طباعة هذه الصفحة

النظام السياسي الفلسطيني .. حتمية المراجعة واستحقاقات المرحلة

بقلم / عماد مصباح مخيمر

يعد النظام السياسي مكوناً مفصلياً ومركزياً للدولة حيث أنه يحدد شكل نظام الحكم وإطار السلطة السياسية المجسدة لسيادة الدولة، إضافة إلى أنه يشمل كافة الأحزاب السياسية والمؤسسات والهيئات والفعاليات ذات العلاقة في الدولة. ومن أهم مواصفات النظام السياسي الناجح عدم اقتصاره وبشكل حصري على الحزب الحاكم أو يكون رهينة له سيطرة وتشكيلاً ودمجاً وإقصاءً، الأمر الذي يميز الأنظمة الشمولية ذات الأيديولوجية الواحدة التي يملكها الحزب الحاكم ويفرضها على الدولة بكافة مكوناتها ولا يسمح بوجود أي أيديولوجيات أخرى تنافس أيديولوجيته. والأنظمة التي تستند إلى مصدر ثيوقراطي تستمد شرعيتها من مصدر ديني – إلهي، مما يعني أن الحزب الحاكم طالما أنه يستمد شرعيته من مصدر إلهي فإن كافة المصادر للشرعيات الأخرى غير معترف بها ويتم محاربتها وإقصاؤها تحت دعاوى امتلاك الشرعية الحصرية والحقيقة القصوى.

 لذا يستند النظام السياسي السليم والعقلاني عادة على مجموعة من القواعد والمسوغات القانونية، والتي بدورها تشكل مكوناً أساسياً للدستور أو النظام الأساسي للدولة في لحظة تاريخية محددة، ويضمن الدستور عادة تنظيم العلاقة ما بين مكونات النظام السياسي من ناحية، والعلاقة بين النظام السياسي والمحكومين من ناحية أخرى ، إضافة إلى تحديد كيفية تشكل وقيام مكونات هذا النظام وفقاً لقواعد قانونية مجردة تمثل بدورها قيم وأخلاق المجتمع، الأمر الذي يعني وبضرورة الحال أن تلتزم كافة مكونات النظام السياسي بهذه القواعد القانونية، وعدم التزامها بها يعني خروجها عن القيم والأخلاق التي يخضع لها المجتمع والتي هي أحد مكوناته، وبالتالي تصبح جزءا لا يتناغم مع إطاره العام معطلاً في الوقت نفسه لأهدافه وتطلعاته.
يتسم النظام السياسي الفلسطيني بالكثير من الالتباس والتشوه البنيوي أدى إلى نوع من التعطيل لوظيفة النظام السياسي، ويمكن تلمس هذا الالتباس من خلال مفهوم النظام السياسي نفسه، حيث يحدث نوع من الخلط الإحتوائي ما بين النظام السياسي والسلطة السياسية، بمعنى آخر فإن السلطة السياسية يتم التعامل معها على أنها هي النظام السياسي بأكمله وليست أحد مكوناته إضافة إلى المكونات الأخرى، وهذا الالتباس أدى إلى حدوث التشوه البنيوي لتركيب وتكوين ووظيفية النظام السياسي وضمان التفاعل التكافئي - التكاملي بين مكوناته. الأمر الذي يتطلب مراجعات عقلانية شاملة، تأخذ في اعتبارها عوامل متداخلة ومتصارعة ومتناقضة في آن واحد، وتشكل كابحاً ومعوقاً مفصلياً لتفكيك الالتباس وتصويب التشوه البنيوي. أولى هذه العوامل هو الاحتلال، فللوهلة الأولى قد يكون هذا مبرراً - في ظل الاحتلال - هذا الالتباس والتشوه البنيوي للنظام السياسي الفلسطيني، فالاحتلال يعمل على تقويض كافة المكونات والموارد والإمكانيات الفلسطينية  بكل وسيلة وبأي أسلوب يضمن له إنهاك الشعب الفلسطيني في معارك داخلية تستنزف قواه وتبعده عن معركته الوجودية في مواجهة هذا الاحتلال، الأمر الذي يعده انتصاراً له، فطبيعة العلاقة الجدلية التناقضية ما بين الاحتلال الصهيوني والشعب الفلسطيني تقول بأن كل استنزاف للشعب الفلسطيني هو مصدر قوة للاحتلال ومشروعه العنصري، والعكس صحيح فكل قوة للشعب الفلسطيني هي مصدر ضعف للاحتلال وتقويضاً له. لذا فإن الاستناد إلى التبرير بوجود الاحتلال لا يلغي ضرورة تفكيك الالتباس وتصويب التشوه البنيوي، الأمر الذي يستدعي الإبداع وإحداث الاختراق في كيفية الحفاظ على بنيوية للنظام السياسي واضحة العلاقات والوظيفة تعمل على أن تكون إضافة في معركة الشعب الوجودية في مواجهة الاحتلال.
يأتي العامل الثاني هو مكونات النظام السياسي الفلسطيني نفسه، فبنظرة بانورامية شاملة نجد أن مكونات هذا النظام جاءت كنتاج لحظة تاريخية معينة تجسدت في احتلال فلسطين، أي أن هذه المكونات جاءت كرد فعل مناقض للاحتلال، ولم تأتي وفقاً لقواعد دستورية أو نظام أساسي منظم لها، وبالتالي حمل كل مكون أفكاره وإيديولوجيته ونظرته الخاصة للصراع وفقاً  لمصادره وانتماءاته الفكرية وعمقه الإستراتيجي، وتنوعت وتناقضت هذه المصادر ما بين الفكر القومي العربي والفكر العلماني  والفكر الديني الإسلامي والفكر الماركسي. هذا التنوع للمصادر أوجد حالة من التناقضية ما بين مكونات النظام السياسي الفلسطيني الحالي، صحيح أن التأثير لم يعد بذلك الحجم الذي كان في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، إلا أن الموروث الفكري لا يزال يلقي بظلاله تأثيراً في النظام السياسي الفلسطيني، الأمر الذي أدى إلى التشوه البنيوي والالتباس في مفهوم النظام السياسي الفلسطيني وأولوياته ومساراته، كنتاج لاختلاف الرؤى والفكر المؤسس. على الرغم انه كان من الممكن استغلال تنوع المصادر الفكرية لخلق حالة من الاختراق والإبداع ووفرة الوسائل في مسيرة الصراع مع الاحتلال، إلا أن ضيق الرؤى وبروز المصالح الحزبية كأولوية والارتباط بالعمق الإستراتيجي جعل من الأمر يتخذ نقيضه، ويصبح هذا التنوع عاملاً آخر للتشوه البنيوي للنظام السياسي الفلسطيني.
يتسم الواقع الفلسطيني الحالي بالتشابك وغياب الرؤى الموحدة في إدارة الصراع وآلياته في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وربما يكون هناك هدف مشترك للكل الفلسطيني بكافة مكوناته يتمثل في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة لفلسطينية العتيدة، ولكن اختلال النظام السياسي الفلسطيني وتناقضات مكوناته جعل هذا الهدف يتأخر تحقيقه كنتاج طبيعي للإختلال والتناقض، ولكن غير طبيعي لشعب يخوض معركته الوجودية منذ ما يقارب القرن من الزمان، شعب أبدع وقدم الشهداء والأسرى والجرحى والمعاناة والتضحيات الجسام. إن صيرورة التاريخ وعقلانيتها تقول بضرورة أن يتخذ الشعب الفلسطيني مكانته الطبيعية في دولته المستقلة كاملة السيادة، وصيرورة التاريخ وتراتبيتها تقول أيضاً بأن كل حلقة من حلقاتها تشكل نتيجة لما قبلها وإرهاصاً لما بعدها، وكل إبداع فلسطيني في خلق حلقة عقلانية من حلقات صيرورته التاريخية، تشكل بحد ذاتها انفراط لحلقة من حلقات الاحتلال المدعاة زوراً وبهتاناً. لذا يجب أن تكون هناك مراجعة عقلانية – تاريخانية لمسيرة الشعب الفلسطيني ومحطاته المفصلية، والبحث في تشوهات واختلالات هذه المحطات وبنيتها ومكوناتها الفكرية والثقافية المكونة لهوية الشعب الفلسطيني التراكمية. فالهوية إن وصلت لمرحلة الجمود باتت كابحاً معطلاً للتغيير والتنوع والإبداع والاختراق، إن الهوية هي مصدر انطلاق لا إنغلاق وتنتمي إلى لحظتها التاريخية الراهنة تطوراً، في الوقت الذي تستند فيه إلى موروثها الفكري والثقافي استناداً داعماً للنقد بحثاً عن التطور لخصائصها وسماتها، بما يحقق الأهداف الوجودية للشعب الفلسطيني.
وتأتي مسألة النقد والبحث في مسألتي الشرعية والمشروعية لمكونات النظام السياسي الفلسطيني كخطوة لا مناص من القيام بها، فشرعية النظام السياسي ترتبط بشكل أساس بالقانون، بمعنى أن كافة مكونات النظام السياسي يجب أن تكون نتاجاً لتطبيق وتنفيذ قواعد قانونية تحدد آلية تكونها وتشكلها وتفاعلاتها، وأي خروج لأي مكون عن الإطار القانوني هو بمثابة خروج من النظام السياسي، الأمر الذي ينطبق على الدولة كاملة السيادة، ولكن في الحالة الفلسطينية فإن النظام السياسي بكافة مكوناته في علاقة صراعية جدلية مع الإحتلال، ومع التأكيد على ضرورة وجود الإطار القانوني كحاضنة أساسية لهذا النظام السياسي، إلا أنه ومع وجود الاحتلال كعامل يحاول كبح وتعطيل كافة فرص التقدم والإبداع للشعب الفلسطيني، يصبح لزاماً العمل على صيانة وحماية النظام السياسي الفلسطيني من خلال إضافة أطر أخرى تشكل حالة تكاملية تفاعلية تبادلية داعمة للإطار القانوني، هذه الأطر تفرضها وتستوجبها طبيعة الحالة الصراعية مع الاحتلال، وتتسم هذه الأطر بأنها تجسد خصائص الهوية الفلسطينية ذات الطبيعة المرنة في اتجاه التطور والصلبة في علاقتها الصراعية التناقضية مع الاحتلال.
ما سبق يقود إلى مشروعية النظام السياسي الفلسطيني، حيث أن المشروعية تعتبر إطاراً أكثر شمولية من الشرعية، فالمشروعية تستند في مكوناتها إلى القانون والأيديولوجيا والكاريزما المرتبطة بالقوة المستندة إلى القدرة على التأثير، بمعنى أنها تناسب الحالة الفلسطينية وتمنح النظام السياسي مرونة تتطلبها طبيعة وخصوصية القضية الفلسطينية، فكما سبق أن ذكرنا فإن معظم مكونات النظام السياسي الفلسطيني تستند إلى الأيديولوجيا، إضافة إلى الكاريزما، ويأتي القانون في المرتبة الثالثة – أهمية وتاريخياً - في منح المشروعية لهذه المكونات، ونظراً لتعدد المصادر الثقافية والفكرية المؤسسة لأيديولوجيا مكونات النظام السياسي وارتباطاتها بالإقليمية والدولية، الأمر الذي تسبب في بروز صراعات بين مكونات هذا النظام، وما الإنقسام الذي يضرب القضية الفلسطينية في صميمها إلا نتاج لتعدد وتنوع هذه المصادر.
 إن عملية إعادة المراجعة لمشروعية مكونات النظام السياسي الفلسطيني تتطلب إعادة ترتيب لأولويات مكونات المشروعية نفسها كخطوة أولى، بحيث يأتي القانون في مقدمة هذه المكونات وخاصة في تحديد الطبيعة البنيوية – الوظيفية لمكونات النظام السياسي، إضافة إلى تأطير العلاقة التفاعلية بين مكونات هذا النظام نفسها من ناحية، ومع مجتمعها وإطارها المجتمعي العام من ناحية أخرى، فالقانون مجرد ويمثل العقلانية بعيداً عن تأثير الأيديولوجيات العاطفي في غالب الأحيان، ولكن رغم ذلك فإن التأثير العاطفي في إطار عقلاني يظل حاضراً ومطلوباً في الحالة الفلسطينية، كونها قضية وطنية بأبعاد وأعماق متعددة تتطلب ترسيخ مشاعر الانتماء والتجذر فلسطينياً وقومياً - عربياً. ثم تأتي مسألة الكاريزما وامتلاك القدرة على التأثير في المرتبة الثانية، وأخيراً تأتي الأيديولوجيا والتي هي نسق الأفكار المخاطبة للعواطف والمشاعر، ويظل هناك اشتراط ألا تكون هذه الأيديولوجيا عاملاً مولداً للصراعات، وهذا لن يكون بدون إعادة قراءة نقدية بناءة لهذه الأيديولوجيات بما يتوافق مع الواقع الفلسطيني، بحيث تشكل إضافة لمكونات الهوية الفلسطينية تساهم في تطورها وعدم جمودها.

يتبع