طباعة هذه الصفحة

تخفي أسرارا لم تبح بها

ميلة مدينة الألف ساقية تروي قصتها

بقلم: الأستاذ/ عبد القادر حمداوي باحث في التاريخ

تعاقبت الأمم على مدينة ميلة، وخلف هذه الأسوار قامت ميلة العريقة، ولازال أطلال قصور هذه المدينة، لاشك أن مدينة ميلة وازدهارها الفني يرجع إلى المناطق النمودية المبنية بالحجارة وتعلوها أعتاب تعد من أقدم النماذج المشيدة.
ازدهرت حركة التعمير والبناء، حيث ظهرت أروع العمائر التي شملت أجمل ما يعرف في المنطقة.
وقد ساهمت العوامل الطبيعية على استمرار وظيفتها وعلى تعاقب الحضارات فيها إذ أقدمت كل حضارة من نصيبها.
تعتبر مدينة ميلة من المناطق النوميدية العريقة التي ظهرت في الشرق الجزائري تتخلّلها مساحات سهلية شاسعة خصبة صالحة للفلاحة، وتربية المواشي وتكثر فيها البساتين والحدائق وأشجار التفاح.
تقع مدينة ميلة، شمال شرق الجزائر، كانت تعرف بــ Melviun خلال فترة الإمبراطورية الرومانية، ويرجع تاريخ ميلة إلى العصر الحجري الحديث، حيث يوجد في المدينة أحد أهم مواقع ما قبل التاريخ، يعود إلى الحضارة الابيرو مغربية في شمال إفريقيا، أما عن مدينة فقد تمّ اكتشاف أدوات صوانية في الجهة الغربية الممتدة بين المدينة القديمة.
ظهرت ميلة في العهد النوميدي كإحدى أهم المدن التابعة لماسينيسا، حيث ذكرت بعض المصادر أنها كانت إحدى المقاطعات تدعى ميلو نسبة إلى ملكة كانت تحكمها في العهد الروماني، وفي عهد بوليوس قيصر ظهرت ميلاف كواحدة من المدن الأربع التي تشكل الكونفدرالية السرية تحت حكم سييتو سنيقر ينوس وحملت لقب كولونيا وقد ذكرت في العديد من النقاشات الأثرية بعدة تسميات.
أما عن أصل التسمية فقد اختلفت الآراء والتأويلات ولكن اتفق جل الباحثين على أن أصلها امازيغي ميلاف تعني الألف ساقية أو الأرض المسقية، وميلو تعني المكان الذي يتوسط عدة أمكنة وهو مشتق من موقعها الجغرافي، حيث تتوسط أهم المدن القديمة.
وتجدر الإشارة إلى أن العرب أطلقوا عليها اسم ملاح، أما قبل الغزو الروماني فيقال أنها كانت تسمى باسم ملكة قديمة تدعى ميلو، ويرى البعض أن التمثال المكتشف أخيرا يخص هته الملكة.
وفي القرن الثالث الميلادي، ظهر اسم ميلاف مرة في كتابات القديس سبيراين، أثناء المجمع الكنسي الذي عقد بقرطاج سنة 256م، وفي سنة 360م اشتهرت المدينة من خلال القديس أوبتا.
ما يميز مدينة ميلة أنها تمزج بين العديد من الآثار التي تعود إلى عهود مختلفة بقيت شاهدة على مرور النومديين وبعدهم الرومان والبيزنطيين والوندال، والعرب المسلمين، بالإضافة إلى العثمانيين والفرنسيين، واختلفت الآراء والتأويلات على أصل تسمية مدينة ميلة.
سيطر الرومان على بلاد النوميدية قبل الميلاد وميلة كانت في مكانة خاصة، فكانت أقدم مستعمرة رومانية وغدت في العهد الروماني مركزا عسكريا لحماية سرتا اختارها الرومان لتكون معسكرا لبعض  الجيوش.
إذا عدت إلى التاريخ فإنك ستزداد إعجابا بها بقدر ما سيحزنك لما مر بها من أمم غازية من حروب دامية.
وعرفت مدينة ميلة أيضا في وقت معين استقرار بشريا مبكرا، والتجمعات السكانية قبل الاحتلال الروماني، وكانت تشمل على قرى وبوادي، تقطنها القبائل النوميدية.
قام الرومان باحتلال مدينة سرتا سنة 12 قبل الميلاد، فامتد حكمهم إلى المناطق والمدن التابعة لها، ولا سيما القريبة منها كميلة، شيد الرومان ميلة بالحجارة التي استقدموها من الجبال المحيطة بها، وعندما زحف الوندال إلى شمال إفريقيا وبقوا في الإقليم الشرقي قرن من الزمن.
 واستولى البيزنطيون على المدينة سنة  539م وعملوا على تجديد بناء أسوارها وأبوابها ومنشآتها العمرانية، ونظرا لأهميتها الدينية جعلوا منها  مدينة القلعة، قام القائد سلومون ببناء السور المحيط بالمدينة وطوله 1200م، ودعمه بـــ 14 برجا للمراقبة. دخل الصحابي الجليل أبو المهاجر دينار ميلة سنة 55 هـ، بعد أن حاصرها حصارا محكما وقطع عن أهلها الماء، حتى استسلموا له واستقر بها، وقام ببناء أول مسجد في الجزائر، وأحد أهم المعالم الباقية في مدينة ميلة القديمة وهو بحسب المؤرخين أول مسجد شيد بالجزائر المسمى (بمسجد سيدي غانم).
وبعد وصوله قام بإنشاء قاعدة جديدة كان مقرها وسط البربر الذين تعاونوا معه على وضع نواة معسكره الجديد، وقد أرادها بهذه المبادرة أن يشاركه السكان المحليين في عملية الفتح، وقد قام بها سنين مع أهل كتامة وبنى دار الإمارة  ومسجدا إلى أن استشهد رفقة الصحابي عقبة بن نافع في معركة تهود الشهيرة.
وفي التاريخ القديم، تدخل منطقة كتامة ضمن إقليم نوميديا القديمة، وفي ظل الاحتلال الروماني ألحقت بموريتانيا السطيفية التي مركزها سطيف فميلة أمازيغية بامتياز.
احتل الفرنسيون مدينة ميلة في 04 جويلية من سنة 1837، وقد أظهر سكانها مقاومة عنيفة للاستعمار.
وقد استمات سكان المدينة بقوة فائقة جعلتهم يقفون بضراوة أمام موجة العدو الفرنسي بكل بسالة وشجاعة.
كما تمركزت قبيلة الزواغة عبر الإقليم الشمالي لميلة بقبائل مختلفة وقام السكان بمحاربة الغزاة والاحتلال الأجنبي، وخاصة أثناء مقاومة أحمد باي لقسنطينة سنتي 1836م
و1837 وكذا مشاركة مختلف هذه القبائل في ثورة الزواغة وفرجيوة لعام 1864 وثورة المقراني لعام 1871.
وقد أنجبت ميلة أبطالا كمحمد الميلي، والأخضر بن طوبال، وعبد الحفيظ بوصوف، ومحمد خطاب.
وتجدر الإشارة إلى أن ميلة ساهمت بقسط كبير في التوعية السياسية والوطنية، كونت خلايا تنظيمية، كانت تعتمد أساسا على النشاط السري للقيام بثورة أول نوفمبر.