طباعة هذه الصفحة

الجبهة والحزب – وقفة تأمّل

الدكتور محيي الدين عميمور

لم أحاول يوما نفيَ حماسي لدعم اتجاه ما، وبفتوري، أو بقسوة تنديدي باتجاه متناقض معه، لكن القارئ النزيه يدرك أن محاولة إمساك العصا من الوسط هي أسوأ أنواع التعامل مع الأحداث الوطنية، وخصوصا في المراحل المفصلية من تاريخ الأمة.
الواقع أن الجزائر عاشت مؤخرا أكثر من دليل على وعي شعبنا وعمق إدراكه للمعطيات التي ازدحمت بها المسيرة، وكان من ذلك تعامل الجماهير بالكثير من الفتور مع التظاهرات المتشنجة التي تركزت في شوارع وميادين معينة في العاصمة الجزائرية على وجه الخصوص، ووضعت بالتالي توجهات معينة في حجمها الحقيقي الذي لم تتمكن الصرخات المتشنجة من تضخيم تأثيره.
وبقدر ما يتضخم فتور الجماهير يتزايد بكائيات المظلومية الوهمية ويشتد التشنج ويتعالى الصراخ، بما يذكرني بمثل كان يردده صحفي مصري خلال أزمة الكرة المشهورة، حيث كان يقول: «خذوهم بالصوت حتى لا يغلبوكم»، أو شيء من هذا القبيل.
ويتطور الصراخ في التظاهرات الأخيرة، فلم يعد يكتفي بتخوين الفريق قائد أركان المؤسسة العسكرية (وهو بالمناسبة أول رئيس أركان من غير الفارين من الجيش الفرنسي ومنذ العقيد طاهر زبيري) بل أصبح ينادي بالاستقلال، نعم، بالاستقلال، وهو نداء يندرج في نفس المنطق الذي يدين به البعض كل مرحلة استرجاع الاستقلال، أي وضع كل الإنجازات الجزائرية عبر نحو 60 سنة في سلة مهملات التاريخ، وهو ما يشكل استهانة بجهود عشرات بل مئات الآلاف من الرجال والنساء الذين سخروا كل طاقتهم لبناء دولة تركها الاستعمار أنقاضا، بجانب أنه يُفسر في مستويات معينة بأنه تشجيع لدعوات الانفصال التي ينادي بها حزب الخائن فرحات، بالإضافة إلى أنه إهانة مجانية تخدم النظرة الاستعمارية لرجال تحملوا مسؤولية قيادة الدولة من أمثال أحمد بن بله وهواري بو مدين ورابح بيطاط والشاذلي بن جديد واليمين زروال ومحمد بو ضياف وغيرهم، ومن هنا يزداد نفور المواطن العادي المخضرم من «الجماعة»، فهو يعرف كيف كنا وكيف أصبحنا، ولا يخدعه التركيز على جرائم العشرية الأخيرة، وهي جرائم شارك فيها بشكل أو بآخر كثيرون ممن رفعوا شعار «يتنحّاوْ قعْ»، ويحاولون اليوم انتزاع عذرية زائفة.
وعلى ذكر المؤسسة العسكرية، كنت تناولت في حديث سابق أداء قناة تلفزة عربية تبث من تركيا، وقع منشطها المتميز، وبحكم نقص المعلومات الناتج عن عجز الأذرع الإعلامية الجزائرية، في فخ اتهام الجيش الوطني الجزائري بعسكرة نظام الحكم، متأثرا في أحكامه بما تعرفه بلاده بفعل الثورة المضادة.
على الفور راح «الجماعة» عندنا يشيدون بأداء معتز مطر، ويدعون كل من يعرفونه لمتابعة ما يقدمه لأنه يدعم خط الهتافات التي يرفعوها بتخوين قائد المؤسسة العسكرية.
وينقلب السحر على الساحر، بفضل ما يعرضه الإعلامي المصري خلال الأيام الستة من الأسبوع من جرائم سياسية واقتصادية واجتماعية بل وإنسانية تعرفها بلاده، وراح المواطن عندنا يقف مراجعا ما تعيشه الجزائر قائلا لنفسه بكل نزاهة وواقعية: ولكننا لا نعرف أمثال هذه الجرائم في بلادنا.
والواقع أن ردود الفعل هذه تجاوزت ما كنت أتوقعه، حيث كنت أتصور أن الشك سوف يتسرب إلى نفسية المواطن الجزائري حول الاتهامات التي يوجهها الإعلامي لنظام الحكم في بلاده، وسيتصور البعض أنه، وهو يخطئ في تقييم الأوضاع في الجزائر، يبالغ في اتهام نظام بلاده، وإذا بي أكتشف أن المقارنة تصب في صالح المؤسسة العسكرية الجزائرية، التي حرصت على حماية الحراك الشعبي من كل التجاوزات المحتملة، سواء من عناصر الأمن أو من بعض المتظاهرين المكلفين بمهمة الاستفزاز، ولم يسجل لها أنها حاولت القيام بأي دور منوط بمؤسسات الدولة وأجهزتها.
ودعّم هذا الاتجاه مواقف نفس الأطراف التي تكشف، يوما بعد يوم، أن ما تنادي به هو صيحات حق مشبوه يهدف إلى تقديم الباطل على عكس ما يجسده ويعنيه.
وأدرك المواطنون تدريجيا أن هدف «الجماعة» هو اختطاف المؤسسة العسكرية، لتعود وضعية التسعينيات التي فرضت فيها الأقلية إرادتها على حساب دماء وأشلاء عشرات الآلاف من الجزائريين، وكانت النتيجة أن عدوّ الأمس أصبح يسيطر تدريجيا في السنوات الأخيرة حتى على برامج التعليم وتسيير المطار وشركة المياه، وما خفي كان أعظم.
وعندما تخلّصت العدالة من تدخل السلطات غير الدستورية، بالتعبير الذي ابتكره الأستاذ علي بن فليس، وأصبح سجن «الحراش» رمزا يذكر عكسيّا بسجن «الباستيل»، تعالت الصّرخات مندّدة بتجاهل السلطات للعمل السياسي لفائدة التركيز على متابعة الجرائم الاقتصادية، متناسين أن الفساد السياسي هو الذي يحمي الفساد المالي، والفساد المالي هو الذي يدعم الفساد السياسي.
وهنا نفهم سرّ الصّرخات التي تهاجم قايد صالح، وتذكّرنا بصرخات «الثدييات» المسمومة التي دفعت الرئيس اليمين زروال إلى اختصار عهدته الرئاسية، بعد أن اكتشف أن المؤسسة العسكرية آنذاك كانت تعمل على تدمير مخططه لإنهاء المرحلة الدموية التي نتجت عن انقلاب بداية التسعينيات، عندما «استقيل» الرئيس الشاذلي بن جديد.
وعندما طالبت جماهير الحراك الشعبي بالديمقراطية، وهو حقّها المشروع، راح رمز آخر من رموز الجماعة يبتكر مفهوما جديدا يُفقد الديمقراطية مضمونها الحقيقي، وراح يقول ما معناه بأن ديموقراطية الصندوق الانتخابي معناها أن الأغلبية تسحق الأقلية، وهو منطق يتهم ويدين كل الديموقراطيات الغربية التي يتغنى البعض عندنا بروعة أدائها.
وليس سرّا أن دكتاتورية الأغلبية مُحجّمة في الديمقراطيات المتطورة بفضل القوانين التي تسيّر حركة المجتمع، وتعطي لكلٍ حقه السياسي بل والمواطنيّ بالطبع، لكن القوم عندنا لا يفكرون في اقتراح أمثال هذه القوانين، لمجرد أن الهدف هو فرض دكتاتورية الأقلية، لتكون الديمقراطية مجرد ديكور يبرر للشمال دعم النظم الدكتاتورية، والأمثلة واضحة في كل مكان.
ويتوصل سقوط الأقنعة وافتضاح الخلفيات الحقيقية، والتي عبر عنها مؤخرا زعيم حزب يلتحف بوشاح الديمقراطية عندما طالب، علنا، بحذف المادة الدستورية التي تقول بأن الإسلام هو دين الدولة.
وهو هنا يستكمل ما قالته يوما زعيمة «حزيب» من إفرازات وزارة الداخلية من أنها تلتزم بالقرءان ولا تعترف بغيره، بما في ذلك السنة النبوية.
وكنت قلت يومها لرفيق كان معجبا بها: ليتك سألتها عن عدد ركعات المغرب، وما هي الآية القرآنية التي تحدد العدد بثلاث ركعات وليس اثنين أو أربعة.
وواضح أن المطالبة بإلغاء المادة الثانية من الدستور هي استجداء لعواطف الغرب الذي يعيش «فوبيا» الإسلام، فقد كان المعقول أن يطالب الزعيم المذكور بحماية الأقليات الدينية، مسيحية كانت أو يهودية أو غير ذلك، لا إلغاء مادة صوت عليها الشعب موافقا نحو عشر مرات.
وهنا نفهم لماذا تلتف الأقلية حول فكرة المجلس التأسيسي، الذي يلغي كل ما تم اعتماده منذ استرجاع الاستقلال، وفي مقدمة ذلك المادة الثالثة التي تعتبر اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية (بالألف واللام).
ومن هنا أيضا نفهم سرّ ما تعرضتُ له من هجوم عندما اقترحت ألا يكون التصويت على كل مواد الدستور مرة واحدة وبمجرد «نعم» أو «لا»، بل يتم التصويت على مواد معينة بصفة فردية، وكان الإسلام واللغة الوطنية من بينها، وفهمت أن خلفية الهجوم هو أن هذا سيضمن موافقة الأغلبية الشعبية على ما لا يريده القوم في الشمال، وفي فرنسا على وجه التحديد.
وهنا نجد شيئا آخر يندرج في نفس السياق، وهو تشنج «الجماعة» ضد حزب جبهة التحرير الوطني والمطالبة بوضعه في متحف التاريخ، أي إلغاء وجوده السياسي.
وهم يعتمدون التلاعب بالألفاظ، فجبهة التحرير الوطني التاريخية لم تعد موجودة إلا في النشيد الوطني الذي يقول أحد مقاطعه «جبهة التحرير أعطيناك عهدا»، وما تعرفه الجزائر اليوم هو «حزب» جبهة التحرير الوطني، أي حزب يلتزم بنفس المبادئ التي قامت عليها جبهة التحرير الوطني، وهو ما يعني أن من حق أي مجموعة أن تنشئ حزبا بعنوان «أنصار» جبهة التحرير الوطني، أو «الوفاء» لجبهة التحرير أو شيء من هذا القبيل.
وأدرك الوطنيّون بأن الهدف الحقيقي من تلك المطالبات هو التخلص من «اسم» جبهة التحرير الوطني، ليُستكمل الأمر غدا بتعديل النشيد الوطني أو تغييره، وهو ما يذكرنا بطلب إسرائيل من الرئيس السادات، بعد إجهاض النتائج السياسية لحرب أكتوبر المجيدة، التخلص من النشيد الوطني «والله زمان يا سلاحي»، بكل ما يعنيه ويرمز له، وهو ما تم فعلا، والنتائج على أرض الكنانة اليوم واضحة للجميع.
وهنا يأتي السبب الثاني، فقد بدا أن هناك اتجاها لتطهير الحزب من الشوائب التي علقت به، منذ تدخلت المخابرات في التسعينيات لتحجيم دوره وإدخاله بيت الطاعة، وتطهير الحزب يعيده إلى وضعية الخزان الانتخابي الأكبر بالنسبة للانتخابات الرئاسية، وهي الحل الأمثل للوضعية الهلامية التي نعيشها، والذي يخشاه «الجماعة»، ويفضلون وضعية الانقلاب العسكري الذي يضع مقاليد الأمور بين أيديهم.
وهنا نفهم خلفية دعوات البعض لإحراق بطاقات الانتخاب، فمعناه أن أغلبية محترمة سوف تجد نفسها عاجزة على التصويت لاختيار من تريد، ويخلو الجو لآخرين لاختيار من يريدونه ولا تريده الجماهير.
  آخر كلام: رحم الله الرفيق محمد سي فوضيل وأكرم مثواه، ورحم الله مجلة «المجاهد»، وليت مناضلي الحزب يدركون أنه في الطريق، إذا لم تكن هناك وقفة واعية تعتمد التضحية بالنفس أو ببعض الرفقاء.