم يستجيب لروح النص في توتراتها..
إضافة لمنطق تكرار حضور ضمير الفاعل النصي ذات الشاعر وبأشكالها المختلفة وحالاتها المتباينة التي تشكل مدار الرؤية النصية:
وكنت أمير الحروف وسيدها
و
أنا سيد الشمس والليل
من وضع الفاعلية الروحية إلى وضع الانفعال والمفعولية
أصير أسير الرصيف الذي كلما
قيل ها عبرت يتشكل خلفك أسراب شوق..
إنها المفارقة التي ترصدها لنا بدقة اللوحة المشهدية التي يحملها المقطع الأخير من بدئه إلى منتهاه..
وهو الدافع نفسه الذي يدفع إلى أسلوبية التكرار اللفظي في:
كأني هنا ما عبرت
كأني ما كنت
إلا لأجمعني إذ تبعثرت..
التكرار الذي يعمل على تكثيف المعنى وحشد الدلالات التي تسعى لتسمية تلك المنطقة المواربة..المنطقة التي تقف بين لحظتين وعالمين، يشكلها عالم الشهود كما يشكلها عالم الغيب والماوراء..وهو ما استدعى بعد تصاعد توتراتها إلى الاستنجاد بتكرار النداء، على عادة الشاعر القديم الذي يستدعي أصحابه حين تتأزم حالته الشعرية، مهما تعددت تسمياتها وتأويلاتها؛ من الاجتماعي، إلى الفلسفي، إلى العاطفي الشعوري..
لكن الشاعر وعلى غير عادة الشاعر القديم..لا يطلب العزاء من صاحبيه الإنسيين، بل ينادي ما يشكل جداريات قلبه من كائنات شعرية، تسرح داخل لحظته الشعرية، وتحفه من كل جانب
يا كل هذي العواصف
يا كل هذا الخريف
ويا عطر هذي الحدائق
يا جمر كل الحرائق..
ماذا سأكتب عنك؟
إن هذه الكائنات في جمعها هي التي تشكل التمظهر النفسي - التخييلي لحضور الذات الأنثوية المخاطبة..
إنها المشتكى إليه وسر الشكوى في آن..إنها الاسم والمسمى، والذات والصفات، في تناغم له سحر الغيب وجمال الحضور المترافق بالعذاب..العذاب المستساغ من قبل الشاعر..
وعلى مسافة قريبة نلمح انتعاش التكرار بصورة مذهلة، تفجر احتشادا و تشظيا لحضور المساء - المساء الذي يختصر في بعده الزمني زمكانية الشاعر ومحله من البحث عن رؤية واضحة، تدري ما بها، وما تقول، وكيف تقوله..
لكنها لا تجد إجابة، ليبقى البحث عن التسمية، وتتيه الأسماء في مساء تجلياتها العديدة، التي تكثف في الحضور، فتكثف الرؤى، ويزدحم المشهد بتفاصيله الكثيرة، التي يؤطرها بعد واحد هو بعد المساء..لا كبعد زمني، بقدر ما هو مسافة نفسية روحية، محملة برومانسية تتراوح بين الفرح والحزن في بعد تشكيلي واحد، فالسماء على عكس الليل الذي يوحي بظلامية وقتامة، يخلف فينا شعورا متناغما رومانسيا جميلا، على ألمه..المساء الذي يفتح مجالات الرؤية ولا يغلقها..
لكنه يبقى دائما كاشفا عن بهجة الدهشة، صانعا لتفاصيلها، وهي تلاحق الصور المرتسمة على جدران القلب، كالرموز الهيروغليفية القديمة.
اختارت كيمياء الدهشة في النص أن تتموسق عبر إيقاع فعولن المتقارب، وكأن هذه التفعيلة جاءت لتلاحق زخم التوترات التي تعيشها الذات الشاعرة وتحولاتها المتسارعة عبر النص، وهو ما استدعى التدوير في الكثير من مناطق النص، ليعضده في هذه الملاحقة، وكأن الشاعر يخاف أن تهرب منه بعض تفاصيل الحالة من قوة احتشادها، هذا التدوير هو ما دعا إلى طول نفس الجمل الشعرية في الكثير من الأحيان، لتتجاوز حتى منطق التقفية وتعبر عليه وتعداه، ليفتح الإيقاع على احتمالية إما سكون القافية وتوقف التدوير، وإما تحريك القافية وتواصله، كما في:
أنا سيد الشمس والليل
مالي أرتق صمتي
وألثغ باسمك
أحبو إلى أول الحرف
أسقط في مستهل الطلول
وكنت وعدتك أني
إذ يسر الإيقاع على الريتم التفعيلي الآتي:
فعولن فعولن فعولن ف
عولن فعول فعولن
فعول فعول ف
عولن فعولن فعولن ف
عولن فعولن فعولن فعول (بتسكين اللام وتوالي ساكنين لتقف القافية، أو بتحريك اللام فتتحول إلى فعولن طلولن
ليستكمل التدوير مع السطر الذي يليه فيحدث المزج بين المتقارب والمتدارك، وهذا شائع في عمق الدراسات العروضية القديمة، التي تؤكد العلاقة الأصيلة بينهما، إذ يعد المتدارك فاعلن مقلوب المتقارب (أنظر مصطفى أبو شوارب: إيقاع الشعر العربي، ص 172، 173 ومصطفى حركات: أوزان الشعر، ص 151)، فينفتح السطر الأخير من التمثيل على احتمالين: الأول هو:
فعول فعول فعولن
والثاني بعد التدوير إلى: فا
علن فعلم فعولن فا..
ليستمر التدوير
هذا إذا لم نراع حرية اختيار الشاعر لإيقاعه الذي اختار وقفة القافية على السكون وإيقاف التدوير، واستكمل نسق الَمتقارب..
أما القافية فجاءت متجاوبة، تتراوح بين ريتمين:
خجول، الذهول، الطبول، مستحيل
ليبدأ الريتم الثاني :
السماء، البكاء، الغناء، النساء، الهباء، المساء، السماء، الغناء..
وقد شاد الشاعر نصه على لغة التخييل المفارقة للغة العادية، وإن قدت من معجمها، وانطلقت من هذه الدلالات المعجمية ذاتها، لكنها استطاعت بأداة الانزياح التركيبي أن تبتني الدلالة عن طريق فاعلية التخييل، هذه التي لم تكن مطلبا فنيا جماليا، بقدر ما هي ضرورة نفسية وروحية في آن، فكانت التقانة الذكية التي شادت كيمياء النص، وقدت من طينة اللغة كائناتها الشعرية..
فشهدنا توالي الاستعارات:
لم تخني القصيدة
لم يهرب الشعر مني
بوظيفة تعمل على بث الحياة في الكيانات المجردة وأنسنتها، وهي تنسج بكنائياتها منطق كنائيا داخل النص، يشيد المضمرات الدلالية العميقة..ويستدعى أرواحها..
ويعضدها الشاعر بالتشبيهات المتجاوزة للمنطق البلاغي القديم في التمثيل، حين يبتعد وجه الشبه بنا بعيدا في متاهات التأويل وتمدد مناطقها:
وانحاز للصمت
مثل صبي خجول
يباغت قبل عشب الكلام الذهول..
إضافة لذلك نجد جملة من الصور الحسية التي قدمت للنص بعده السينمائي..
من قبيل الصورة البصرية:
أنا سيد الشمس والليل
أسقط في مستهل الطلول..هذه الصورة التي ترتد بنا إلى الماضي السحيق حين تستحضر أرواح الأسلاف وطريقتهم في الحب والشعر...حين كانوا يحاورون الطلل فيما هم يحاورون أزمانهم الجميلة المنصرمة، وحبيباتهم البعيدات زمانا ومكانا..وكأن الشاعر قد عثر حين لثغ باسم حبيبته - عثر على سر القصيد ومطلع الشعر..لتغرق الصورة في بعدها البصري السمعي في آن..يتجسد البصري في منظر السقوط..ويتجسد السمعي في حضور الطلول نفسها ككيان إنشادي شعري يعرفه كل الشعراء في مطالعهم، دون استثناء..
لتؤدي الصور بلاغتها، بعيدا عن منطق الصور البلاغية القديمة، بكل ما تختزنه من أغوار نفسية تبني عميق الدلالات..ومن نماذج الصور السمعية
وألثغ باسمك..هذه التي تؤوب بالشاعر إلى لغة طفولية.. تستدعي البدايات..وكل لغة شعرية هي نوع من هذه الأوبة..
إضافة للجملة الكبيرة من اللوحات المشهدية، من قبيل:
سأرسم ريحا تهب
لتلهو بشالك
توقظ في قمحه
ما توسق من مستحيل
ومن وشوشات الندى
وعصافير متعة بالسماء
إذ تتشكل هذه الصورة الكبرى من تلاحم و تراكب عديد الصور الجزئية؛ منها البصري، ومنها السمعي، ومنها النفسي..
هذا المنطق التخييلي هو الذي يفصح عن حالة الغيب التي تعانيها الذات الشاعرة في عرفانية حضورها، لتؤكد معرفية الخيال، وقدرته..

خاتمة

هكذا سارت كيمياء الذات الشاعرة في هذا النص تنبؤنا الرؤيا عن لحظة دهشة عامرة بتوترات وبحث وأسئلة، وتخط عوالمها الشعرية في خلق الأسماء لما يتناسب وأرواح كائناتها الشعرية، هذه التي تتراوح بين عالم الواقع والشهود، وبين عالم الغيب والماوراء، في رحلة بحث عرفانية عن مستقر، وعن لحظة تتجاوز البحث إلى محطة وصول، تجمعها بذاتها الأخرى، وتجمع الروح بما يجسد هذه الحالات النادرة من الكشف والتجلي والوجود..وأي وجود..