طباعة هذه الصفحة

دردشة عن جامعة ليست جامعة

الدكتور مُحيي الدين عميمور

الحلقة الثالثة

أصبح المعروف من السياسة بالضرورة (على وزن المعروف من الدين بالضرورة)، أنّ الجامعة العربية تقوم بدور المحلل لما ترتكبه الأنظمة النافذة المتحكّمة في المنطقة، والفاعل أصبح نائب فاعل، والمبتدأ لم يعد له خبر، والضمير استتر إلى غيبٍ لا يبدو له أفق.
وازداد تعفن الأوضاع بعد اتفاقية كامب دافيد، وبغض النظر عن حق مصر الكامل في تحديد سياستها، فإن ما تم في السبعينيات غيّر من معطيات العمل العربي التي كانت تجعل من الكيان الصهيوني أبعد ما يكون عن دور الحليف أو الصديق، مع احترام متطلبات الجوار الجغرافي الذي يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الأمن القومي العربي.
ونُقلت مصالح الجامعة العربية إلى تونس بعد أن قطعت مصر علاقاتها مع البلدان العربية التي رفضت اتفاقية كامب دافيد، وكانت الجزائر في مقدمة من قطعت معهم العلاقات، لكن بلد الشهداء واصل التعامل مع مصر «الشعب والثقافة والتاريخ» بكل وفاء ومحبة، وتعامل مع النظام المصري نفسه بكل نبل واحترام في مجال العلاقات الدولية، برغم مواقف للإعلام المصري تجاوزت كل حدود اللياقة، لكننا لم نتعامل بالمثل.
وأتذكّر هنا زيارة الرئيس الشاذلي لبلجيكا في 1982، وهي الزيارة الرسمية الأولى لأوروبا، وكانت المملكة اختيارا متعمّدا، حتى لا تكون فرنسا أول زيارات الرئيس الجزائري الرسمية، بما يمكن أن يبدو أنه استئذان في التحرك الجزائري نحو أوربا.
وأرجو أن أذكر هنا أنّ ترتيب الزيارات الرئاسية، ومنذ الستينيات، كان على النحو التالي: الوطن العربي ثم القارة الإفريقية ثم بقية دول العالم الثالث، موازاة مع المشاركة في القمم الإقليمية، إسلامية كانت أم عربية أم إفريقية أو غير منحازة.
وفي بروكسيل جاءنا، الأخ مولود حمروش وأنا، مدير التشريفات الملكية البلجيكي ليعرض علينا، مرتبكا، مشكلة تواجهه في تنظيم حفل العشاء الرسمي الذي يقيمه الملك «بودوان» على شرف الرئيس والوفد المرافق له، تتعلق بدعوة كل من السفيرين المصري والمغربي في بروكسيل للحفل، حيث أن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الجزائر والبلدين.
ويحيل مولود السائل على العبد الضعيف، فأبادر بالقول إن كلا من مصر والمغرب بلدان شقيقان وسوف يكون الرئيس الشاذلي سعيدا باستقبال السفيرين، وهو ما حدث بالفعل، وأكّد لي الرئيس، مشكورا، أنني أعطيت الردّ المناسب.
وتبدأ في 1987 تحرّكات نحو ما سُمّي استعادة مصر إلى الصف العربي، وتعقد قمة عربية غير عادية في عمّان باستثناء مصر وتنتهي بإعادة ثماني دول علاقاتها مع القاهرة هي: الإمارات والسعودية وموريتانيا وقطر واليمن الشمالي والكويت والبحرين والعراق، ويلاحظ أن العراق كان من بين من سارعوا إلى إعادة العلاقات.
والواقع أنّ مصر كانت تبذل جهودا حثيثة في كل اتجاه للعودة إلى صفوف الجامعة العربية، وبدا واضحا أن هناك إرادة في عدد من الأقطار العربية لإعادة إدماج مصر في الجامعة العربية وتوسيع إطار إعادة العلاقات معها، ويقوم صدام حسين، نعم...صدام حسين، بعملية التفاف واضحة لتحقيق ذلك، فيتم تكوين مجموعة عربية موازية لمجلس التعاون الخليجي تحمل اسم مجلس التعاون العربي، وتضم العراق واليمن (الشمالية آنذاك) والأردن وبالطبع مصر، وكان المخطط أن تكون عودة مصر إلى الجامعة العربية اقتراحا لمجموعة وليس طلبا من الدولة المعنية، وهكذا التحقت مصر بمجلس التعاون العربي، الذي سيطلق عليه مبارك فيما بعد مجلس «التآمر» العربي!!!.
وكان إنشاء المجلس هو الخطوة التي اعتمدها صدام ليؤكد اعتراف الجميع بدوره البارز كقوة إقليمية تحمي البوابة الشرقية للعالم العربي، وهو ما يدعمه وجود مصر إلى جواره كدولة لها وزن تاريخي، بالإضافة إلى اليمن صاحب الموقع الإستراتيجي عند باب المندب، والأردن، بدوره النشط في كل المجالات والمفتوح على كل الاتجاهات.
وكنا نتصوّر يومها أن حرص صدام على عودة مقر الجامعة إلى مصر كان ناتجا عن مشاعر الوفاء والاعتراف بالجميل، حيث كان الدعم المصري له خلال حربه مع إيران بالغ الأهمية، ويقال أن اليد العاملة المصرية في مجال الزراعة والتي اقترب عددها من المليون أعطت بغداد فرصة حشد قواتٍ أكبرَ في حربها ضد طهران، بل ويقال أيضا إنه كان هناك وجود عسكري مصري في الخطوط الخلفية.
لكن السؤال الذي كان يطرح نفسه هو: ما الذي تغيّر حتى تعاد العلاقات مع مصر برغم أن السبب الرئيسي لقطعها ما زال قائما وهو العلاقات مع إسرائيل؟
وكان حماس عدد من الدول العربية لإعادة العلاقات مع مصر عملية متباينة الأهداف والأسباب، فالعراق أرادها استعدادا لتحركاته المستقبلية على الساحة العربية والإسلامية، والأردن وجدها فرصة لكيلا يجد نفسه وحده أمام عداوات قديمة تخفيها ابتسامات ديبلوماسية، وأيضا مع الأمل في ألا يكون بعيدا عن أي امتيازات تحققها مصر في العلاقات مع واشنطن، وهناك دول أخرى كانت تريد أن تجد بجانبها دعما متميزا في مواجهة الثورة الإيرانية التي لم تنجح سنوات الحرب الثماني الشرسة في تقليم أظافرها نهائيا، بينما كان هناك من ينتظر من الرئيس مبارك دعما له في قضايا حدودية أو اقتصادية مع أحد الجيران.
وفيما بدا نوعا من الابتزاز اشترطت دول مجلس التعاون العربي عودة مصر إلى الجامعة لكي تقبل المشاركة في قمة كازابلانكا في نوفمبر 1989، والتي كان بندها الرئيسي دعم الانتفاضة، وكان الملك الحسن رئيس المؤتمر يُقدّر حساسية الموضوع، وكان في صميم فؤاده مؤيدا لعودة مصر، ربما لأنه كان من أول من شجّعوا السادات على زيارة إسرائيل، وأن يغفر العرب ذلك للرئيس المصري معناه أن يُمسح الأمر من قائمة ديون العاهل المغربي، الذي اقترح، وهو قانوني ضليع، استعمال تعبير: إنهاء تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية، لمحو صيغة بغداد منذ عشر سنوات، عندما استـُعمل تعبير: تجميد عضوية جمهورية مصر العربية.
ويصدر بلاغ من رئاسة الجمهورية السورية يرحب بعودة مصر (..) وعند الدخول إلى قاعة المؤتمر، وبعد نظرة وابتسامة، يجد القذافي نفسه في أحضان مبارك، ثم يركبان سيارة واحدة ولا يفترقان (هيكل - أوهام النصر والهزيمة – ص 297) لكن ذلك الترحيب وجد من أعضاء الوفد العراقي من يُعلق عليه قائلا: المصريون استعملونا في العودة إلى الجامعة ثم أصبحوا يتجاهلون رفيقهم السابق.
ويلاحظ هنا أن الجامعة العربية كانت غائبة تماما كعامل مؤثر على مسار الأحداث، وسيتولى أمانتها، كالعادة، وزير الخارجية المصري السابق، أحمد عصمت عبد المجيد.
ولا أعتقد أن الدافع الرئيس وراء إعادة العلاقات العربية مع مصر كان ماليا أكثر منه سياسيا، برغم أن الوفرة المالية العربية في تلك المرحلة كانت تبحث عن مواقع للاستثمار، والطبقة المالية الجديدة في مصر، والتي نشأت بفضل سياسة الانفتاح، كانت تبحث عن أموال تضاعف بها ثرواتها، وتستفيد من وضعية الاطمئنان التي خلقها الرئيس مبارك في مستوى القيادات العربية.
ويرسم هيكل صورة لدنيا المال العربي يستثمر فيها قصة «إريك جوردان» التي تحمل عنوان «العملية هبرون» فيقول على لسان القاصّ: أصحاب البلايين العرب مجموعة من الرجال اقتربوا على نحو أو آخر من دوائر السلطة في العالم العربي (كتاب - العربي التائه ص 164)، وحققوا ثروات طائلة عن طريق المثلث الذهبي، «نشاط المخابرات – عمليات البترول - تجارة السلاح»، وبنفس هذا الترتيب، فكلهم بدأوا، على نحو أو آخر، في المخابرات أو على صلة بأجهزتها، وكلهم اقتربوا، على نحو أو آخر، من عمليات البترول أو فوائض أموالها الهائلة، وكلهم وصلوا على نحو أو آخر إلى تجارة السلاح وأرباحها الخرافية.
وفي طريقهم من المخابرات إلى البترول إلى السلاح، عرف هؤلاء واتصلوا في أوروبا مع إدارة مخابرات ومندوبي شركات وممثلي حكومات وأحيانا رجال إعلام من الدرجة الثانية أو الثالثة (..) وأصبحت لهم علاقات سارية إلى حد بعيد في عواصم العالم العربي (..) وفي أجواء الاعتماد المتبادل بين الأقوى والأغنى قام المال في بعض الأوقات بمهام سياسية (..)، كما أن دائرة القرار السياسي أصبح لها دلال على أصحاب البلايين العرب، يُشير بدون أن يطلب، ويُستجاب له قبل أن يلتفت.
ويجب أن نتذكّر هنا بأن تلك السنوات الأخيرة من الثمانينيات شهدت حركة عالمية جديرة بالاهتمام كان من أهم نتائجها انهيار الكتلة الاشتراكية.
وأفرز كل هذا وضعية جديدة على الساحة العالمية، فقد كانت واشنطون قد بنت كل مخططاتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على محاربة الشيوعية الدولية، وإلى درجة استثمارها في تصفية خصوم السلطة السياسية والمالية والعسكرية، كما حدث مع ملاحقات السيناتور ماكارثي.
وأصبحت القوة العسكرية الأمريكية الآن في وضع صعب، فالعدوّ الذي أعدّت نفسها لمواجهته اختفى كتمثال جليدي تحت شمس حارقة، وتحدثت لجانٌ في الكونغرس عن تخفيضات كبيرة في ميزانية الدفاع، وهو ما أقلق قيادة الجيش وكل مؤسسات صناعة الأسلحة والخدمات العسكرية.
ولأن دولة في حجم الولايات المتحدة في حاجة دائمة لعدوّ تستقطب حوله الدعم للسلطة القائمة، فقد راح الرئيس بوش يبحث عن عدوّ جديد يمكنه من استقطاب الرأي العام حوله، وكان اختياره الأول هو الحرب ضد المخدرات، ثم جاءت فكرة محاربة الإرهاب الدولي بعد حادثة «لوكيربي»، ولأن كل ذلك لم يكن قادرا على تبرير الإنفاق العسكري، فضلا عن زيادته، ظل هدف المؤسسة العسكرية البحث عن عدوّ يمكن أن يبرر ميزانيتها الضخمة.
ويجب أن نتذكّر أنّه في تلك المرحلة على وجه التحديد كانت أوروبا الموحّدة تتحول شيئا فشيئا إلى عملاق اقتصادي، وقوتها ستكون مرشحة للتنامي إذا ارتبطت بها مجموعة دول أوربا الغربية التي تكون رابطة التجارة الحرة (الافتا) في انتظار أن تلحق بها دول أخرى من دول أوروبا الشرقية مثل المجر ورومانيا وبولندا، ليتوج كل ذلك بوحدة ألمانيا للمرة الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي مقابل ذلك كان الوطن العربي يعيش وضعية فوضى سياسية كان اختفاء موسكو من معادلة توازن القوة العالمية واحدا من أهم أسبابها، وكان غياب مصر عن القيام بالدور الذي تعوّد عليه العرب زيادة في حجم الفراغ الذي بدأ العراق يفكر في ملئه، أو القيام على الأقل بدور إقليمي يتخلص به من آثار وضعية تشبه وضعية البطالة التي عرفتها القوات الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وكانت أهم مشاغل العراق المشكلة الاقتصادية، فالحرب كلفته كثيرا، وكدّست عليه ديونا عربية وغير عربية، وكان انخفاض سعر النفط ينزل بدخله إلى حدود غير محتملة، وكان السبب في رأيه، أن انخفاض الأسعار يعود إلى أن سوق البترول متخمة بالفائض، وكان ذلك الفائض نتيجة لزيادة إنتاج كل من الإمارات والكويت (هيكل ص 255).
ومرة أخرى وليست أخيرة ألاحظ أن الجامعة العربية ظلت مجرد «شاهد ما شافش حاجة»، تستعمل كمجرد ديكور للأحداث السياسية.

يتبع