طباعة هذه الصفحة

دراسة نقدي

جمالُ صوت المرأة في السّرديّة التّعبيريّة

بقلم: كريم عبد الله – بغداد

حضور الصّوت النّسائي متميّز ينثر عطرا ويضيف ألقاً وعذوبة

- قوالب الشّعر الجاهزة لم تعد ترضي غرور مؤلّفي القصيدة وحواء نجحت بالتّجديد

- اللّغة الجديدة تجاوزت القوالب الثّابتة والصّيغ المتعارف عليها


يقول هيجل: الشعر هو الفن المطلق للعقل، الذي أصبح حرّاً في طبيعته، والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية، ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للأفكار والمشاعر.
مما لاشكّ فيه أنّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج إذا لم يستطع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى استثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه، وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه، وقد تموت أيضا إذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها، وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة، فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة، والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض.
نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الأدبية أن نستنشق الآن ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع، فلقد أصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة، ونحن لم ندّخر أي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة، وإبداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة، نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز، وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة.
التّجديد هو الانطلاق نحو الحرية وصناعة الغد
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري، لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود (في الوقت الحاضر)، وتجلّى هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها، وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم، وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الآن في كتابة قصيدة النثر، صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية،  لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع، والانطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب، فلقد أحسّ الشاعر بمهمته الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة، فنحن نؤمن وعلى يقين بأنّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي، بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية.
نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد، والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا، لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها، وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة، وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي، وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة.
سنتحدّث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية، ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها، ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية.
إنّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ، فمنذ تأسيس موقع (السرد التعبيريّ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز، وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما، وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعرائها، فأصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة، وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه.
لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً، وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع، فكانت بحق آيقونة رائعة. القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة، بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها، ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة، ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق، منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه. كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان، نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها، فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي، فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات، ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية، كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة، كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل، وإعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان. فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب، وترسم لها هويّة واضحة الملامح، فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري، ونضجت هذه البذور حتى أصبحت شجرة مثمرة. لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة، فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا، وحقّقت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي، وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية.
الرّسالية الفنية (الجمالية)
كما قلنا في مقالنا السابق حول الرسالية بانّها (الرسالية) تنقسم الى رسالية اجتماعية وتناولنا فيها الشاعرة مرام عطية، وسنتناول بعدها الشاعرة لينا قنجراوي، وبعدها سنتناول الشاعرة حنان وليد. أما فيما يخصّ الرسالية الفنية فسنتناول فيها كلا من الشاعرة أحلام البياتي والشاعرة سميرة محمد محمود والشاعرة بتول الشبيب.
إنما نقصدة بالرسالية الفنية (الجمالية) هو الكتابة بعمق والأشتمال على الأصالة والتجديد، فإن الكتابة بالسرد التعبيري وبصيغة الكتلة النثرية الواحدة (الأفقية) تشتمل على عناصر الأصالة والتجديد والأبتكار والتطوير. وأصبحت تمتلك مساحة يستطيع الشاعر أن يتحرّك فيها بحرية يعبّر من خلالها عن الرؤى وتطويع اللغة، فأصبحت اللغة فيها لغة استشكافية مراوغة تبتعد عن المباشرة والسطحية وتحمل طاقات متفجرة، تتلون في خطاباتها وتتموج اللغة ما بين التوصيلية والانحراف اللغوي العظيم ومن خلال وحدات نصّية متجاورة ممتالية وكما في نصّ الشاعرة أحلام البياتي (هي) حيث تختفي كينونة الانثى في طيّات هذا العنوان، ومن ثمّ تبدأ بالتصريح عما يجول في أعماقها وتسقطه على هذا النسيج اللغوي، وهي تصرّح علنا عن ذاتها المكبوتة. فنجد هنا بأن لكل مفردة سحرها وتأثيرها وأهميتها في هذا النسيج وكما في هذا المقطع (...وبدهشة أناملي وهي تسير بدون بصر على حشائش روحي التائهة في مضايف الدواوين تبحث عن قضمة تسد رمق السنين الموجعات...). هنا نجد اللغة الجديدة التي تتجاوز القوالب الثابة والصيغ المتعارف عليها، حيث اللغة تنفلت وتتشظّى بغموضها المحبب وما تمتلكه من إيحاءات وابتعاد عن المعهود لتعبّر عن موقف معين، وإضفاء الحياة والدهشة من خلال انزياحات هذه اللغة. إن الخروج من واقعية اللغة وإضفاء اللغة العميقة القادمة ممّا وراء الحلم يحقق جمالية فذّة تتكشف بوضوح تثير شغف المتلقي بالقراءة اكتشاف مكنونات النصّ، فتكون حيّة رهيفة مشعّة متحركة كما في هذا المقطع..(تطوف بحروف مقدسة اختمرت منذ أمد بعيد وحان موعد قطافها..). إن كلة كلمة تمتلك قيمة من خلال رنينها وإيحاءاتها وصوتها الموسيقي المنبعث من خلالها، حيث إن اللغة تريد أن توحي بالكثير وتقلق المتلقي بغرابتها وترفها كما في هذا المقطع ..(تطوف بحروف مقدسة اختمرت منذ أمد بعيد وحان موعد قطافها..). لابدّ للشعر أن يمتلك عنصر المفاجأة التي تذهل المتلقي، وأن تمتلك زخما شعوريا عن طريق جمالية تنبعث وتتحرر من خلال وحداتها البنائية، وكما في هذا المقطع..(فأصابت كبد الحقيقة مقطرا من هول المفاجأة قطرة، قطرة ثم اجتمعن في مساحة قطرها قلبي الفاقع لونه المزرق..). إن النصّ ينقل الينا الاحساس العميق بالوحدة والقلق والريبة والانتظار نتيجة ما يعانية الانسان (المرأة) نتيجة قسوة الواقع.
 لقد اختتمت الشاعرة نصّها هذا بالصمت والانكفاء نحو الداخل بعدما حاولت في بدايته التصريح والاعلان عن خلجاتها ويختفي صوتها بالتدريج كما في هذا المقطع الأخير..(فتكتمل قصة كل مساء نسخة طبق الأصل..).
إنّنا إذ نقدّم ها هنا كاتبات السردية التعبيرية انما نحاول اكتشاف الملامح السرد التعبيري، ما نقدّمه ليس نقدا كما هو متعارف عليه، إنما محاولة قراءة هذه النصوص وفتح الطريق امام من يريد الكتابة بهذه الطريقة الجديدة. فلابدّ إذا من الاشادة بجمالية هذه النصوص وتوثيقها ونشرها على نطاق واسع، لقد استطاعت الشاعرة أحلام البياتي أن ترسم لنا هذه اللوحة الجميلة والمدهشة بما منحتها طريقة الكتابة هذه، وحلّقت عاليا في سماء السرد التعبيري.

النصّ:
هي...
بقلم: أحلام البياتي - العراق

وبدهشة أناملي وهي تسير بدون بصر على حشائش روحي التائهة في مضايف الدواوين تبحث عن قضمة تسد رمق السنين الموجعات، تطوف بحروف مقدسة اختمرت منذ أمد بعيد وحان موعد قطافها؛ تطوف بحروف مقدسة اختمرت منذ أمد بعيد وحان موعد قطافها، فأصابت كبد الحقيقة مقطرا من هول المفاجأة قطرة، قطرة ثم اجتمعن في مساحة قطرها قلبي الفاقع لونه المزرق؛ فتكتمل قصة كل مساء نسخة طبق الأصل..