طباعة هذه الصفحة

انطباعات

«هايد بارك» العربيــة

بقلم: دكتور محيي الدين عميمور

أرجو ألا يعتبر من باب الإفراط في المجاملة الأخوية القول بأن الصحف الإلكترونية العربية، على قلتها، أصبحت ساحة فكرية ومنبرا سياسيا أقرب إلى «هايد بارك» لندن، ولعلّها أصيبت بالعدوى منه، وهكذا نعيش معها يوميا عملية تنفس سياسي وفكري لا يمكن أن تحقّقها الصحف الورقية، برغم أن تكاثر الثروة المعلوماتية يجعل من الصعب أن يتمكّن من الاطلاع عليها واستيعابها قارئ مشغول بألف اهتمام واهتمام من ضروريات الحياة، لكن الجانب الذي لا يقل أهمية عن تلك الثروة هو حجم ردود القراء ونوعيتها، والتي تستكمل جهود المثقفين الذين يثرون الصفحات الإلكترونية.

ومن هنا أبذل جهدا مضاعفا لكي أحاول أن أحيط بما يُمكّنني الوقت من الإحاطة به، وأحاول في الوقت نفسه أن أذكر بكتابات وتعليقات لرفقاء أحسّ بأن التوقف عند إنتاجهم مرة أخرى هو تعميم للفائدة، خصوصا إذا كان ذلك الإنتاج قد أفلت من غربال القراءة المدققة لسبب أو لآخر.
وفيما يتعلّق بالجزائر، فإن تعليقات كثيرة تكشف أكثر من كلماتها، وخصوصا تلك التي تستعمل التوقيعات المستعارة، والتي أكاد أتصور أن كثيرا منها هو لشخص واحد مكلف بمهمة محدّدة، هدفها إرسال برقيات معينة، وهو ما يكشفه ابتعاد التعليق عن جوهر الموضوع ليطرح قضايا لم تكن مطروحة أساسا، أو ليهاجم الكاتب بشكل شخصي للتشكيك في موضوعية كتاباته، وهو غالبا، فيما يتعلق بالقارئ الواعي، جهد ضائع، برغم أن هناك من يجذبهم التوقيع الرمزي أملا في معرفة سرّ يختبئ وراء الأبواب المغلقة.
وتكشف تعليقات القراء على الأحداث الكثير من خلفياتها، ومن ذلك ما تناولته «ربيعة خريس» في مقالها بصحيفة «رأي ليوم» عما عاشه مطار «أورلي» الباريسي»، عندما انهال وزير الدفاع الجزائري الأسبق الجنرال خالد نزار بالعصا على مواطن مغترب نعته بالمجرم.
وقبل أن أدين الفعل وردّ الفعل أذكر بما حدث منذ عدة أسابيع، عندما أزعجت مجموعة من الشباب في باريس الوزير الجزائري الأسبق أبو جرة سلطاني، الذي ينتمي إلى التيار الإسلامي، ثم أذكر بما كنت تناولته في الحديث الماضي عن مشاكسة شاب في الحرم المكي للوزير الأول الجزائري نور الدين بدوي، الذي كان يؤدي شعائر العمرة، وفي الحالتين كان هناك من أسعده ما حدث، وهؤلاء أنفسهم هم من تناولوا تصرف الشاب الجزائري ضد نزار بغضب شديد، متناسين بأن من لم يغضب بالأمس ليس من حقه أن يغضب اليوم، لأن الاعتداء، ولو لفظيا، على شخصية جزائرية، وخصوصا خارج الوطن، هو أمر مذموم يسيء للجميع بدون استثناء، لكن التعامل بمكيالين هو أكثر سوءا من الفعل نفسه.
وما يهمني هنا هو أن الصحفية استخرجت من التعليقات الجزائرية بعض الأبعاد العميقة للتفكير الجزائري المرتبط بالأحداث الحالية في الشارع الجزائري، حيث روَت عن إعلامي جزائري مُقارنةً بين تعاطي خالد نزار وتعاطي قائد المُؤسسة العسكرية الحالي الفريق أحمد قايد صالح.
قال الإعلامي: «خالد نزار لم يكن يملك سوى عصا إلا أنه انهال على شاب بالضرب لمجرد أنه قال كلمة لم تعجبه، بينما القايد صالح يملك كل القوة التي تحوزها البلاد ولم يُعتدِ على مواطن واحد رغم أنه يلقى السب والتخوين صباحا مساء».
وكانت تلك القضية عند البعض فرصة لتجريم الضباط الجزائريين الذين فروا من الجيش الفرنسي للالتحاق بالثورة الجزائرية، والذين كان وزير الدفاع الأسبق كريم بلقاسم أول من رحب بهم في منتصف الخمسينيات، بينما استفاد أول وزراء الدفاع بعد استرجاع الاستقلال، هواري بو مدين، من كثيرين منهم، وعلى رأسهم أول قادة سلاح الطيران العقيد سعيد آيت مسعودان، رحم الله الجميع.
والتاريخ هو وحده من يحكم على النوايا وعلى كل الممارسات.
غير أن أهم ما توقفت عنده في الأسبوع الماضي مقال مطول للكاتب محمد شرقي، تناول فيه جانبا من جوانب
التفاعل الجزائري مع القضية الفلسطينية، وهو يقول: إن حب الشعب الجزائري لفلسطين جعله يضع هذه القضية في مقدمة اهتماماته، فهو أينما حل وأينما ارتحل يتغني بفلسطين، وهذا هو ما حير الغرب والكيان الصهيوني خاصة.
 ويواصل شرقي قائلا: ينقل الجزائري معه القضية الفلسطينية أينما تواجد،  فصارت رايتها ترفع كأيقونة في  الملاعب، وحناجر الشباب تصدح بالأهازيج طيلة الـ 90 دقيقة مدة المقابلة محلية كانت أو دولية (..) لقد عجز علماء الاتصال الجماهيري وعلماء الاجتماع وعلماء النفس عن تفسير هذه الظاهرة الجزائرية الفريدة من نوعها التي لا تجدها في أي ملعب وخاصة الملاعب العربية.
ويذكر الكاتب بمقابلة رياضية جمعت بين المنتخبين الأولمبيين الجزائري والفلسطيني في فبراير 2016 بملعب العاصمة الجزائرية وحضرها نحو 90 ألف شخص، عبر فيها الجمهور الجزائري عن مدى عشقه للقضية الفلسطينية لدرجة أنه شجع المنتخب الفلسطيني ضد منتخبه الوطني.
وأهمية كل هذا، كما يقول الكاتب، هو أن الكيان الصهيوني يهتم بهذه الحالة الجزائرية، وهو يحاول دراسة وتحليل أسباب تبني الجماهير الجزائرية للقضية الفلسطينية، فلم يجد لها تفسيرا مقنعا، وقد حاول مركز الدراسات الاجتماعية بمرسيليا القيام برصد الآراء، ثم ولج هذا المركز للمنصة الرقمية للبحوث الجزائرية لتحليل كل ما كتبه الباحثون الجزائريون فلم يجدوا سوى أن محبة الجماهير الجزائرية لفلسطين، هي محبة وجدانية أخوية تذكر الشباب الجزائري بويلات 132 سنة التي عاشها آباؤهم وأجدادهم من قتل وحرق وتهجير وتدمير للبيوت والحضارة، وهو ما تتلمذت عليه الصهيونية على يد ربيبتها الاستعمارية الفرنسية، التي قتلت نحو عشرة ملايين جزائري إثر احتلال الجزائر في 1830 بعد أن فقدت البلاد أسطولها  في معركة نفارين البحرية سنة  1827 (عندما وقف إلى جانب أسطول محمد علي باشا المصري)
ولعلي أذكر الكاتب بأن الراية غير الجزائرية الوحيدة التي رفعت في تظاهرات الحراك الجزائري كانت الراية الفلسطينية، والتي كانت ردّا أخويا ونضاليا على رفع الجماهير الفلسطينية للعلم الجزائري في المواجهات مع العدوّ الصهيوني.
غير أن ردود الفعل الجزائرية على كتابات «رأي اليوم» كشفت أمرا له أهميته، حيث أن جُلّ الهجومات على آراء ومواقف التيار الذي يُعبر عن الانتماء العربي الإسلامي كانت بتوقيعات مستعارة، وخصوصا تلك التي تناولت بكل ضراوة مرحلة الاستقلال بأكملها، وبدون أن تتحلى بذكاء تاكتيكي يجعلها تذكر لتلك المرحلة ولرجالها، وخصوصا أحمد بن بله وهواري بو مدين، بعض الفضائل، حيث أن أسوأ نظم الحكم كانت لها بعض الإنجازات، وفي طليعتها نظام فرانكو بإسبانيا، وحتى نظام كل من موسوليني وهتلر في بلديهما خلال الثلاثينيات.
وأنا ممن يزعجهم غباء المحاور أو المعلق أكثر مما يزعجهم هجومه، فمن الطبيعي أن يتعرض كاتب سياسي للهجوم ممن لا يرون رؤيته، أو ممن كلفوا بذلك ممن لا يرون رؤيته، لكن الغريب فعلا هو أن يندفع أحد هؤلاء في هجوم يتضح لأي متابع أنه في واقع الأمر أهم من الدفاع.
وأعتذر هنا إذا كنت أجد نفسي مضطرا للتوقف عند أمر شخصي.
والذي حدث هو أن موظفا كان يعمل في السفارة الجزائرية في أحد البلدان العربية، ثم فرّ، لأسباب يعرفها سفيره عبد القادر حجار، ليتخصّص في الهجوم على النظام الجزائري، هذا المخلوق عنّ له، أو طُلب منه، أن يندد بكتاباتي الملعونة وبمواقفي الخبيثة في الصحافة العربية المهاجرة، وكان المفروض أن يُرضي هذا غروري لأنه يعني أن سطوري ليست كتابة على الماء، وبأن ما أكتبه له تأثيره المزعج للبعض، خصوصا على من يرتبطون بمدير المخابرات السابق الجنرال توفيق، والذي اتهمني المذكور بالإساءة له، وهو، للأمانة، ما لم يحدث، لأنني لم أنتظر اعتقال الجنرال لكي أسجل، وبكل احترام لمنصبه، بعض ما كنت آخذه عليه، وما كتبته في الأسابيع الماضية كان إعادة لما كنت كتبته منذ سنوات وسنوات، وقبل إحالة الجنرال للتقاعد في 2015، وأكدت ذلك بذكر المصدر والتواريخ.
ويقول المذكور في نص متلفز إنني كنت زرت البلد الشقيق الذي كان معتمدا فيه مع الرفيق عبد العزيز بلخادم، وكنا نتجاذب أطراف الحديث جلوسا في قاعة الفندق الكبير، ثم فضلنا أن ننتقل إلى إحدى الغرف لنواصل الحديث بعيدا عن أسماع آخرين كانوا بجانبنا، وهناك اندفعت أنا، كما يقول، في هجوم حادٍّ على العسكر وعلى الجيش الجزائري.
كان هذا، كما روى، في 1993، وأعترف أنني لا أحمل في ذاكرتي صورة ولو شبحية تقريبية للموظف المذكور، ربما لأنه كان من النوع الذي لا يُحسّ بوجوده أحد إذا حضر، ولا يشعر بغيابه أحد إذا غاب، كأي موظف عادي في أي سفارة لا يملك مواهب خاصة أو قدرات مميزة، ومن النوع الذي يلتصق بأي وفد قادم من أرض الوطن، ربما لأنه مكلف بذلك.
ثم يقول المذكور إننا التقينا، هوَ وأنا، على مائدة حوار في لندن في 2006 وكان هو يهاجم ضباط الجيش بينما رحت أنا أدافع عنهم، وأعترف أن ذلك سقط من ذاكرتي، ربما لأنها ذاكرة انتقائية بشكل دكتاتوري مزعج.
ولم يكن سرّا أن موقفي في بداية التسعينيات كان متناقضا مع الانقلاب العسكري الذي أنهى مهامي كسفير في باكستان، وكان من الطبيعي أن أقول في قيادة الجيش آنذاك أكثر مما قاله مالك في الخمر، لكن صاحبنا فاته أن الإصرار على أن يكون الحديث في غرفة مغلقة هو تعبير عن إرادتي في عدم الإساءة لجيش بلادي أمام أجانب، أيا كانوا، ولعل ذلك هو من نفس منطلق ما حدث في ندوة «الجزيرة» المتلفزة بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات، مع فارق رئيسي هو أن قيادات الجيش لم تعد نفس القيادات، وكان الرئيس عبد العزيز بو تفليقة قد انطلق في عهدته الثانية رئيسا للجمهورية، وأحيل رئيس أركان القوات المسلحة الفريق محمد العماري إلى التقاعد، وكان شجاري معه في 2001 سبب رئيسيا لإقالتي من وزارة الثقافة، وهو ما كنت تناولته في كتابي «وزيرا زاده الخيال» الذي صدر عام 2014.
وكان من بين عناصر الهجوم الذي شنه عليّ ذلك المخلوق أنني كنت في باكستان (1989-1992) شديد الحماس لمهمتي وأبعث للجزائر بتقارير عن الوضعية هناك، وهنا أتساءل، والمفروض أن المتحدث هو ديبلوماسي مهمته أن يضع بلاده في صورة كل ما يعيشه بلد الاعتماد، أتساءل : ما هي مهمة السفير إذا لم يرسل لسلطات بلاده كل ما يعرفه عن بلد الاعتماد (وكل هذا تناولته في كتابي «سفيرا زاده الخيال» الذي صدر في الكويت وفي الجزائر في التسعينيات.)
ويجد المذكور سقطة هائلة !! في عملي إلى جانب الرئيس الشاذلي بن جديد فيقول إنني أنا من نصح الرئيس بتعيين الجنرال العربي بلخير، وهو أمر أؤكده، فقد كان العربي يومها ضابطا عاديا نشطا مطيعا للأوامر، ولم يتنمر إلا بعد أن تمت تصفيتي مع آخرين في منتصف الثمانينيات، لكن المذكور يضع نفسه بنفسه في الفخ حيث يعترف بأنني أنا من اعترف بذلك، أي أنه لم يكتشف ذلك بعبقريته الفذة.
وسأدع جانبا الكلمات النابية التي استعملها متناقضا مع مضمون روايته، والنص موجود على «اليوتيوب» لمن أراد الاستزادة، لكنني لا أملك إلا أن أشكر من أراد أن يسيء لي فإذا به يستعرض ما أراه تقديرا لجهودي ولمواقفي.
وما رميت إذا رميْت ولكن الله رمى.