طباعة هذه الصفحة

خير الخطائين

دكتور محيي الدين عميمور

كنت تناولت العلاقات مع فرنسا في أكثر من حديث، وكان مضمون ما قلته وقاله كثيرون أرفع مني قدرا وأكبر شأنا كان من بينهم الرئيسان هواري بو مدين والشاذلي بن جديد، رحمهما الله، أن الجزائر قلبت صفحة الماضي الأليم لكنها لم تمزقها.
لعلي أضيف أن الجزائر دفنت جثة الممارسات الاستعمارية لكنها لم تُزِل القبر ولم تدكّ بناءه، بل تركته ليكون شاهدا دائما على أننا قد نغفر ولكننا لا ننسى.
وكنت قلت بأن المصالحة مع فرنسا هي ضرورة سياسية لا للبلدين فحسب بل للمنطقة بأسرها، لكننا كنا دائما ننادي بمصالحة على غرار مصالحة فرنسا - دوغول مع ألمانيا ـ أديناور، بينما نحس أحيانا، بل وغالبا، بأن القوم هناك يريدون مصالحة على غرار مصالحة ألمانيا ـ هتلر مع فرنسا ـ بيتان.
ويأتي التصريح الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إثر الإعلان عن انتخاب الرئيس عبد المجيد تبّون ليدل على أنا لم نكن نبالغ ونحن نتداول الشكوك حول المواقف الفرنسية من إرادة الاستقلال الجزائري.
قال ماكرون، في أول ردّ فعل له على نتائج الانتخابات الرئاسية، إنه «أخذ علمًا!!  بأن السيّد عبد المجيد تبون قد انتُخب رئيسًا للجزائر في الدور الأوّل (و) أنه مهتم جدًا بالوضع في الجزائر وبتطلعات الجزائريين المعبّر عنها بكل مسؤولية وتحضر وكرامة منذ عدّة أشهر.
وأضاف الرئيس الفرنسي: «ليس لي وأنا في هذا المكان، أن أُعلّق أو أُقيّم أو أعطي تكهّنات، كل ما أتمناه أن تلقى هذه التطلعات المعبر عنها من قِبل الشعب الجزائري إجابة في حوار يجب!! أن يُفتح بين السلطات والشعب» وتابع: «يعود إلى الشعب الجزائري، أن يجد الطرق والوسائل لحوار ديمقراطي حقيقي، وأنا أقول لهم في هذا الوقت الحاسم من تاريخهم إن فرنسا تقف إلى جانبكم».
والذي حدث هو أن المثقف الجزائري المُتمكن من اللغة العربية استعمل، عند ذكر الرئيس الفرنسي، اسم «ماكِرٌ»، بتنوين الراء لا مختتما الاسم بالنون، وهو أمر يظلم «ماكرون» لأنه يقدم تصريحه الأخير حول الانتخابات الرئاسية الجزائرية وكأنه نتيجة تفكير عميق ودراسة وافية للأوضاع، في حين أن من تابعوا التصريح لاحظوا أن الرئيس الفرنسي، وعلى غير عادته، لم يرتجل التصريح بل كان يقرأ من ورقة قدمت له، وكان هذا يعني أن الرئيس الفرنسي «غلبان»، وأن ما قاله يستحق أن نتوقف عنده فقط لنفهم خلفياته وأبعاده.
وقد جاء التصريح «المزعج» - كما جاء في صحيفة جزائرية - للرئيس الفرنسي ليزيد من تعقيد أزمة العلاقات بين الجزائر وباريس، والتي دخلت النفق في الأيام الأولى للحراك الشعبي، وكان السبب انخراط الطرف الفرنسي في دعم أطراف داخلية كانت تستهدف تأزيم الوضع في البلاد، وذلك من خلال محاولة القفز على جهود المؤسسة العسكرية في البحث عن حلول للأزمة التي كانت تمر بها البلاد، وقد ألمح إلى ذلك نائب وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أحمد قايد صالح في أكثر من خطاب (وهذا من أهم أسباب عداء «القوم» للفريق).
وتواصل الصحيفة قائلة: هناك مؤشر آخر يؤكد على أن العلاقات الجزائرية الفرنسية دخلت نفقا مظلما، وهو الحملة الاعلامية المركزة التي شنتها قناة «فرانس 24″، يوم إعلان فوز تبون، وهذه القناة ليست عمومية أو خاصة، وإنما تابعة لوزارة الخارجية الفرنسية، مما يعني أن طريقة معالجة نتائج الانتخابات الرئاسية، كانت بتوجيهات وبمباركة من «الكيدورسي».  (وزارة الخارجية الفرنسية).
وقبل ذلك، تقول الصحيفة مختتمة خبرها: كانت تسريبات قد تحدثت عن طلب تقدم به السفير الفرنسي بالجزائر، «كسافيي دريانكور»، إلى الرئيس الفرنسي، طلب فيه إعفاءه من منصبه، وبررت تلك المصادر هذا الطلب، بالصعوبات التي أصبح يواجهها في أداء مهمته الدبلوماسية بسبب الرقابة الشديدة التي سلطت عليه من قبل السلطات الجزائرية، بسبب شبهات حول لقاءات سرية جمعت بعض رموز العصابة وجهات فرنسية.
المهم الآن أنه وبمجرد الإعلان عن فوز الرئيس الجزائري سارعت وكالة الأنباء الفرنسية فبثت خبرا يقول «احتشد المتظاهرون (بالألف واللام) بوسط الجزائر العاصمة للتعبير عن رفضهم لرئيس الجمهورية المنتخب»، واصفة له بأنه المقرّب من سلفه عبد العزيز بوتفليقة (متناسية أن الرئيس السابق أقاله من منصبه في ظروف معروفة).
وتواصل وكالة الأنباء الفرنسية قائلة بأن المتظاهرين رددوا:  «الله أكبر (أكرر...الله أكبر، تقصد أنهم كانوا إسلاميين) الانتخاب مزور»، و»الله أكبر، نحن لم نصوت ورئيسكم لن يحكمنا».
«وواقع الأمر هنا أن الرئيس الجزائري كان يملك المعلومات الكافية عن الأوضاع الحقيقية، ومن هنا كان ردّه، السهل الممتنع، على سؤال لأحد الصحفيين: (الرئيس الفرنسي) حرٌّ يُسوّق البضاعة التي يُحبّ في بلاده، وأنا انتخبني الشعب الجزائري ولا أعترف إلا بالشعب الجزائري».
والتحليل البسيط هو أن كلام الرئيس الفرنسي فُهِمَ على أنه يعبر عن موقف العناصر المخابراتية والاحتكارات البترولية وكل ما يدور في فلك آل روتشيلد، وكان موجها لكل العناصر التي كان يجري تحريضها طوال الشهور الماضية لخلق أوضاع متردية في الجزائر تبرر التدخل السافر في شؤونها.
ومضمون الكلام الموجه لمن أسماهم ديبلوماسي شهير يوما «معارضة سان جيرمان» هو أننا (في بلاد الجن والملائكة)، «لن نتخلى عنكم، وسنظل دائما وراءكم بكل وسيلة ممكنة».
وهذا ما يؤكد ما كنا نقوله عن الأصابع الفرنسية التي كانت تعمل ضد الجهود الجزائرية لضمان الاستقرار والأمن وتلبية المطالب الشعبية الحقيقية في قلب المغرب العربي، ومقالات «لوموند» و»الفيغارو» وغلاف «جون أفريك» كلها ماثلة في الأذهان.
ونلاحظ هنا الحماية الأمنية الهامة لكل التظاهرات المُضادة للسلطات الجزائرية التي عرفتها بعض المدن الفرنسية، وخاصة تلك التي كانت ترفع الأعلام «الضرار»، ونلاحظ في الوقت نفسه أن الأمن الفرنسي لم يقم بأي بادرة لحماية الناخبين الجزائريين الذين كانوا يتوجهون، على الأرض الفرنسية، نحو مراكز الاقتراع في القنصليات الجزائرية، وشاهدنا جميعا كيف جرت الاعتداءات ضد مواطنين جزائريين، وخصوصا من قبل بعض الملتحين بالأسلوب السلفي (أي بدون شوارب) وهو ما يمكن أن يدل على أن بعض المتأسلمين كانوا مخترقين من بعض الأجهزة الفرنسية.
وأتذكر هنا أن بياناتٍ لمن وصفوا بأنهم علماء إسلاميين كانت تقول بوضوح أن «تظاهرات الحراك كانت استفتاء شعبيا لا يحتاج إلى استفتاء آخر» (وهو رفض واضح للانتخابات التي كانت الجزائر تُعدّ وتستعدّ لها) مما يذكر بشعارات يرفعها البعض تقول : «نحن مسلمون ولسنا عربا»، وهو توجه عنصري واضح، لأن كل ما أنتجه الأمازيغ الأصلاء كان عربي الصياغة والتعبير، وكان أهم من جسّد ذلك العالم الأمازيغي القبائلي ابن معطي الزواوي، الذي قـنّـن  للنحو العربي.
ويبدو جانب النفاق في الأمر عندما نلاحظ تحمس أصحاب النزعة البربرية لقيادات بربرية تاريخية، والتركيز على «ماسينيسا» مع نسيان أخيه «سيفاكس»، وتمجيد «كسيلة» (واسمه الحقيقي آكسل، وصغّره المسلمون وأنثوه تحقيرا له لدوره في استشهاد عقبة بن نافع) وفي الوقت نفسه يتجاهل أولئك «طارق بن زياد»، الأمازيغي الذي جند الأمازيغ المسلمين لفتح الأندلس.
وهكذا نجد بأن القضية في مجملها هي التناقض الذي حاول المستعمر الفرنسي زرعه





منذ القرن التاسع عشر بين أبناء الجزائر المؤمنين بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي، وبين الرافضين، منهم ومن غيرهم، لهذا الانتماء، وهو تناقض يتحمس له البعض، وغالبا نتيجة لعدم دراسة التاريخ دراسة واعية، بحجة التمسك بالعمق الأمازيغي، الذي نراه نحن عمقا تاريخيا نعتز به ولا نراه متناقضا مع الانتماء العربي الإسلامي.
ويبقى السؤال الذي يبدو حائرا للبعض، وهو عمّا يحدث في بعض الشوارع والساحات الجزائرية بعد الانتخابات التي لم تختلف نسبة المشاركة الشعبية فيها كثيرا عن النسبة التي تعرفها معظم البلدان، بدءا بالبلد الذي يعتبره البعض نموذجا في كل شيئ إلا في قضية اللغة.
والإجابة المنطقية واضحة، فالمحرك الحقيقي للسيارة توقف عن العمل لكنها ظلت تسير في الطريق المستوية بفعل الاندفاع الذاتي، فالطريق منبسطة وليس فيها حفر أو أحجار أو «باراجات».
وسوف تتواصل محاولات دفعها لكن هذا لن يدوم طويلا، لمجرد أن الأصالة شيئ والافتعال شيئ آخر، والشعب الجزائري أكثر وعيا مما يظنه البعض، خصوصا وقد أصبح واضحا أن حراك فبراير وبعض ما تلاه من شهور لم يعد هو نفسه بل تحول إلى تجمعات في مناطق محدودة يندفع بها بعض من لم ترضه نتائج الانتخابات الرئاسية، ويدفع نحوها بعض من يمارسون، مرة أخرى، ابتزاز السلطات استجداء لتموقع مستقبلي، وهو ما بدأنا نلاحظه بمجرد أن أعلن الرئيس المنتخب أنه يمدّ يده للحوار.
لكن هناك من لا يريد أن يفهم أن الحوار سيتم وسيتواصل مع الذين رفعوا راية الحراك الشعبي منذ اليوم الأول، وكان هدف الجميع استرجاع حق الشعب في السيادة المطلقة على قراره السياسي وأمواله وثرواته ومحاربة الفساد بكل أنواعه وفي مختلف المستويات واسترجاع كرامة الجزائر في كل مكان، وبالتالي فلا حوار مع الذين حاولوا ركوب الحراك لأهداف سياسوية وانحرفوا بأهدافه إلى توجهات ترفضها الجماهير، وخصوصا من خوّنوا الرجال وأعموا عيونهم وأصموا آذانهم تجاه الاعتداءات على مواطنين كانوا يقومون بواجب المواطنة، ولم نسمع منهم كلمة إدانة لمن دمروا ممتلكات الشعب وأهانوا مؤسساته.
وليس سرّا أن عملية توزيع الأدوار متواصلة، فهناك من احتجب على غير العادة، وهناك من يواصل الرفض، وسواء بمنطلق ذاتي قد يكون له ما يبرره أو بتحريض له خلفياته المعروفة، وهناك من يغازل على استحياء ومن يزايد بدون حياء، وهناك من لا يخجل من التعامل مع المستجدات وكأن شعبنا فقد ذاكرته أو تناسى كرامته التي أساء لها من استهدفوا الشيوخ والمحصنات.
لكن همسات الجماهير تصبح صرخات تحذر من الطلقاء، فيكفي أن المسلمين خدعوا في صدر الإسلام ونتج عن ذلك ما نتج مما نعاني منه إلى يومنا هذا، ويكفي أن ابن ذات النطاقين صلبهُ الطلقاء في الحرم المكي، ولم يرحموا أمّاً كانت تهتف، وقد كفّ بصرها حزنا: أما آن لهذا الفارس أن يترجل.
وفي هذا المجال بالذات على البعض أن يدركوا أن خير الخطائين هم التوابون، وأن المواقع التي أدين فيها المنافقون في القرءان هي أكثر من تلك التي استهدفت الكفار.
أما الآخرون، فأعرف أنهم كانوا دائما أكثر ذكاء وأبعد نظرا وأقدر على المراوغة والمناورة.
ولا أتصور أن كل هذا يخفى على عبد المجيد تبون.