طباعة هذه الصفحة

دردشة عن جامعة لا تجمع

دكتور مُحيي الدين عميمور
عزام باشا الثاني من  اليسار ،وعلى يمينه الحاج أمين الحسيني وعلى يسار ه الشيخان البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني عزام باشا الثاني من اليسار ،وعلى يمينه الحاج أمين الحسيني وعلى يسار ه الشيخان البشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني

الحلقة الثانية

 

نظرة سريعة إلى الخلف وعبر العقود الماضية تؤكّد بأنّ الجامعة لم تنجح في مواجهة أي مشكلة عربية، ناهيك من التّعامل العملي مع المشكل الأساسي، وهو الدولة العبرية التي تشكّل تحديا لكل ما هو عربي، وهكذا كانت المؤسّسة، التي بنيت على ضفاف النيل مكان الثّكنات البريطانية في الأربعينيات، مجرّد صدًى لمواقع «نفوذ» أخرى، داخل مصر وخارجها، وأصبح كثيرون يعتبرونها مجرّد «تكية» للمتقاعدين والقاعدين، وكان اليقين بأنّها تحمل في طيّاتها كل عناصر الفشل.
والتّاريخ يؤكّد أنّها، كمؤسّسة عربية وطنية، لم تنجح بعد نكبة 1948 في إقامة دولة فلسطينية حقيقية تجمع ما أصبح يُسمّى الضفة الغربية مع قطاع غزة، أي إقامة كيان مستقلّ يُعترف به من الدول العربية أولاً كدولة حقيقية تُوفّر لها أهم مقومات الدولة، وتبذل جهود صادقة من أجل انتزاع الاعتراف الدولي بها، وبدلا من ذلك تواطأت الجامعة لتكوين دولة وهمية أسمتها «حكومة عموم فلسطين»، وأصبح يُطلق عليها، تهكّما، حكومة عموم «غزة»، وُضعت تحت قيادة رجل طيب اسمه «أحمد حلمي باشا»، ووضع القطاع، بإرادة الجامعة، تحت قيادة عسكرية مصرية، وأصبحت الضفة، بموافقة الجامعة، جزءاً من المملكة الأردنية.
وممّا يؤكّد أنّ النّوايا لم تكن صادقة، فإنّ هذه الدولة لم تكن تملك عملة فلسطينية، والعملة الوطنية هي من أهم عناصر الدولة كالعلم والنشيد والحدود، وكان التعامل يتم بالجنيه المصري أو الدولار الأمريكي أو الدينار الأردني أو الشيكل الإسرائيلي فيما بعد.
ويجب الاعتراف بأنّه، بحكم الأمر الواقع والمعطيات الآنية، فإن الشكوك والهواجس لدى المجموع العربي كانت في البداية محدودة، لأنّ المؤسّسة كانت تسير في ظل قيادات كان لها تألقها المحلي والدولي، لكن الفشل تكشّف يوما بعد يوم، لمجرد أن ما بني على الماء ستبتلعه الأمواج إن آجلا وإن عاجلا.
وهكذا فشلت الجامعة، كمؤسسة وطنية عربية، في التعامل مع حرب اليمن في الستينيات، حتى بالتمكن من حقن دماء الأشقاء (ولا أدخل في تفاصيل تلك الحرب وتداعياتها ودورها فيما حدث في 1967).
ولم تتمكّن الجامعة، كمؤسسة سياسية، من تحقيق الانسجام بين العراق وسوريا، وكلاهما كان يسيّره حزب واحد، وكلاهما عضو مؤسس للجامعة، وللعلم، فإنّ سوريا اقترحت في البداية اسم «التحالف العربي»، أما العراق فقد أراد اسم «الاتحاد العربي»، إلا أنّ الوفد المصري رأى أنّ اسم «جامعة الدول العربية» الذي تقدّم به هو أكثر ملاءمة من الناحية اللغوية والسياسية ومتوافقا مع أهداف الدول العربية، ولأنّ «مصر» كانت يومها ...«مصر»، أصبح اقتراحها هو التسمية الرسمية.
وفشلت الجامعة في السبعينيات من مساعدة المغرب العربي لتحقيق الاستقرار الذي يُبنى على السلام العادل، بل كان موقفها متناقضا مع موقف الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية (يومها) والاتحاد الإفريقي بعد ذلك، ولن أدخل في تفاصيلَ ما زالت جزءا من الذاكرة الجماعية الحيّة لشعوبنا.
وكانت الجامعة العربية، في مرحلة الربيع العربي، شاهد زور وعامل فرقة، ولا حديث عن مأساة ليبيا واليمن اليوم، فهي خبز يومي مُرٌّ للمنابر الإعلامية، وبالطبع، لا مجال للحديث عن تداعيات جائحة «كورونا»، والتي يطالبنا بعض طوال اللحية واللسان بأن نستسلم لها كقدر لا مفرّ منه، لأنّها، وأستغفر الله، مذكورة في القرءان (ويمكرونـ «ـا» ويمكرُ الله) تماما كما قال مثيل له منذ سنوات بأن «الكوكا كولا» مذكورة في القرءان (وترَ«كوكا» قائما).
ولا داعي للتوقف عند السقوط الأخلاقي لبعض الأعراب في قضية «أيا صوفيا»، حتى لا نجرح أحدا، وإن كنت على يقين من أنّه ما لجرح بميت إيلامُ.
وعودة أخرى إلى الخلف لتتّضح الأمور أكثر فأكثر.
كانت الجامعة قد ولدت في منتصف الأربعينيات، وكان تكوينها مرتبطا بالوجوه العربية اللاّمعة آنذاك، وفي مقدمتهم الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود والأمير عبد الله وصولا إلى الإمام يحيى حميد الدين، إمام اليمن، وبدا بالتالي أن الجامعة كانت شبه نقابة للملوك والرؤساء.
ولا بد من أن نتذكّر بأنه كانت هناك ردود فعل سلبية تتعلق بحقيقة وأهمية الدور البريطاني، الذي صوّره البعض وكأنه هو الفاعل الأساسي وراء تكوين الجامعة، وظنّ كثيرون أن لندن تحاول أن تمحو بعض آثامها التي نتجت عن خيانة الوعود التي أعطاها لورنس باسمها للأسرة الهاشمية، وربما تعويضا عن تشنج بريطانيا ضد ما تم في المؤتمر الإسلامي بالقدس في ديسمبر 1931، الذي قدّم ميثاقا عربيا ينصّ على وحدة العالم العربي، ولعلها كانت تريد افتعال نوع من الترضية العاطفية للغاضبين من وعد بلفور في نوفمبر 1917.
وهكذا صدر في 29 مايو 1941 بيان عن وزارة الخارجية البريطانية كان ممّا جاء فيه أنّ: كثيرين من مفكّري العرب يرجون للشّعوب العربية درجة من الوحدة «أكبر» ممّا عليه الآن، وحكومة صاحبة الجلالة من ناحيتها ستؤيّد كل التأييد أيّة خطّة تلقى من العرب موافقة عامة.
وكان وزير خارجية بريطانيا يومها هو «الشبحيّ» في ظلّ ونستون تشرشل، أنتوني إيدن، والذي كان أطرف وصف له ما جاء على لسان الرئيس عبد الناصر بعد ذلك بسنوات، عندما قال إنه (أي جمال) ليس «خِـرِعْ» كإيدن (ومعنى «خرع» المؤدب هو «مرخوف»).
ويقول المدافعون عن الجامعة بأنّ تصريح إيدن اتّخذه البعض ذريعة لتشويه فكرة تأسيس الجامعة والادعاء بأنها صنيعة بريطانيا، في حين أن الأحداث التاريخية تؤكد أن هذه الحجة واهية، ولا تستقيم مع واقع الأحداث، حيث كانت بريطانيا تضع العراقيل أمام الجامعة العربية منذ نشأتها، مدعية أنها لا تتمتع بشخصية قانونية دولية.                                  
ويشهد شهر مارس 1945 التوقيع على الصيغة النهائية لنصّ «ميثاق جامعة الدول العربية» من قبل رؤساء حكومات خمس دول هي مصر ولبنان والعراق وشرق الأردن وسوريا ثم وقعت عليه السعودية فيما بعد.
ولن أدخل في تفاصيل الميثاق مكتفيا بتسجيل بعض النقاط التي جعلت من الجامعة مجرد ديكور بروتوكولي، لا يصكّ ولا يحكّ، بالتعبير الجزائري، أي لا يهِشّ ولا ينِشّ.
كانت العقبة الأولى أمام أي تحرك جادّ هي أن القرارات الملزمة هي تلك التي تتم بالإجماع، وليس بالأغلبية كما هو الحال غالبا في المؤسسات الدولية، وكان هذا من أسباب الشلل الرئيسي في المواقف السياسية للجامعة.
وكانت أهم نقاط الضعف التي برزت سلبياتها في السنوات الأخيرة هي اختيار الأمين العام، والذي كان من نتائج تألق الأمين العام الأول للجامعة، فقد طغت قامته وقيمته وانتماؤه لأهم وأقوى بلد عربي آنذاك على الصياغة العلمية والعملية التي تحدد دور الجامعة، ومهمة الأمين العام وصلاحياته وعلاقاته.
كان عبد الرحمن عزام باشا قطبا عربيا مرموقا ينتمي إلى أسرة جذورها من شبه الجزيرة العربية، تعلّم مهنة الطب في كلية «سان توماس» بجامعة لندن، ثم شارك في حرب البلقان مع قوات الدولة العثمانية، وعمل مع الحركة الليبية الوطنية ضد الاحتلال الإيطالي، وساهم في إقامة أول جمهورية في العالم العربي ألا وهي الجمهورية الطرابلسية، واستطاع أن يتقلّد منصب أول مستشار للجمهورية الليبية الأولى، كما عمل على التوفيق بين الزعماء الليبيين (وهو ما يجعلنا اليوم نشتاق لوجوده في ليبيا).
وكان عزام أحد أعضاء الوفد المصري في صياغة ميثاق جامعة الدول العربية، ولعله كان أهم الأعضاء بدون استثناء، وبالتالي وقع الاختيار عليه وبالإجماع، ليكون أول أمين عام للجامعة، ولم يكن هناك من يجرؤ على الوقوف ضد هذا الاختيار.
وهكذا أصبح انتماء الأمين العام لدولة المقر عرفا سائدا، إذ لم يتم النص على غير ذلك في الميثاق، وهي وضعية تتناقض مع كل المؤسسات الدولية، مثل منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية بعد ذلك ثم الاتحاد الإفريقي، وهذه الحجة نفسها هي التي استخدمتها مصر لمواجهة الترشيح الفرنسي لمنصب المدير العام لليونسكو، الذي انتزعته «أودري آزولاي» الفرنسية اليسارية)،  وهي ابنة «أندري آزولاي» مستشار العاهل المغربي، وهو من أبناء الجالية اليهودية).
وأصبحت هذه القضية مثار لغط كبير في السنوات الأخيرة، حيث أسيء التعبير عن موقف الجزائر من هذه القضية أو شُوّه تفسيره، في مرحلة كانت المنطقة تعاني من تداعيات أزمة سياسية أثارتها مباراة كرة أُريدَ لها هدف غير رياضي، وكادت تعصف بالعلاقات المصرية الجزائرية، ورأى كثيرون أن موقف الجامعة العربية كان يومها بعيدا عن منطق الحكم النزيه.
كانت الفكرة الرئيسة لأي اقتراح عمليّ لإصلاح الجامعة تتضمن عدة عناصر من بينها استبعاد منطق الإجماع، ثم الدعوة لكي يتم ترشيح الأمين من مجموع الدول العربية وليس من دولة واحدة، بدون أن يعني هذا رفضا للمرشّح المصريّ لمجرد أنه ينتمي لدولة المقر، حيث لم يكن هناك من يجهل الثروة الديبلوماسية التي تمتلكها مصر، وتعطيها الأولوية في التقدم للترشيح، والتي مكّنت رجالات من نوع عزام باشا وعبد الخالق حسونة ومحمود رياض من تصدر الإرادة العربية الجماعية.
وبوضوح أكثر تمّ تفاديه آنذاك للابتعاد عن استثارة لا مجال لها كان المطلوب التخلص من انفراد مؤسسة معينة ذات نفوذ في بلد المقرّ بترشيح من ترضى عنه لقيادة السفينة العربية، وهو ما يعني أن يكون باب الترشيح مفتوحا لمن يريد أن يُرشّح شخصا ما من بلد ما، قد لا يكون هو بلده الأصلي.
وما زال الحديث عن الأحداث التي بدت فيها الجامعة العربية كـ «المحلّل» في قضايا الطلاق البائن»، أو من يُطلق عليه بعض الفقهاء لقب «التيسُ المُستعار».
يتبع