طباعة هذه الصفحة

انطباعات

تاريـخ لــن يُهملـه التاريـــــــخ

دكتور محيي الدين عميمور

لست أدري كم مثقفا من بين الملايين العربية مَن توقف لحظات عند تاريخ 23 جويلية الذي مرّ بنا، أو مررنا به، منذ أيام. كان تغيير نظام الحكم في مصر ذلك الصيف من عام 1952 زلزالا أصاب المنطقة العربية والقارة الإفريقية وامتد أثره إلى بقية العالم الذي كان يعيش آنذاك نتائج وتداعيات الحرب العالمية الثانية، حيث برز قطبان شكّل الصراع بينهما وضعية استقطاب فَرضت على الضعفاء، وفي المقدمة منطقة الوطن العربي، الاحتماء بالغرب من «الغول» الذي أصبح القوة النووية الثانية بجانب الولايات المتحدة، التي راحت تستعد لوراثة القارة الأوربية العجوز في المناطق الحيوية من العالم، بينما سيطر الاتحاد السوفيتي على نصف أوربا ووضعها داخل ما أسماه ونستون تشرشل «الستار الحديدي».
أنا ممن يرون أن 23 جويلية كان نقلة نوعية في مسيرة الوطن العربي، بحيث أصبح يؤرخ به لما قبله ولما بعده. كثيرون يحبون المقارنة بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس الجزائري هواري  بومدين من منطلق أن كلا منهما أزاح الرئيس الذي سبقه وتولى الحكم مكانه بانقلاب سلمي هادئ، وهي مقارنة فيها بعض الصدق والكثير من البلاغيات.
أما الرئيس أحمد بن بله فقد عرفته الحرب العالمية الثانية مقاتلا في الجبهة الإيطالية تحت العلم الفرنسي الذي كان مجندا في صفوفه، وانضم بعد انتهاء الحرب لحزب الشعب الجزائري، ليصبح الرئيس الثالث (بعد محمد بلوزداد وحسين آيت أحمد) للمنظمة الخاصة، التي كانت الذراع السرّي للحزب، وكان بن بله أحد ثلاثة اجتمعوا في 1953 لتحضير الثورة الجزائرية (والاثنان الآخران هما علي مهساس ومحمد بو ضياف).
كان بن بله هو نفسه «مزياني مسعود» الذي ذهب إلى القاهرة ليضمن دعم مصر والوطن العربي للثورة التي ستنطلق في أول نوفمبر 1954.
في ذلك الوقت كان العقيد هواري بومدين قد أمسك بزمام جيش التحرير الوطني، وكان يرى أن الثورة التحريرية قد قطعت طريق اللاعودة، وأن المرحلة أصبحت تتطلب تنظيم جيش التحرير ليكون العمود الفقري للدولة المستقلة، وذلك لإفشال عملية «القوات المحلية» التي أنشأتها فرنسا لتكون هي جيش المستقبل بعد التمكن من تسريح جيش التحرير والتخلص من قياداته، وذلك بالتنسيق مع الحكومة المؤقتة التي وقعت اتفاقية وقف إطلاق النار في إيفيان في مارس 1962.
آنذاك، كان «الأحرار الخمسة» معتقلين عند السلطات الفرنسية، ولكن المجلس الوطني للثورة كان قد عينهم غيابيا في الحكومة المؤقتة، وهنا أرسل بو مدين أحد المقربين منه وهو الرائد عبد القادر (عبد العزيز بو تفليقة) ليضع نفسه وقوات جيش التحرير تحت تصرف محمد بو ضياف، الذي طُلب منه أن يقود المرحلة القادمة، بعد الصراع الذي حدث بين الجيش والحكومة المؤقتة.
خشيَ بو ضياف أن يكون رهينة عند العسكريين، فرفض العرض الذي لم يُرحب به حسين آيت أحمد، لكن أحمد بن بله التقط اليد الممتدة، وأدرك أن التحالف بين السياسيين والعسكريين هو طريق السلامة بالنسبة للاستقلال الوليد، وهو ما حدث بالضبط، وتناقض معه فيما بعد كل من بو ضياف وآيت أحمد.
كان السياسيون يضمون، إلى جانب بن بله، كلا من عباس فرحات (الرئيس الأول للحكومة المؤقتة) والذي أسندت له رئاسة المجلس التأسيسي، ومحمد خيضر (ثالث الوفد الخارجي خلال الثورة) والذي تولى قيادة حزب جبهة التحرير الوطني، الذي رُئي أن يكون، مرحليا، هو الحزب الوحيد بحكم نجاحه في قيادة الثورة نحو النصر، وكان هناك آخرون من بينهم أحمد توفيق المدني (ممثل الثورة في المشرق بعد 22 أكتوبر 1956).
كان بن بله قد قضى المرحلة من أكتوبر 1956 إلى مارس 1962 داخل السجون الفرنسية، ولم يستطع بالتالي أن يواكب حركة الثورة وتغير القيادات التي حلت محل من استشهدوا من الروّاد، في حين كان بومدين، والذي أصبح وزيرا للدفاع، يتابع كل صغيرة وكبيرة خلال سنوات الثورة.
كان من الطبيعي، إنسانيا، أن يحس الرئيس بن بله بنوع من العزلة، وتكفلت بطانة السوء بإقناعه أنه سيكون مجرد رئيسٍ «واجهة» (يملك ولا يحكم) إذا لم يتمكن من وضع أنصاره حيث يتموقع من لا يشاركونه وجهة نظره، وذلك بجانب أسبقية الأسبقيات وهي تقليم أظافر وزير الدفاع.
بدأ الأمر بالتناقض مع فرحات عباس الذي اضطر للاستقالة، وتلاه محمد خيضر، وحدثت مأساة إعدام محمد شعباني التي كان وزير الدفاع مكتوف اليدين أمامها بحكم تعقيد الأوضاع.
جاء دور بومدين، فدُفع أنصاره للاستقالة واحدا بعد الآخر، بدءا بأحمد مدغري (وزارة الداخلية) وقايد أحمد (السياحة) وشريف بلقاسم (الإعلام) وتم التضييق على آخرين مثل السفير على كافي (قائد الولاية الثانية) ثم بدأ الرئيس يستعد للتخلص من بو تفليقة، لكنه ارتكب خطأ جوهريا كان هو السبب الرئيسي في الإطاحة به، وهو تكوين ميليشيات عسكرية عهد بها إلى محمود قنز.
أدرك بو مدين أن وجود قوات مسلحة بموازاة الجيش الوطني قد تكون طريقا نحو صراعات مسلحة معناها بكل بساطة : الحرب الأهلية. يتم عزل بن بله في 19 جوان 1965، كما عُزل محمد نجيب على مرحلتين في منتصف الخمسينيات.
وهنا يأتي فرق جوهري في التعامل مع الرئيسين. فقد أهين نجيب، وهو بملابسه العسكرية، من قبل بعض الضباط الصغار، رتبة وشأنا وخلقا، ووضع في فيلا نائية كانت ملكا لحرم الزعيم المصري مصطفى النحاس باشا، وعرف فيما بعد أنه كان في وضعية بائسة.
أما بالنسبة لبن بله، فقد تم التحفظ عليه بكل حرص، خصوصا عندما أرسل عبد الناصر رفيقه الجنرال عامر «ليطمئن» على وضعية الرئيس المعزول، وقيل يوما أنه عرض أن تستضيف !! مصر بن بله، وكان رفض الجزائر سببا في نفور بين القيادتين، لم يمكن التخلص من آثاره إلا بعد الوقفة الجزائرية إلى جانب مصر في 1967.
كان من المواقف التي كان يخشاها الجانب الجزائري هو محاولة اختطاف بن بله من قبل الكوبيين واستغلاله أو المساومة به بشكل أو بآخر، حيث كان كاسترو قد تصرف إعلاميا بما يوحي أنه رأى فيما حدث بالجزائر شيئا يشبه انقلابات أمريكا اللاتينية.
وتذكر الجميع اختطاف موسوليني خلال الحرب العالمية الثانية.
بمجرد الاطمئنان في الجزائر إلى أن كل شيء هو تحت السيطرة، وُضع بن بله تحت الإقامة الجبرية في فيلا كبيرة تقع على الطريق بين العاصمة والبليدة، وتحمل اسم صاحبها الفرنسي السابق، فيلا «هولدن».
أنا ممن يعتقدون أن سجْن بن بله (ومجرد منعه من الخروج هو سجْن لا يحتمل أي فلسفة) كان مصدر ألم دائم لبومدين، وعُرف فيما بعد أنه كان يخضع لضغوط هائلة من بعض رفاقه حتى لا يُفرَج عن الرئيس السابق، وهكذا قرر، لضمان الانسجام في السلطة، أن يكون الإفراج عنه بقرار جماعي من مجلس الثورة في أول اجتماع لمؤتمر الحزب، والغريب أن هذا تم بعد وفاته وعلى يد الرئيس الشاذلي بن جديد.
أتذكر أنني كنت يوما في زيارة للرئيس بن بله في القصر الصغير الذي وُضع تحت تصرفه في «حيدرة»، وقلت له بحضور الرفيق عبد العزيز بلخادم (رئيس الحكومة الأسبق) إن هناك أمرا أحب، للأمانة وللتاريخ، أن تعرفه، فقد قضيت نحو ثمان سنوات إلى جانب الرئيس بو مدين، ولم أسمعه يوما يذكرك بأي تعبير سيئ.
يردّ الرئيس بن بله، بعظمة الثائر الجزائري: سي بومدين إنسان وطني (والذين يعرفون الجزائر يدركون معنى وجود الحرفين ...»سي»)
رويت القصة للرفيق العقيد عبد الواحد، الذي كان يوما من أفراد الحراسة في فيلا هولدن، فقال لي إن التعليمات كانت أن يقوم بحراسة بن بله ضباط من مستوًى عالٍ وليس مجرد جنود، ويجب أن يتم اختيارهم من بين هواة كرة القدم، للمساهمة في التفريج عن الرئيس المعتقل الذي كان معروفا بحبه للكرة.
وبعد.
المؤكد أن فقدان الوطن العربي لرجال من أمثال عبد الناصر وبومدين والملك فيصل وياسر عرفات، وقيادات أخرى كالملك محمد الخامس والأمير الخطابي والرئيس سوار الذهب والشيخ زايد بل وصدام حسين، كان انهيارا لأهم مقومات الصلابة العربية تجاه الهجمة الصليبية الصهيونية.
ولن أدخل في تفاصيل كثيرة سبق أن تناولتها، غير أنني كنت أرى أن مواصلة الهجوم على جمال عبد الناصر ونظام 1952 هو خطأ لا مبرر له، لمجرد أنه يحرم المعارضة من تعاطف قطاعات هائلة في الوطن العربي، وفي مصر على وجه التحديد، كانت تحترم في الرئيس المصري وطنيته وعروبته وفهمه للإسلام وتفهمه لمعادلات القوة، وبحيث نجد أن خصوم عبد الناصر آنذاك هم حلفاء العدوّ الصهيوني اليوم.
أصبح الخطاب السياسي إدانة لثورة جويلية ولقائدها، وانجر ذلك بالضرورة إلى إدانة القوات المسلحة بأسرها، وارتفعت الهتافات المنددة بحكم العسكر، مع تناسي المسؤول الأول وهو أجهزة المخابرات، التي تستعمل القوات المسلحة كعصا.
  وأصل إلى الحاضر لألاحظ بأن ذلك الحكم أصبح يُطبّق على الجزائر الحالية التي استرجع فيها الشعب مؤسسته العسكرية من براثن جهاز كان يتحكم فيها لمصلحة رؤوس الفساد السياسي والمالي، وتصور بعض أصحاب النوايا الطيبة من الرافضين، عن حق، لحُكم العسكر، أن من يزرعون الشارع الجزائري بشعارات «دولة مدنية لا عسكرية» هم أنصار للجماهير الثائرة على الفساد، وأنهم كانوا سندا للدولة العسكرية التي كان على رأسها، عمليا، وزير الدفاع الأسبق خالد نزار، وتتحمل قسطا كبيرا من مسؤولية العشرية الدموية، والتي كان من أول ما ارتكبته تجميد قانون تعميم اللغة العربية.
هنا يفهم الكثيرون أن فتور التجمعات الشعبية عبر معظم ولايات الوطن، وباستثناء وسط العاصمة الجزائرية الذي يُؤتي له بمتظاهرين من ولايات متجاورة، لا تعني فتورا في التجنيد الشعبي التلقائي ضد الفساد السياسي والمالي، فهذا أثبته الاستقبال الحماسي الهائل لفريق الكرة الجزائري، والذي لم ترتفع فيه، عبر التراب الوطني كله، إلا الراية الوطنية وإلا هتافات الاعتزاز بالفريق بكل مكوناته.
ويتأكد أن الفتور الظاهر هو موقف يقول ببساطة لمن يرفعون شعارات معينة أو رايات دخيلة : «لستم منا ولسنا منكم.