طباعة هذه الصفحة

انطباعات

الجزائر: الرسالة والرسالة

بقلم: دكتور محيي الدين عميمور


الذين شاهدوا فيلم «الرسالة» للمخرج الشهيد صلاح العقاد يتذكرون مشهدا رهيبا لحلقة عزاء تصدرتها «هند بنت عتبة»، وهي تندب أباها وأخاها ومن قتلوا في «بدر» على وقع الطبول المتعالي، وأمامها كان يرقص عبدها «وحشيّ»، بِرُمْحِه الذي سيخترق أحشاء حمزة في «أحدْ».
وواقع الأمر أن المشهد عاد إلى ذاكرتي وأنا أتابع المندبة الإعلامية التي عاشتها الجماعة «هناك وراء البحر»، بتعبير كان أثيرا عند الرئيس بومدين، إثر الصورة الرائعة التي قدمتها الانتخابات الجزائرية للعالم بأسره.

ولعل أبرز ما يُعبر عن ذلك هوالعنوان الذي خرجت به صحيفة «الفيغارو» الفرنسية والذي يقول: «السلاح والمال وراء انتخابات رئاسية مزيفة»، وهوما يسير على نفس الخط الذي تناولته منذ أيام صحيفة «لوموند» والتي ادعت بأن الانتخابات ستفرز رئيسا ضعيفا غير قادر على تسيير الأمور.
والغريب أن من يرددون هذا من «الجماعة» الرافضة لإجراء الانتخابات الرئاسية والتي كانت تأمل في أن يُمكنها الجيش من تولي السلطة كما حدث في التسعينيات، هم أنفسهم الذين اتهموا الدستور الحالي بأنه يُعطي صلاحيات «دكتاتورية» لرئيس الجمهورية، والمفروض أن رئيسا بكل هذه الصلاحيات لا يمكن أن يكون رئيسا ضعيفا، بغض النظر عن أن الحكم بضعف رئيس أوبقوته هوضرب للريح بعصا معوجّة، لأن كثيرين وصفوا بالضعف وكذبت الأيام كل التنبؤات الكاذبة، ومنهم كما سبق أن قلت ترومان في أمريكا وأتلي في بريطانيا والسادات في مصر، ومع الفروق المعروفة في الأداء.
ولن يكون بمقدوري اليوم أكثر من تقديم انطباعات سريعة عن الانتخابات الجزائرية والتوقف عند بعض دلالاتها.
وبداية أعتقد أنه من حق كل عربي ومسلم بل ومن حق كل محب للحرية داعم للديمقراطية مؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها أن يحس بالفخر ويعتز بأنه وقف يوما إلى جانب الثورة الجزائرية في جهادها من أجل الاستقلال والحرية، وبأن الشعب الذي دفع أغلى ثمن دفعه شعب من أجل الحرية والكرامة ما زال شعب يفتخر كل إنسان بأنه وقف يوما إلى جانبه، بقدر ما يُحس بالخزي كل من استهان به.
وبرغم أن من حق شعبنا أن نسجل له وقفته الواعية، ومن حق المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية أن نقدر دورها الرائع في حماية السلمية، فإنني أزعم بأن أول من يجب أن نشكرهم على النتيجة المشرفة للانتخابات الرئاسية هم «البلطجية» الذين اعتدوا على أكثر من مواطن كان يحاول أداء واجبه الانتخابي، والذين اندفعوا في تشنج المخمور لتحطيم أدواتٍ أعدتها السلطات للانتخابات الرئاسية، والذين راحوا يشككون في نزاهة السلطة المستقلة لتنظيم الانتخابات ورئيسها محمد شرفي، والذين راحوا يستعدون منظمات دولية وبرلمانية ضد سلطات بلادهم، لمجرد أنهم حرموا من سرقة الحراك الشعبي الجزائري.
والواقع أنه، وبفضل تلك العمليات الإرهابية، تزايد حماس الجماهير في الأغلبية الساحقة من ولايات الوطن لتحقيق نسبة مشاركة تتجاوز ما يعتبر اليوم نسبة طبيعية في العالم بأسره، وهوما لم يفاجئ أحدا يعرف عقلية الشعب الجزائري ونوعية ردود فعله.
وأعترف أن مما يزعجني هوأن منطقة عزيزة على قلب كل جزائري عاشت وضعية الطائرة المختطفة، تماما كما توقعت ذلك في حديثي السابق، وكان هذا من الأسباب التي جعلتني أتمنى أن يكون هناك دورٌ ثانٍ للانتخابات، يعطي الأعزاء في الولايتين الفرصة ليقولوا لبقية الولايات الـ46: «لا تؤاخذونا بما فعل السفهاء منا»، وليستدركوا ما فاتهم من اللحاق بركب الشعب الجزائري في مسيرته نحوالمرحلة الجديدة التي تطوي صفحة القلق والتذمر والفساد.
ولعل هذا في حد ذاته الدرس الذي يتوجب الاستفادة منه بالنسبة للجالية الجزائرية، وخصوصا في بلاد الجن والملائكة، لتراجع اصطفافها وراء العناصر التي حولتها هي أيضا إلى طائرة مختطفة، وأن تدرك أن موقفها في الانتخابات الرئاسية سيشجع كثيرين في أرض الوطن على طرح تساؤلات لن تكون الإجابات عليها في صالح الهجرة بوجه عام، خصوصا وأن هناك اتهامات متداولة بدور الكثيرين من عناصر الهجرة في عمليات المقاصة النقدية التي أضرت بالدينار الجزائري، بالإضافة إلى دور البعض في تشجيع تهريب الأموال واحتضان المهربين والتواطؤ معهم.
وليت ملف الهجرة يكون من الملفات التي ستوضع أمام الرئيس عبد المجيد تبون بجانب تقارير تبين التنظيمات التي تتعامل بها الدول مع مهاجريها، وسواء تعلق الأمر بتركيا أوبالمغرب أوبمصر أوبتونس أوغيرها.فالهجرة جزء من الوطن، وقاعدة الحقوق والواجبات هي التي تحكم الجميع.
لكن انتخاب رئيس في دورة واحدة له معنىً لا يمكن أن أتجاهله، ويتجسد في أنه تعبير عن الوعي الرائع للشعب الجزائري، الذي جعله التشكيك في قوة الرئيس القادم يُصرّ على أن يعطيه أقوى الضمانات ليؤدي دوره على أكمل وجه ممكن، وهوما رأيته صفعة في وجه المشككين الذين استهانوا بجماهير تصوروا أنهم قادرين على العبث بأفكارها وتوجهاتها.
وأتصور أن تشنج «الجماعة» في التشكيك في نتائج انتخابات تمت في وضح النهار وأمام كاميرات التلفزة، هي محاولة لإنقاذ سمعة الرائد الفكري الذي يدعونه لأنفسهم، ولمحو الاتهام المنطقي لمن يتقدمون بصفتهم الطليعة الواعية بأنهم أبعد ما يكونون عن هذه الصفة المزدوجة، وهذا نفسه ما ينطبق على بعض وسائل الإعلام الأجنبية التي تحاول إنقاذ سمعتها من الاتهامات المنطقية بالانحياز والتحامل بل والجهل بمجريات الأمور، بمحاولة تقديم صور مشوهة عما عاشته الجزائر وتابعه العالم بأسره.
وهنا يأتي أمر آخر يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهوأن المقارنة مع الانتخابات السابقة يجب أن تتم بحذر شديد، إذ أنه كان لكل منها وضع خاص استدعى إجراءات خاصة.
ويبقى أن على من يستعملون «الحراك الشعبي» كمرجعية جدالية أن يدركوا أن ما عرفته الجزائر في الأسابيع الأولى بعد فبراير ليس هوعلى وجه التحديد ما تعرفه اليوم بعض الميادين والشوارع في العاصمة الجزائرية وبعض المناطق الأخرى من تجمعات لم تعد قادرة على إقناع الجميع بأنها تعبر عن رأي الجميع.
 ويبقى أيضا أن حبل الكذب قصير قصير، فالذين ادعوا بأن قيادة جبهة التحرير الوطني تلقت تعليمات بدعم المترشح عز الدين ميهوبي، وكانوا يشيرون بطرف خفي إلى المؤسسة العسكرية، فضحتهم النتائج التي أعطت ميهوبي المرتبة الرابعة في الانتخابات، وهي تبرئة واضحة للمؤسسة العسكرية التي لم تحاول تكذيب تلك الإشاعات تاركة الأمر للشارع الجزائري وحده.
وأعتقد أن الرجولة اليوم تتطلب أن يُراجع كلّ نفسه، وخير الخطائين التوابون.