طباعة هذه الصفحة

مؤلفاته القيمة حول أصول الدين والفقه حبيسة المكتبات

العلامة الجليل محمد بن محمد الشاوي النايلي المليـــــاني في الواجهة

بقلم: الأستاذ/ عبد القادر حمداوي باحث في التاريخ

ترعرع في مدينة مليانة التي عرفت الكثير من العلماء الأجلاء، وأتم حفظ القرآن الكريم في سن مبكر لا نعرف ولادته ولا نسبه إلى الشاوي، استعصى علينا تحديد مولده وتفاصيل حياته فلا نكاد نعرف إلى القليل من أخباره. كان طلبه للعلم بمليانة  أخذ دراسته الابتدائية ثم اتجه إلى زاوية بمجاجة، وتصرف في فنون العلوم وعرف كل خفي ومعلوم وتعلم بمليانة وتفقه حتى صار أعلم من بها و أفقه. انه العلامة الجليل والقدوة النبيل مفيد الأئمة الأعلام محمد بن محمد الشاوي النايلي الملياني الذي نتوقف عند محطته ونرصد مساره في صفحة «أعلام الجزائر».

نشأ مترجما في أسرة اشتهرت بتحمل العلم والعمل به، فكان لهذه البيئة أثرها ، فبكر بطلب العلم والأخذ عن الشيوخ، فقرأ صغيرا على والده وعلماء منطقته فحفظ القرآن الكريم وهو ابن ثماني سنين وتعلم مبادئ العربية وعلومها وأخذ الحديث والفقه والأصول وغيرها عن شيوخ بلدته ثم تابع تحصيله العلمي فقرأ في مختلف العلوم ومنها التفسير والحديث على مشايخ كثيرين منهم علماء الجزائر التي انتقل إليها بعد أن اشتد عوده ونذكر بعضهم: أبو محمد سعيد قدورة، وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، وشهرته قدورة وكان يدعى أيضا شيخ الإسلام، والإمام المفسر المحدث درس عليه علوما شتى منها صحيح البخاري دراية ورواية، ومختصر خليل والرسالة، وتحفة الحكام لابن عام.
أخذ عن الشيخ عيسى بن محمد الثعالبي ، وأبو مكتوم أخذ عنه الحديث المسلسل بالأولية لما وجده يتابع دروس الشيخ السلجماسي الانصاري، وقد لازمه مدة عشرة سنين، كما أخذ عنه صحيح البخاري وغيرهم من علماء الجزائر، الذين تلقى عنهم وأجازوه وشهدوا له بالبراعة في  التفسير والحديث رواية ودراية، شرحا وإسنادا والأصول والعربية والمعاني والبيان والفقه ولما ظهر لهم من قدراته العلمية، وتمكنه من العلوم الشرعية قدموه للتدريس فعقد مجالس التحديث والإقراء، كان يدرس ويشرح الكتب الستة كما اشتهر برواية الموطأ وشرحه وانتفع به الطلبة وتفقه به جماعة من الطلبة والأعيان.

أسفار ورحلات  في بلاد المسلمين طلبا للعلم

وكان يبتدئ مجلس الدرس بالفاتحة وأية الكرسي والإخلاص والمعوذتين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، والدعاء، ثم يبدأ في سرد الأحاديث من حفظه بإسنادها وقد اتسعت حلقة درسه مثل شيوخه، واشتهر ذكره وانتظم في عداد العلماء، لكن حبه للإسناد العالي وشغفه بطلب العلم جعله يغادر أرض الجزائر، فقد كثرت أسفار ورحلاته فزار مصر والحجاز ودمشق وبغداد و تركيا، وغيرها من البلدان.
وسلك أوعر المسالك حتى اجمع عليه الاتفاق، وحل بتلمسان، حيث قرأ على الشيخ المقري تم ارتحل إلى الجزائر لينهل العلم من الأساتذة الأفذاذ، وقد كان منذ صغره حريصا على الطلب مجدا على التحصيل والدأب، لا يؤثر على الاشتغال أي تحصيل العلم ولا يؤثر أن تضيع منه لحظة.
أدرك رجالا جمعوا علومهم الناضجة وقدراتهم الدقيقة بصدق اللهجة وصالح السلوك والعمل، أصحاب هيئة ووقار، وزهد وتقوى، تولى التعليم كأستاذ ممتاز وصار  شخصية بارزة، وفي سنة 1037 يرحل الشاوي إلى بجاية ثم عنابة ثم مكة المكرمة لأداء فريضة الحج بعدها توجه إلى القاهرة قرأ على مشاهير علمائها.

أعماله

من أهم  أعماله التدريس بالأزهر ما جعل يصل إلى مسؤولي دولة مصر فولوه قضاء المالكية ثم مفتي المالكية.
وقد كان رجل فقه قدير يرجع إليه في جميع الأحوال والمناسبات، ومن مميزات شدة ورعه والتي دفعت به إلى أن يهب حياته لخدمة الدين والعلم، وفي دمشق التي كان يلقي دروسا بمسجد بني أمية بحضور أعلامها ثم توجه إلى اسطنبول واستقبله شيخ الإسلام بتركيا وارتقى إلى أستاذ لتعليم التفسير والنحو والتوحيد، وأنزله مصطفى باشا بداره معززا مكرما، ثم رجع إلى مصر.  
سافر الشيخ إلى الحجاز لأداء فريضة الحج سنة 1073 هـ، وقد استغل هذه الرحلة فأخذ عن علماء وشيوخ الحجاز وأجازوه  بعد أن حضر مجالس سماعهم وأخذ عنهم .
عاد من الأراضي المقدسة قاصدا مصر سنة 1074 هـ بهدف الدراسة والأخذ عن علمائها وشيوخها  وقد طاب له المقام فاستقر بها معلما ومدرسا وممن درس عليه وأجازه من العلماء في مصر منهم الضرير إمام مسجد المغاربة بالقاهرة.ذكر أبو سالم العياشي في رحلته أنه تلقى عنه القراءات وأثنى عليه قائلا : إمام أهل عصره وبلده في العلوم الشرعية الأصلية والفرعية والفنون العقلية والنقلية.

من مصر الى بلاد الروم غاية واحدة

بعد الإجازة التي كانت من قبل الكثير من العلماء الأجلاء الذين اثنوا عليه، وشهدوا بأنفسهم سعة علمه وحدة ذكائه وحسن حفظه قدموه للتدريس بالأزهر
الشريف ، ثم تصدر للإقراء بالأزهر واشتهر بالفضل وحظي عند أكابر الدولة واستمر على القراءة مدة قرأ فيها مختصر خليل، وشرح الألفية، للمرادي وعقائد السنوني وشروحها وشرح الجمل للخونجي لابن عرفة في المنطق.
ثم رحل إلى الروم فمر في طريقه على دمشق وعقد بجامع بني أمية مجلسا اجتمع فيه علماؤها وشهدوا له بالفضل التام وتلقوه بما يجب له ومدحه شعراؤها، ثم توجه إلى الروم، فاجتمع به أكابر الموالي وبالغ في إكرامه شيخ الإسلام يحي المنغازي وحضر الدرس الذي تجتمع فيه العلماء للبحث بحضرة السلطان فبحث معهم واشتهر بالعلم ثم رجع إلى مصر مجللا معظما مهابا موقرا.
هذا العالم الذي اشتهر بمجالسة العلماء ودروسه الحديثة وكثرة تلاميذه طلبته بجد ودروسه الكافي للتأليف والكتابة فيترك له ثروة تراثية هامة، لكن مع الأسف أقول أنها بقيت حبيسة المكتبات فلم يقم العلماء بإخراجها إلى الناس لينتفعوا بها واللوم موجه إلى أبناء بلدة الجزائر بصفة خاصة اذكر منها:
 حاشية على شرح السنوسية في العقائد،   حاشية على شرح الألفية للمرادي، توكيد العقد فيما أخذ الله علينا من العهد رسالة في أصول النحو، شرح التسهيل لابن مالك.
تتلمذ على يده خلق كثير حيث انتفع بعلمه شيوخا وعلماء قدموا خدمات جليلة بقيت ارثها في مؤلفاتهم ومما ما تخرج على أيديهم من الخلف الصالح منهم المفتي القاضي المؤرخ الأديب محمد أمين بن فضل الله صاحب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، وقصد السبيل بما في اللغة من الدخيل.
العالم المحدث أبو العباس أحمد بن الدخيل وكان المترجم إماما علامة سليم الباطن معمور الظاهر قد عم به الانتفاع روى عنه كثيرون من الشيوخ وكان يذهب في كل سنة إلى الإسكندرية فيقيم بها شعبان ورمضان وشوال ثم يرجع إلى مصر، يملي ويفيد ويدرس حتى توفي رحمه الله .
سمي في آخر حياته أمير الحج على الركب المغربي قاد قافلة الحجيج إلى مكة المكرمة  مفضلا طريق البحر.
سافر قاصدا بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج في البحر فمات وهو في السفينة على ظهر البحر يوم الثلاثاء عشرين من شهر رمضان سنة 1685م، ويذكر تلميذه أبو المواهب الحنبلي: فقامت ريح شديدة قطعت شراع السفينة فقصدوا البر وأرسوا بمكان يقال له رأس أبي محمد ، فدفنوه به ثم نقله ولده الشيخ عيسى بعد بلوغه خبره إلى مصر ودفنه بها، بالقرافة الكبرى بتربة السادة المالكية، ووصل الى مصر ولم يتغير جسده.
 وهذا الشيخ الذي ختمت بعصره عصر الأعلام وأصبحت عوارفه كالأطواق في أجياد الليالي والأيام.