طباعة هذه الصفحة

أمــــس ، اليــــوم وغـــدا

بقلم: الدكتور محيي الدين عميمور

تميّزت علاقات الجزائر المستقلة بالدول الكبرى في العالم بنوع من الاعتداد بالنفس، كان وراءه إحساس كل القيادات الجزائرية المتتالية أنها، في كل تعامل لها مع الآخرين، تمثل الوطن العربي والعالم الإسلامي والقارة الإفريقية وحركة عدم الانحياز، وهو ما جعلها، مع أخوات لها وأشقاء، تسير دائما رافعة الرأس ثابتة الخطى رافضة لكل موقف قد يبدو منه الانصياع لرغبات القوى الكبرى في غابة العلاقات الدولية، وكانت ترى في هذا التصرف، وبجانب تعبيره عن الأصالة الجزائرية، نوعا من الوفاء لكل من وقفوا إلى جانبها ودعموا كفاحها وتغنوا بأناشيدها الوطنية.
ولعل أول حدث يصوّر هذا التصرف إصرار الرئيس الجزائري أحمد بن بله في أكتوبر 1962 على زيارة كوبا، بعد أن استقبله الرئيس الأمريكي جون كينيدي في واشنطن.
كان كينيدي يعيش ذيول الهزيمة التي لقيتها الولايات المتحدة في خليج الخنازير، وحاول إقناع
بن بله بألا يذهب مباشرة من العاصمة الأمريكية إلى هافانا، وإلى درجة أنه قال له، طبقا لما رُوِيَ آنذاك، بأن هناك تعليمات سبق أن أعطيت لبطاريات الدفاع الجوي الأمريكي بإسقاط أي طائرة تتوجه إلى الجزيرة الكوبية من الأرض الأمريكية، واقترح عليه أن يذهب أولا إلى المكسيك ومنها إلى حيث يريد، لكن الرئيس الجزائري تمسك بموقفه من منطلق أن الجزائر وفية لكل أصدقائها، وفيديل كاسترو في المقدمة.
ويُعزل بن بله في الظروف المعروفة، ويتولى الحكم هواري بو مدين، ويستقبله ريتشارد نيكسون في البيت الأبيض استقبال رئيس دولة، برغم أن العلاقات الجزائرية الأمريكية كانت مقطوعة منذ 1967 بمبادرة جزائرية، تضامنا مع قطع مصر علاقاتها مع واشنطن، وكان بومدين يومها قد طلب من سفيره بالقاهرة، الأخضر الإبراهيمي، موافاته بموعد استقبال السفير الأمريكي في وزارة الخارجية المصرية لإبلاغه بقطع العلاقات. هكذا استقبل السفير الأمريكي في الجزائر في نفس الدقيقة التي استقبل فيها نظيره في مصر، وأبلغ بقطع العلاقات.
المهم هنا هو أن الرئيس هواري بومدين في 1974 توجه مباشرة من واشنطن إلى هافانا، تماما كما فعل الرئيس أحمد بن بله، ليؤكد أن مواقف الجزائر هي دائما مواقف ثابتة، أيا من كان على رأس السلطة فيها.
لكن العلاقات الجزائرية الفرنسية على وجه الخصوص كانت تتميز دائما بحساسية شديدة، فعندما استقبل الرئيس الفرنسي شارل دوغول السفير الجزائري في باريس سأله، بأسلوبه المعروف، عما إذا كان الرئيس الجزائري يعتزم زيارة فرنسا، وأبرق السفير إلى الجزائر بما سمعه وكان السؤال الذي طُرح هو عن نوعية الزيارة، وكان الردّ الفرنسي هو أنها ستكون زيارة عمل، وعلى الفور قال الرئيس بو مدين بأن الرئيس الجزائري، أي رئيس جزائري، لن يدخل فرنسا إلا من الباب الكبير، أي بزيارة رسمية تضم كل عناصر الزيارة الرسمية.
وللتذكير، فإن زيارة العمل تعني أن رئيس الجمهورية المضيف لا يستقبل الرئيس الزائر في المطار، بل عند مدخل مكتبه في قصر الإيليزيه، حيث تجري مباحثات يعود بعدها الزائر إلى بلاده، ربما بعد تصريح يدلي به للصحافة في مدخل القصر.
لكن الزيارة الرسمية تتضمن عدة بنود لتكريم الرئيس الزائر، أولها استقبال الرئيس الفرنسي شخصيا للرئيس في المطار والاستماع معه للنشيد الوطني للبلدين، والجلوس إلى يساره في السيارة المكشوفة التي يستقلانها معا وهي تجتاز «الشانزيليزيه».
ومن العناصر وضع إكليل للزهور على قبر «الجندي المجهول»، ولكي نفهم أهمية هذه النقطة أذكر بتعليق روَته الصحافة الفرنسية بعد ذلك عن مسؤول جزائري يقول بأن إكليل الزهور يعني تكريما لجندي قضى وهو يُساهم في تحرير أوروبا، وهذا الجندي، ولأنه مجهول،  قد يكون جزائريا، وكان هذا هو جوهر الرسالة التي لم يفهمها كثيرون آنذاك.
ورُوِي يومها أن الرئيس بومدين قال لمن حاول تبرير الاقتصار على زيارة العمل بالضرورات الأمنية التي يفرضها وجود خصوم للجزائر على الأرض الفرنسية: إذا زار الرئيس الفرنسي الجزائر فسأعطي عطلة لرجال الأمن لأثبت له أن الشعب الجزائري يفهم معنى كرم الضيافة، ويلتزم بقرار القيادة القاضي بقلب الصفحة، وبالطبع بدون تمزيقها.
هكذا كانت الحساسية الشديدة هي طابع العلاقات الجزائرية الفرنسية، فعندما زار الرئيس جيسكارد ديستان الجزائر في منتصف السبعينيات حرص البروتوكول الجزائري على أن يستقل الرئيس الفرنسي سيارة «مرسيدس» الألمانية، لكنه حرص أيضا على وضع زهور «أنيمون» على مائدة العشاء الرسمية لأن حرم الرئيس الفرنسي كان اسمها «أنيمون».
عندما زار وزير الخارجية الفرنسي رولاند دوما الجزائر في الثمانينيات بدا له أن يطرح قضية المدرسة الثانوية الفرنسية «ديكارت»، التي كان الجزائر قد اتخذت قرارا بغلقها، وما أن سمع الرئيس الشاذلي كلمة «ديكارت» حتى وقف مُنهيًا استقبال الوزير وهو يقول : هي قضية سيادة وطنية معالي الوزير.
في التسعينيات حدثت قضية أخرى في نيويورك كان بطلها الرئيس الجزائري الأسبق اليمين زروال، وذلك عندما أراد الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بطرس غالي التوسط والإصلاح بينه وبين الرئيس الفرنسي جاك شيراك، حيث كانت العلاقات بين البلدين سيئة بسبب الموقف السلبي لفرنسا تجاه الأزمة في جزائر التسعينيات، إلا أن الطرف الفرنسي اقترح أن يكون اللقاء بين شيراك وزروال لقاء غير رسمي، أي في الكواليس، من منطلق أن زروال هو رئيس دولة غير منتخب وليس رئيسا للجمهورية. رفض الطرف الجزائري المقترح، ورفض زروال التحدث مع شيراك في الخفاء قائلا له، عندما تقدم لمصافحته: «نتحدث لما تكونوا جاهزين».
لكن هذا لا يعني أن الجزائر كانت تمارس سياسة الجفاء مع الجانب الفرنسي، بل على العكس، كانت تدرك، بجانب الحفاظ على المصالح المتبادلة للبلدين، ما يتطلبه وجود جالية جزائرية كبيرة في فرنسا من الحماية والرعاية والاهتمام، وتطلب هذا الحرص على وجودٍ سياسي دائم على الساحة الفرنسية، عبر مساهمات الجمعية التي أنشأتها الجزائر تحت اسم «ودادية الجزائريين»، والتي كلفت بتعميق الاتصالات مع كل أطياف التوجهات الفرنسية.
كان الرئيس هواري بو مدين يستقبل بصفة دائما كل القيادات الفرنسية السياسية والإعلامية، وهكذا استقبل فرانسوا متران في 1973 عندما كان يقوم بتجميع قوى  اليسار الفرنسي، واستقبل الوزير الاشتراكي «شوفينمه» بمبادرة قمتُ بها، بتعليمات منه، مع الصحفي الفرنسي «سيغييون»، واستقبل مرارا رئيس «الشهادة المسيحية «مونتارون»، الذي ربطتني به صداقة كبيرة، وكذلك الأمر مع صحفيين كثيرين من بينهم جان دانيال وبول بالطا ودانييل جونكا وبيير صباغ.
وهنا أتذكر أمرا كِدْت أنساه، ذكرني به تصريح الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، وهو ما كنت تناولته في الحديث الماضي، وهو ما ارتبطت به المكالمة الهاتفية التي أجراها الثلاثاء مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وبما أوردته وكالات الأنباء في البلدين عن المكالمة.
أعود إلى السبعينيات، عندما نظمنا زيارة خاصة للزعيم الشيوعي الفرنسي جورج مارشيه (وزيارات شخصيات المعارضة كانت تتم دائما في إطار «الخصوصية» احتراما لسيادة البلد الآخر) وبالطبع فإن بومدين استقبل مارشيه، وأرسلتُ لوكالة الأنباء الجزائرية خبرا يقول بأن الرئيس استقبل زعيم الحزب الشيوعي في «ختام» زيارته الخاصة للجزائر.
وفوجئت بأن مذيع التلفزة أذاع الخبر قائلا بأن الرئيس استقبل الأمين العام للحزب الشيوعي في «إطار» زيارته الخاصة.
وعلى الفور أصدرت أمرا بمعاقبة المذيع الذي تصرف في خبر رئاسي، ولم يفهم أن تعبير «في ختام» يختلف جوهريا عن تعبير «في إطار»، ولم يكن الاختيار عشوائيا.
وهنا أصل إلى تصريح ماكرون، الذي قال، في أول ردّ فعل له على نتائج الانتخابات الرئاسية، إنه «أخذ علمًا!!  بأن السيّد عبد المجيد تبون قد انتُخب رئيسًا للجزائر في الدور الأوّل».
وأضاف الرئيس الفرنسي: «ليس لي وأنا في هذا المكان، أن أُعلّق أو أُقيّم أو أعطي تكهّنات، كل ما أتمناه أن تلقى هذه التطلعات المعبر عنها من قِبل الشعب الجزائري إجابة في حوار يجب !! أن يُفتح بين السلطات والشعب».
تابع نصائحه البليدة قائلا: «يعود إلى الشعب الجزائري، أن يجد الطرق والوسائل لحوار ديمقراطي حقيقي، وأنا أقول لهم في هذا الوقت الحاسم من تاريخهم إن فرنسا تقف إلى جانبكم».
وتقول صحيفة جزائرية: على خطى ماكرون سار وزير الخارجية الفرنسي «جان إيف لودريان»، الأحد، حيث صرح حول الرئاسيات الجزائرية بالقول : «لقد أخذنا علما بفوز تبون».
وقال لودريان في حوار مع إذاعة فرنسا الدولية عندما سئل عن الموقف الرسمي لفرنسا من الانتخابات الجزائرية قائلا: «فرنسا تأمل بأمر واحد، وهذا ليس أملا دبلوماسيا على الاطلاق، أن يستمر الانتقال الديموقراطي ضمن احترام السيادة الجزائرية».
لأن عبارة «أحِطنا علما بفوز تبون»، تنطوي على الكثير من الغموض الذي يخفي موقفا دبلوماسيا مشبوها، فقد اضطر لودريان إلى شرح ذلك فسقط في المحظور، عندما قال، إن معناها «إننا لاحظنا وكأن هناك مسارا وسيتم تعيينه رئيسا.. إنه محاور فرنسا».
تتابع الصحيفة قائلة: وفي الواقع لم يكن ما بدر عن رئيس فرنسا ووزير خارجيته، برأي مراقبين، سوى تعبير عن موقف ذلك الذي هزم في رهان كان خاسرا منذ البداية، فالسلطات الفرنسية أظهرت سذاجة، بل غباء كبيرا في التعاطي مع الشعوب التي ثارت ضد الأنظمة التي كانت موالية للمستعمر السابق، كما حصل خلال ثورة الياسمين في تونس، فبينما كان الشعب التونسي في الشارع ضد الديكتاتور الراحل زين العابدين بن علي، عرضت «ميشال أليو ماري»، وزيرة داخلية نيكولا ساركوزي حينها، تقديم عتاد عسكري لمساعدة الشرطة على قمع المتظاهرين، وانتهى الأمر بسقوط بن علي ومعه وزيرة الداخلية الفرنسية، كما هو معلوم.
والمهم أن الشارع الجزائري بدأ يعرف حجما متزايدا من الغليان بعد أن «اطلع» على تصريح ماكرون، وطبعا باستثناء من كان يحاولون ابتزاز السلطات الجزائرية لضمان تموقعات مأمولة.
وأدرك الرئيس الفرنسي أنه أساء التصرف لأنه اعتمد على نصائح قدمت له من مواقع معينة كانت وراء الحملات المشككة في الانتخابات الجزائرية، وهنا، وبذكاء لا يمكن إنكاره، سارع بالاتصال هاتفيا بالرئيس عبد المجيد تبون، ونشرت وكالة الأنباء الجزائرية خبرا رسميا بأن ماكرون قدّم تهنئة «حارة» لعبد المجيد تبون.
في تصوري فإن من صاغ الخبر، وهو من رجال مرحلة انتقالية ربما تنقصها خبرة السنين، أراد أن يهدئ غضب الشارع الجزائري فترجم عبارة (vœux sincères de succès) بأنها حارة.
وعلى الفور سارعت وكالة الأنباء الفرنسية، وهي المعبر عن نفس المصالح سابقة الذكر والتي كان همها ألا تبدو فرنسا في موقف التراجع أمام عناصر جزائرية كانت تشجعهم على الاستهانة بالانتخابات الجزائرية، بل والوقوف ضدها، سارعت ببث خبر يقول، إن رئيس الدولة الفرنسي قدم «تهانٍ مخلصة» بالنجاح للرئيس الجزائري، وبالنص قالت الوكالة:
Le chef d’État français a présenté «ses vœux sincères de succès dans l’exercice de ses hautes responsabilités et l’assurer que la France se tient aux côtés de l’Algérie dans ce moment important de son histoire», précise le communiqué de l’Élysée.
 وكان الأمر الغريب العجيب المقزّز أنها كانت فرصة لبعض قومنا هناك لكي ينتقدوا البلاغ الجزائري، ولكي يردّدوا، بتشفّ مثيرٍ عجيب، ما جاءت به مصادر صحفية فرنسية معروفة التوجهات على أساس أنه تكذيب فرنسي رسمي يتبرأ من التهنئة «الحارة»، وهو ما فهم منه كثيرون خلفية الموقف الأول للرئيس الفرنسي.
أسرع البعض في مواقع «الفيس بوك» التي تتحرك بتوجهات الرافضين للانتخابات الرئاسية الجزائرية، والباحثة، كالذباب الأزرق، عن أي سقطة أو عثرة لكي تتشفى في بلادها وفي رئيسها المنتخب شرعيا والذي تطالبه بالحوار معها وتفهم مطالبها رغم أنها تشكك في شرعيته. وبدلا من أن تعتز باضطرار الرئيس الفرنسي إلى التراجع عن تصرفه «البارد» تجاه شريك له قيمته السياسية والاقتصادية راحت تحاول إلقاء قنابل دخان لإخفاء الأيدي التي تحركهم، كعرائس «الموبيت شو»، وهي الأيدي التي أوقعت ماكرون في خطأ ديبلوماسي، اضطر الرئيس الجزائري لكي يردّ بقسوة ويقول بأن: «على الرئيس الفرنسي أن يُسوّق بضاعته في بلاده»، ومعروف لمن يُسوّق ماكرون بضاعته.
نفهم الآن الكثير عندما نقرأ خبرا لصحيفة «الباريزيان ( LE PARISIEN) يقول: بأن بيان الرئاسة الفرنسية لم يرد فيه خبر تهنئة «حارة»، ويُنشر الخبر في «الفيس بوك» تحت تقديم كتبته أنامل تحمل الجنسية الجزائرية، يقول: الإليزي ينفي ورود الفقرة التي جاءت في بيان الرئاسة الجزائرية ووكالة واج. هكذا، وبدلا من أن يعبّر «الجماعة»، وبغض النظر عن موقفهم من الانتخابات، عن فخرهم بأن رئيس دولة كبرى عضو في مجلس الأمن قام في أقل من 48 ساعة بالتراجع عن كبوته وتعديل موقفه لأنه أدرك أن الجزائر بدأت تسترجع قواها شيئا فشيئا، راحوا يرقصون على وقع أناشيد تتغنى بما اعتبرته خطيئة الرئاسة الجزائرية، وسنكتشف أنهم لم يذكروا لبلدهم فضيلة واحدة. وبعض هؤلاء يندبون اليوم حظهم إثر الخطاب الذي افتتح به الرئيس عبد المجيد تبون عهدته الرئاسية، والذي ألغي في نهايته استعمال لقب «الفخامة».
وكما يقول المثل الجزائري: «الخبر ايجيبوه التوالا»، وهو مثال قد يتماهى مع كلمات طرفة بن العبد:   
 ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً
 ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّدِ
ويأتيك بالأنباء من لم تَبعْ له
 بتاتاً ولم تَضرب له وقت موعدِ