طباعة هذه الصفحة

الحــراك الشعبـــي وملامح المستقبــــل

الدكتور محمد العربي ولد خليفة

 يغوص الباحث الدكتور محمد العربي ولد خليفة من خلال هذه الدراسة التحليلية القيمة في أعماق ما أعتبره بـ « الحراك الشعبي وملامح المستقبل».
ويصف الدكتور محمد العربي ولد خليفة «الحراك» بالصحوة الشعبية واسعة النطاق، وعنوان انطلاقة من صنع جزائري محض في سيرورته وأشكال تنظمه مع الإشارة إلى دور المؤسسة العسكرية الحارس الأمين لكيان الدولة ورموزها السيادية.


السّياحة: امكانيات واعدة ونقائص مانعة

يضاف إلى ركني التّنمية وهما الفلاحة والصّناعة، قطاع الخدمات وفيه السياحة وتمثّل مصدرا هاما للدخل الوطني، تبيّـن أنّ ضعفه وركوده أثناء الحجر الصحي وغلق الحدود في بلدان لها اقتصاديات قويّة، يهدّد بموجات من الاحتجاج، وحتى العصيان والتمرّد.
أمّا في الجزائر التي تصدّر السياح إلى البلدان المجاورة، وإلى عدد من بلدان العالم وهي لا تستقبل نسبة تذكر، ومنذ أمد طويل، وهو ما يتطلب التعرف على العوائق في إدارة القطاع والترغيب بوسائل تستعملها بلاد أخرى لا تملك ما تتمتّع به الجزائر من روائع ساحرة في الشمال والجنوب، وتتوفّر على هياكل الاستقبال التي يعشّش في العديد من أجنحتها العنكبوت في أغلب فصول السّنة.
يرجح تدفّق السواح الجزائريين خارج الحدود في رأي بعض الدارسين إلى رغبة الجزائريين في الاطلاع على ثقافات وأسلوب الحياة في بلدان أخرى، وبالتالي فهم ينتمون إلى شعب غير محاصر وراء السّتار الحديدي، ويفسّر البعض الآخر هذه الرغبة في السفر أفرادا وعائلات إلى تشكّل طبقة وسطى يمكنها أن تدّخر من دخلها ما يسمح لها بقضاء العطلة خارج الحدود، أو لغياب فنون الترويح التي تجذب الزوّار إلى الدّاخل ولا تقتصر على الإسكان ووجبات الأكل، وربما لهذه العوامل مجتمعة يضاف إليها أهمية البدء في تغيير العقليات التقليدية التي لا تقبل استقبال زوار أجانب في الوسط العائلي، وخاصة من الشباب، ونعرف أن نسبة من السوّاح الذين يتوجهون إلى بلدان مثل بريطانيا للإقامة مدّة قصيرة أو طويلة تستقبلهم العائلات وتعرض خدماتها من خلال وكالات رسمية، وبأسعار مغرية مثل التكفّل الجزئي بالوجبات Partial board واستخدام مرافق البيت إلخ...وعلى العكس من المحروقات، فإنّ المداخيل التي توفّرها السياحة مورد لا ينضب.

المحروقات ومؤسّستها التّاريخية سوناطراك

ليس من المقبول أن يبقى الغاز والبترول ومشتقاتهما المورد الأساسي للدولة، وتخضع لنسبة مداخيلها خزينة الدولة وتتوقّف المشاريع وميزانياتها السنوية على سعرها في السوق، الذي لا تتحكم في صعوده وهبوطه أغلبية أعضاء منظمة الدول المصدّرة للنفط (OPEP)، ولا تهمّنا في هذا السياق الأخطاء التي تعرّضت لها المؤسّسة الأكبر في بلادنا في تسييرها مؤخّرا، فالأهم الحرص على عدم تكرارها في المستقبل.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ سوناطراك التي تدير هذا القطاع تحت إشراف الدّولة التي مضى على تأسيسها ما يزيد على نصف قرن، هي البنت البكر لجزائر ما بعد التحرير، وأكبر مؤسسة لها امتداد دولي من إفريقيا وجنوب أمريكا وشمال المتوسط إلى دول الجوار عن طريق الأنابيب التي تنقل الغاز عبر المغرب وتونس، وقدّمت نموذجا ناجحا ومثاليا للتعاون الاقتصادي بعيدا عن تقلّبات الأجواء السياسية، وعلى هذا الأساس فإنّ وصف المحروقات بأنّها نقمة على بلادنا هو مجرّد ردود انفعالية تخطئ في رؤية المتّهم.
يمكن أن تكون مسيرة سوناطراك منطلقا لبناء تجمّع إقليمي مهما كان الاسم الذي سيحمله يكون قابلا للبقاء والتوسّع لفائدة كلّ البلدان المعنيّة، بغضّ النظر عن خصوصيّة الأنظمة السياسة في هذا البلد أو ذاك، في عالم تعولم فيه الاقتصاد ولم يعد فيه مكان للدوكماطيّة الانعزالية.
من الثابت الذي يطمئن، أنّ الجزائر لم تسعى أبدا لتصدير أفكار ومنهاج ثورتها المظفّرة، أو تأسيس لوبيات تابعة لها، أو مساعدة أحزاب محليّة تدافع عن نفوذها أو تتحدّث بصوتها في بلدان الجوار وخارجها، وهو في الحقيقة سلوك مثالي من الأفضل أن يتواصل، على الرغم من انتقاده من طرف البعض.
وذلك انطلاقا من مبدأ أنّ الشعوب وحدها هي التي تحكم على سياسات بلدانها، ومن غير المقبول أن ينوب عنها أيّ بلد آخر، فقد أدّت النيابة عن الشعوب إلى الدّمار والتفكيك والانفراط الداخلي والحروب الأهلية بوكالة سواء أكانت تحت غطاء الدفاع عن الديموقراطية وضدّ الحكم الاستبدادي، أو من أجل احترام حقوق الإنسان وحماية الطوائف والجماعاة الإثنية، والشواهد على نتائجها الكارثية ماثلة للعيان وليست بعيدة عن حدودنا.

التّنوّع يثري الوحدة والانتماء للوطن

من المؤكّد أن يكون على رأس قائمة الأولويات التي سترسّخ دعائم جزائر الغد المنشودة، تعزيز الانتماء إلى الوطن على امتداد جغرافيته وأيا كان مكان الميلاد، فقد شبّه جاك بيرك الجزائر بزربية كبيرة تتعدّد فيها الألوان والرسوم، ولكن لا معنى ولا دلالة جمالية لأي منها، إلاّ في الكلّ الذي يجمعها، وهو في رأينا التعلق الدائم بالحريّة والعدالة، والتقدّم عبر العصور وفي كلّ أرجاء الوطن، ولا يخصّ منطقة دون غيرها سجّلته وقائع التاريخ، وبقيت معالمه في التّراث الشّعبي، كما نجد نماذج منها في أشعار بلخير في الجنوب وأومحند في الشمال على سبيل المثال.

العولـمة وأولوية الوطن

يفتخر الرئيس الأمريكي الحالي بشعاره: أمريكا أولا (America first) وبعد أحداث سبتمبر 2011.09.09 التي ضربت برج التجارة والبنتاغون، صدر قانون الوطنيّة (Patriot act) الذي يفرض على الجميع الوحدة والتضامن ضدّ الخطر الإرهابي في بلد تجوب أساطيله في البحار والمحيطات، وتنتشر قواعده والمستشارين والخبراء العسكريين في 190 بلدا من المعمورة.
إنّ التنوّع اللّساني وخصوصيات حمولته الثقافية يمثّل ثروة للمجتمع، إذا كانت ضمن سياسة وطنيّة تشجّع على تفتّحها وإثرائها ونشرها والتّعريف بها داخل البلاد وخارجها، فهي تنتسب أولا إلى الجزائر وطن الجميع، فإذا تعرّض اللّسان وتراثه القديم والحديث إلى التّهميش والإقصاء من المنظومة الثقافية الوطنيّة، اندفع البعض نحو الانعزالية والتقوقع وتضخيم الخصوصيات، ورفض المشتركات الموجودة في التاريخ المشترك والتواصل الطبيعي بين الناس منذ أجيال بلا حدود ولا سدود (المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهويّة) للكاتب 2002.
ينبغي أن نشير إلى أنّ الجزائر لم تعتمد أبدا التمثيل الإثني أو الطائفي بسبب عدم وجود هذا المقياس أصلا، فقد كان تعيين المسؤولين أثناء حرب التحرير يقوم على عاملين: الأول الكفاءة في القيادة، والثاني أن أهل المنطقة أدرى بشؤونها، وخاصة في ظروف الحرب الشرسة ضدّ الذئب الكولونيالي، ولم يقيّم الرأي العام أداء المسؤولين من خلال التصنيف الوهمي للجزائريين إلى أعراق حسبما يدّعيه وروّج له خبراء الأنديجونوفيليا وبعض المغرّر بهم من أتباعهم في الجزائر لقد حاولت الكولونيالية غرس بذور الكانتونية في الجزائر عن طريق أطروحات زائفة أو متعلمنة Scientistes، مع العلم أنّ فرنسا نفسها تعرّضت للاقتطاع والانفصال بتأثير من اللغة والدين والعرق، ونجد في الدراسة التاريخية الموثقة للباحث فيليب بوران Ph.Burrin بعنوان فرنسا أثناء الساعة الألمانية
   La France à l’heure allemande 1995
أنّ نزعات قويّة للاستقلال الذّاتي وحتى الانفصال بلغت أشدّها أثناء الحرب العالمية الثانية، على أساس أن المجموعات السكّانية الموجودة على حدود البلدان المجاورة مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا...ترغب في العودة إلى مواطنها الأصلية.
ولعلّ هذا التهديد الذي تعرّضت له الوحدة الترابية والسكّانية لفرنسا هو الذي جعلها تتمسّك بالنظام اليعقوبي (Jacobinisme) الأكثر مركزيّة في غرب أوروبا، ولا ننسى أنّ فرنسا الكولونيالية وضعت مخطّطا شيطانيا لفصل الجنوب عن الشمال الذي أفشلته ثورة التحرير وشعبها وقياداتها في الشمال والجنوب، أليست الكولونيالية تلميذ غبي كما وصفها هوشمنه، قائد الثورة الفيتنامية؟
من المفيد أن تكون الدولة مركز جذب واطمئنان وأمان، ولا يجد فيها المدافعون عن التنوّع والخصوصية المحليّة خصما منحازا يشجّع على تبادل اللّعان والعداء بين نساء ورجال ينتسبون إلى وطن واحد في الماضي المشترك بما اتّفقوا عليه وما اختلفوا فيه، ولا مناص لهم في الحاضر والمستقبل من تقبل ما يدفع إلى مزيد من التجانس (Cohésion) وحماية الوحدة الوطنيّة حصن الجمهورية الذي يحميها من الإضعاف من الداخل تمهيدا لهيمنة من الخارج.

الهويّة انتماء جماعي وليست عرقا أو سلالة

من المستعجل أن يتجاوز المتنافسون على التموقع في الساحة السياسية الانغلاق في هويّة متشظّية بدعوى امتلاك كل طرف وحده ركنا منها والعودة إلى الحفر في الأصل والبداية والمنشأ ومن أنا؟ ومن أنتم؟ فهيّ كلّها تؤدّي إلى صراعات ما سماه أمين معلوف الهويات القاتلة Les identités meurtrières فلا شخص ولا جماعة تحتكر الإسلام دون غيرها.
يقول فرحات عباس الذي طالب بالإدماج لتعجيز فرنسا الكولونيالية المتزعّمة لحقوق الإنسان: إنّ فرنسا حرمت الجزائريين من حقوقهم في بلادهم، ولم يبق صامدا سوى الإسلام معقلهم الأخير، ولذلك أسّس حزبا لمقارنتهم بنفس سلاحهم هو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية  MTLD وليس التذكير بمأساة التسعينيات ذريعة لتبرير موقف أو تحول تتطلبه التغييرات في الجزائر الجديدة، فالإسلام في الجزائر عقيدة ومرجعيّة مؤثرة في سلوك الأغلبيّة من الجزائريين، حتى ولو كانوا من أبناء وأحفاد المواطنين في المهجر.
يمثّل التمسّك بالخصوصيات المحليّة والاعتزاز بها في أي منطقة من مساحة الجزائر الشاسعة مدخلا للوطنيّة الكليّة أو الجامعة، إنّ الذي يكره قريته أو حيّه أو مدينته لا يمكن أن يحبّ وطنه، لأنّ الوطنيّة ليست مسألة مجرّدة لا طعم لها ولا لون، وهذه الوطنيّة يمتزج فيها الإسلام والعربيّة والأمازيغيّة حضارة وعقيدة، وانتماء ثقافي لا علاقة له بالتوزيع العرقي والإيديولوجيات الشوفينية المفلسة في المنطقة العربيّة والإسلامية وخارجها.

الإدارة والمواطن ومساوئ البيروقراطية والمحسوبية

سوف يتصدّر ورقة الطريق لبناء جزائر الغد، على أغلب الظن، إعادة بناء الإدارة وإصلاح هياكلها لتكون أقرب للمواطن وأقلّ تعقيدا، وقد بدأت بعض الخطوات خلال السنوات الماضية لم تتوصّل إلى حلول إجمالية تقلّل من المركزيّة في التسيير اليومي، وبقيت الإدارة وهي الوجه المباشر الذي يراه المواطن والمتّهم الأوّل عن ضعف الأداء والغش والمحسوبية.
من العدل عدم تعميم مثل هذه السلوكات السلبيّة، فهناك العديد من الإداريين في مختلف مستويات السُلّم المعروف في الوظيف العمومي من النساء والرجال الذين يتميزون بالانضباط والنّزاهة، واحترام الخدمة العامة التي هي حقّ المواطن المطلوب منه أيضا احترام القانون وأداء واجباته، ومن بينها أداء الضريبة إذا كان نشاطه في القطاع الخاص.
من المطلوب أن تكون الإدارة في خدمة الدّولة والمجتمع، والدّولة ينبغي أن تبقى مهما تغيّرت اجتهادات أي نظام سياسي، فبدون الدّولة يكون المجتمع مجرّد قبائل وعشائر متساكنة في مساحة مجهولة من الكرة الأرضيّة، قد يكون في الجهاز الإداري مناضلون أو منتسبون لأحزاب أو منظّمات المجتمع المدني، وهذا حقّ لكلّ مواطن يتمتّع بحقوقه المدنيّة، وهو هدف تسعى إليه الأحزاب لتوسيع قاعدتها من المنخرطين والمناصرين لضمان الحضور والتفوق في المواعيد الانتخابية، ولكن من المطلوب أن يلتزم الإداري فقط بتطبيق التعليمات والتنظيمات الإدارية، وهو تمرين صعب حتى في البلدان المعتبرة نماذج للديموقراطية ومدافعة عنها حتى خارج حدودها، وقد يصل ممثل حزب إلى أعلى منصب في الدّولة، وقد يكون الذين انتخبوه من حزبه ومن غير حزبه وعندئذ يصبح رئيسا لكلّ مواطنيه، فالدّولة المحترمة تكون برأس واحد في إطار مؤسسات قويّة، أي ذات تمثيل ومصداقية.
حقّقت الرّقمنة تسهيلات كبيرة للمتعاملين مع المصالح الإدارية والاقتصاد في الجهد والوقت، في انتظار أن تشمل الرّقمنة والإعلام الآلي القطاع المالي، والبنوك بوجه خاص، وأن يتسارع استعمال الحاسوب في الشؤون الخاصة والعامة، وهو ما نشهده اليوم بين الشباب وفي الأرياف والمدن على امتداد القطر الجزائري.
وتهدف الخطوات المتوالية نحو تقسيم إداري أقلّ مركزيّة، وحسب معايير موضوعيّة تعتمد على الفعالية في التسيير ونوعيّة النّشاط الغالب في الدّوائر والبلديات، والتّقليل من مشقّة المواطن حسب الكثافة السّكانية، ولا علاقة لهذا التقسيم بالأمزجة الفردية والضّغوط الجهوية، كما أنّ ما تتطلبه من أغلفة مالية وتأطير إداري لا يقلّل من الهدف المنشود، وهو خدمة المواطن وضبط أوضح للمسؤوليات فيما يخص التنمية المحليّة من البلدية إلى الولاية في إطار المخطط العام للدولة.

الورشة الكبرى نظام التربية والتكوين العالي

من المؤكّد أنّ أكبر وأهم ورشة كبرى في مشروع بناء الجزائر الجديدة، هو قطاع التربية والتكوين المهني والعالي التي نراها حلقات متداخلة تتبادل النجاح والإخفاق عن طريق التأثير القبلي والبعدي المتبادل (Feed back)، وتوزيع الصلاحيات في هذا القطاع هو للاشراف المباشر على التسيير للملايين من المتعلمين وعشرات الآلاف من المؤطرين للتعليم والإشراف والتدريب والإدارة.
لا تدفع النقائص والخلل وهو موجود في كلّ الأطوار من الابتدائي إلى الجامعي وما بعده، لا تدفع للتقليل من الجهود الكبيرة التي بذلتها الجزائر منذ فجر الاستقلال، فهي بلا ريب من أكثر بلدان العالم الثالث إنفاقا على التعليم، فقد حظي فيما يخصّ الهياكل وأعداد العاملين فيه على نصيب الأسد في ميزانيات الدولة المتعاقبة.  
كما تقلّصت الأمية في المدن والأرياف، ومن النتائج الإيجابية لهذا الاهتمام بالتربية والتكوين، إقبال الإناث على الانخراط في كل مراحل نظام التربية والتكوين، وهو ما بدأت تظهر نتائجه في التحولات الاجتماعية المتسارعة منذ سبعينيات القرن الماضي.

الحلقة الرابعة