طباعة هذه الصفحة

انطباعات

ماذا بقيَ من أهداف الحراك الحقيقيّة؟

الدكتور محيي الدين عميمور

يدّعي البعض أنّ ما تعرفه بعض شوارع العاصمة الجزائرية من تجمّعات في أيام معيّنة هو نتيجة طبيعية لتسامح السلطات مع التّجمّعات التي يشكو منها سكان المناطق المجاورة لساحة البريد المركزي، وهو تصوّر لا يمكن استبعاده بصفة مطلقة لكنه ليس حكما صائبا، خصوصا بالنّسبة للتّظاهرات التي تدّعي أنّها تمثّل الطّلبة، وتظهر الصّور أنّ أعمار كثيرين ممّن يرفعون لافتاتها بعيدة كل البعد عن السن المعقولة بالنّسبة للطلاب، بحيث علّق البعض ضاحكا بأنّها تضم أساسا أولياء لأمورِ بعض الطّلبة، ممّن كانوا أذكى من أن يشغلوا أنفسهم بما هو أقل أهمية من مآرب أخرى، ولا حديث عن مضمون اللاّفتات التي لم تتعرّض واحدة منها إلى المشاكل الحقيقية التي يمكن أن يشتكي منها بعض الطلاب، خصوصا بالنسبة للإقامات الجامعية أو المطعم الجامعي.
ويبدو أنّ العناصر المنظّمة لتلك التّظاهرات تنتمي في معظمها لنفس التوجهات الإيديولوجية التي فشلت، حتى الآن، في فرض منطقها، أو هي من العاملين في بعض المؤسسات الاحتكارية التي ينزل أصحابها في ضيافة الحكومة، طبقا لتعبير طريف عن سجناء الحراش والبليدة، وبوجه خاص أولئك الذين صدرت ضدهم بالفعل أحكام نهائية، ومنهم مسؤولون سابقون في مستويات مختلفة.
وتصرّفت السّلطات بذكاء ملحوظ، فأعلنت يوم 22 فبراير يوما وطنيا يحيّي التضامن النضالي بين الشعب وجيشه، وهكذا عاد مواطنون كثيرون إلى الشارع بعد أن هجروه في الأسابيع الماضية، وكان من أطرف التعليقات على أنّ الحراك الشعبي لفظ أنفاسه بعد أن أدّى دوره الرئيسي بنجاح كامل هو قول أحد الرّفقاء: لا أعرف من أي مدينة بدأ الحراك لكنّني أعرف أنّه انتهى في شارع ديدوش (بالعاصمة).
وواقع الأمر أنّ ممّا يثبت وصول الجماهير الجزائرية إلى اليقين بانتهاء مهمة الحراك الشعبي هو فورة الإضرابات الفئوية التي حركتها بعض النقابات، سواء على مستوى الخطوط الجوية أو المعلمين أو الأئمة، وهي تحرّكات لم تعرفها الجزائر في السنوات الماضية، واليوم بدت كبثور جلدية أكثر منها كأورام حقيقية.
وتزامن ذلك مع عمليات تشويش إعلامية ادّعت، عبر بعض مواقع التواصل الاجتماعي، أن هناك احتجاجات لرجال الأمن ضد قياداتهم، وهو ما تمّ تكذيبه في اليوم التالي، ولم نقرأ تكذيبا للتكذيب.
وتناقلت وسائل الإعلام الزرقاء صور لقاءات جمعت قيادات لائكية معروفة عادت لتوّها من باريس مع بعض من يمثلون التيار الديني، والذين يُحمّلهم الكثيرون جزءا كبيرا من مسؤولية العشرية الدموية، وكان من المعلّقين السّاخرين من اعتبروا لقاء اليسار اللائكي مع اليمين الديني، وبمبالغة أراها غير لائقة، نوعا من المثلية السياسية.
وواقع الأمر أنّ ما يحدث هو من تداعيات الفشل الذي أصاب تحركات التوجهات المتناقضة مع النص الكامل لبيان أول نوفمبر، خصوصا بعد موقفهم المخزي تجاه وفاة الفريق أحمد قايد صالح، والذي وصلت بعض صوره إلى درجة من التدني أثارت قرف الكثيرين، بمن فيهم من لم يكونوا ينسجمون مع مواقف رئيس أركان المؤسسة العسكرية السابق، ولمجرد أن الشعب الجزائري يعطي للموت رهبته واحترامه، أيا كان المتوفّى، استرشادا بتصرف سيد المرسلين، الذي وقف تحيّة لجنازة يهودي.
والخطير هو ما بدا من أن بعض من كانوا يتظاهرون بالاعتدال ومحاربة الفتنة كانوا في واقع الأمر يمسكون العصا من الوسط بما بدا وكأنّها عملية توزيع للأدوار، ورأى البعض من دلائل ذلك أن من بينهم يرفض بوقاحة سافرة التسليم برئاسة عبد المجيد تبون للدولة بحجة أن كثيرين لم يعطوه أصواتهم، وكأن دول العالم كلّها تحقّق إجماعا على رئاسة أي مرشح للمنصب الأول في الدولة، وأولئك يتصوّرون أن الجماهير لا تعرف حجم عمليات الصعلكة والعنف التي منعت كثيرين من الإدلاء بأصواتهم، سواء داخل الوطن أو في فرنسا على وجه التحديد، حيث تواطأت معهم مصالح الأمن في بلاد الجن والملائكة، وهو ما لم تعرفه الهجرة في أي بلد آخر في الشرق أو في الغرب.
والأكثر خطورة في الأمر هو أنه، وفي الوقت الذي تتوافد فيه الشخصيات الدولية على الجزائر، مؤكدة تقديرها لكل ما تمّ إنجازه نجد أن بعض من ينتسبون لشريحة المثقّفين، أي أنهم يعرفون ما يفعلون، يتنكّرون لشرعية رئيس الجمهورية بما يعرضهم للاتهام بأنهم يسيئون لمصداقيته أمام الأجانب، وبالتالي من قدرته عن الدفاع على مصالح البلاد، أي أن تصرفهم هو جريمة ضد وطن مهمتهم الدفاع عنه.
وسنجد أن من هؤلاء المعتدلين المزيّفين من ينسجمون مع كل من ندّدوا بمنح رئيس الجمهورية وساما للفريق أحمد قايد صالح، وكل من أصيبوا بالأرتيكاريا عندما سمعوه يمجد الرئيس الراحل هواري بو مدين، وهو ما يكشف انتماءهم الحقيقي.
لكن الأمر الغريب هو أنّ من يشكّكون في شرعية رئيس الجمهورية لم ينطقوا بكلمة واحدة لانتقاد من يوجدون اليوم في إطار الحكومة ممن كانوا يرددون نفس ادعاءاتهم، وهو ما يصب في خانة من يدعون وجود توزيع للأدوار.
ويرى كثيرون أنّ الضجيج المفتعل الذي تعيشه بعض شوارع العاصمة الجزائرية في بعض أيام الأسبوع والمُجيّشُ بشكل لا تستطيع تحقيقه إلا تشكيلات تملك إمكانيات مالية كبيرة، بجانب استغلال النزعات العنصرية والجهوية وممارسة الأسلوب الفاشي في تجنيد الأنصار، وهو استمرار لعمليات ابتزاز مارستها توجّهات معيّنة ضد نظام الحكم الذي عرفته مرحلة استرجاع الاستقلال، والذي تميز بالوفاء لمبادئ ثورة نوفمبر، تمسّكا بالانتماء العربي الإسلامي، وبمنطق بناء الدولة الاجتماعية الذي جرى التعبير عنه بالنهج الاشتراكي، وبغض النظر عن أخطاء كثيرة عرفتها المسيرة نظرا لنقص التجربة.
وهكذا نجد أنّ جوهر التناقضات ظل دائما قضية الانتماء، ومحاولة انتزاع شرعية مفتعلة لبعض عمليات التمرد التي عرفتها تلك المرحلة، وافتعال وجود سياسي جماعي للنداءات العنصرية الجهوية من نوع: أعيدوا لنا جزائرنا، والتي تتّهم نظام الحكم في جزائر الاستقلال بأنه باع البلاد لقيادات مشرقية ناصرية أو بعثية أو وهابية، أو الثلاثة معا.
وهنا يمكن أن نتصور الهدف الحقيقي من الضجيج.
فبجانب محاولة التأثير على العدالة لتبرئة عناصر تتحمل مسؤولية كبرى في الفساد الذي عرفته البلاد في السنوات الأخيرة، تفضح الأهداف نفسها عبر شعارات تطالب بالحرية للمعتقلين، وهي شعارات تتعمّد غالبا عدم ذكر الأسماء المقصودة، وإن كان الشارع يعرفهم فردا فردا، وثبت الآن أن هناك من خشى وصول «منجل» العدالة إلى رقبته وإلى أسماء أخرى، تملك المال والنفوذ الذي مكّنها، حتى الآن، من تجنيد كثيرين.
ولعل من الأسماء الجديدة مدير تشريفات الرئيس «المستقال» الذي أودع الحبس «الأحد» الماضي، ثم المدير العام الأسبق لديوان الحبوب الذي وُضع تحت الرقابة القضائية (وللعلم، كان الديوان يوما شبه ملكية خاصة لصهر الجنرال العربي بالخير، وهو يتحكّم في رأس مال يُقدّر بالملايير).
وممّا يؤكّد هذا التحليل تركز الهجوم على وزير العدل بلقاسم زغماتي، الذي يجمع الوطنيون على أنه تجسيد حيّ لرجل العدالة النزيه الذي لا يعرف في الحق لومة لائم.
لكنّني أعتقد أنّ الهدف الحقيقي يتجسّد في محاولة التأثير على عملية إعداد الدستور الجديد، والتي بدأت بشعار يسير في نفس اتجاه الشعارات المألوفة لنفس الحزب اللائكي المشار له سالفا، وهو المناداة بحذف المادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة.
وبرغم أن رئيس الجمهورية ردّ على ذلك الشعار بتأكيد عدم المساس بالثوابت الوطنية، إلاّ أن تيارا بدأ يأخذ طريقه إلى تصور الكثيرين، ممن يرون أن الوقت قد حان ليتحمل الشعب مسؤولياته في كل ما يتعلق بالثوابت الوطنية، ليُحسم الأمر إلى الأبد.
وأصحاب هذا التيار الوطني، الذي قد يتزايد قوة يوما بعد يوم، يرون أن الاستفتاء على مواد متعددة بإجابة واحدة هو أكثر الممارسات الديمقراطية دكتاتورية، ومنهم الذين يتذكرون ما قام به في الثمانينيات الرئيس الأسبق ضياء الحق (وكثيرون في باكستان ينطقون الهمزة عينا)
يومها كان الرئيس الباكستاني يريد انتزاع عهدة رئاسية جديدة، فأعدّ استفتاءً من مادتين، تطرح الأولى سؤالا يقول: هل تريد أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع؟ وتقول الثانية: هل توافق على أن يكون ضياء الحق رئيسا للجمهورية؟
ويكون على المواطن أن يجيب مرة واحدة بنعم أو بلا على السؤالين.
وبالطبع، وفي بلد يتمسّك أهله بالإسلام، كانت الإجابة الواحدة بنعم.
ومن هنا بدأ البعض يرون أن تطرح المواد المتعلقة بالثوابت الوطنية على الاستفتاء بشكل منفصل تتم فيه الإجابة فرديّا بنعم أو بلا على كل مادة من تلك المواد، وأهمها الإسلام بصفته دين الدولة، واللغة العربية بصفتها اللغة الوطنية والرسمية، والعلم الوطني كراية وحيدة للبلاد لا يشاركها أي رمز أو شعار، والنشيد الوطني بفقراته الخمس (وهناك من يرفض إحدى الفقرات، وأنا من بينهم) وأخيرا، ولعله بيت القصيد من كل ذلك الضجيج، قضية الأمازيغية، وهل هي لغة وطنية فقط أم هي لغة وطنية ورسمية منافسة للعربية؟
وليس سرّا أن دعاة الأمازيغية نجحوا في تأليب الجماهير ضد كل ما يتعلق بهذه القضية، فأصبحت صيحة حقّ يراد بها باطل، وبدلا من أن تكون عامل وحدة وطنية وعمقا تاريخيا من حق كل جزائري أن يفخر به أخذت طابعا عدائيا انتقائيا، جعل من الموافقة في كل الولايات الجزائرية على دسترة الأمازيغية كلغة رسمية أمرا يقترب من المستحيل.
وتمّ الخلط بين اللغة الوطنية، أي اللغة العربية، التي يجب أن تكون لغة الجميع بمنطق النضال الوطني منذ عُرف النضال الوطني وبين أي لغة وطنية أخرى، شاوية أو قبائلية أو تارقية أو مزابية، لكل منها وجودها واحترامها وأهميتها لكن المنطق أن تكون اختيارية لمن يريد، على أن يتم تشجيع المواطن على معرفة الأمازيغية بعد أن يتم تطويرها ودمجها وتحديد الحروف التي تكتب بها عبر الوطن كله.
والألف واللام هو جوهر الخلاف، ولسبب بالغ البساطة هو أن تجاهل الحرفين يفرض الفرنسية كعنصر الوحدة بالنسبة للجميع، وهو أمر مرفوض.
وعندما قالت سياسية جزائرية، قد لا أتّفق مع بعض مواقفها، بأنها لن تقبل أن تفرض لهجة أمازيغية على أبنائها، قام معلمون في إحدى المدارس بتحريض التلاميذ على رفض دروس اللغة العربية، وتعرضت السيدة لحملة من السباب والإهانات، لتكون عبرة لمن يعتبر ومن لا يعتبر.
هذه هي حقيقة الأمر، وتلك هي القضية كما قال «هاملت» يوما، وهذا هو سرّ خوف البعض من قضية الدستور، وخلفية كل ما نعيشه من ضجيج يندرج في نفس الإطار الذي فرض فيه النظام السابق قضية اللغة بموافقة برلمانية، لأنه كان يعرف أن للأغلبية رأي آخر.
فهل المطلوب هو السّير على خطى ضياء الحق؟

مســاهمات : مقالات لا تلزم إلا أصحـابها