طباعة هذه الصفحة

السّيــادة الوطنيــة.. المبـــدأ وكيـف يمــارس؟

د - محمد العربي ولدخليفة

 نموذج: الجزائر قبل وبعد التّحرير

ارتبط مفهوم ومصدر وصلاحيات السيادة الوطنية بنشأة الدولة الوطنيّة وأفكار عصر الأنوار التي يعتبرها بعض المؤرخين منطلق الحداثة في أروبا، وتقلّص السلطة التيوقراطية المطلقة وباباوات الكنيسة طوال القرون الوسطى الأوروبية.

تهدف اللّمحة السابقة عن تعلّق الجزائر قديما وحديثا بالسيادة الوطنيّة، حتى في أحلك الظروف، في متصل مجتمعي سياسي اقترنت فيه ثلاث مطالب لم يتخلّى عنها أبدا، وهي: الحرية والعدالة والتقدّم، عبّرت عنها كلّ حقبة ورجالاتها في الداخل أو من الخارج.
وينبغي التنبيه هنا إلى أنّ ممارسة السيادة وحريّة القرار ليست مكسبا نهائيا في أي بلد في العالم، فقد يتعرّض أي بلد إلى فتن في الداخل مثل الصراعات الاثنيّة والطائفيّة التي تكون الجسر الذي تعبر عليه قوّة مجاورة أو إقليميّة بطلب من أحد الأطراف ضدّ خصمها في نفس الوطن، وقد تكون بسبب إفلاس الدولة وعجزها المزمن عن تلبية الحد الأدنى من متطلّبات الحياة، والاضطرار إلى طلب العون من بلدان أخرى أو من مجموعة برتن وودز (Bretton woods)، وعند العجز عن دفع المستحقات والفوائد تصبح في أحسن الحالات تحت الرقابة المباشرة لصندوق النقد الدولي (FMI) والبنك الدولي، أي في حالة الطفل الذي لم يبلغ الرشد، وبالتالي إنقاص من صلاحيات الدولة ومساس بكرامة شعبها.
هناك أيضا إنقاص من سيادة الدولة عن طريق البقاء المقنّع لثقافة ولغة البلد الكولونيالي السابق، إمّا لضرورات التعدّديّة اللّسانية والطائفية كما هو الحال في الهند وبعض البلدان الإفريقية أو بسبب الانتشار الواسع والجذاب للغة وثقافة ونمط الحياة Way of life  الأمريكية الذي تقوده الولايات المتّحدة في كلّ أنحاء العالم.
كما ظهر بعد حادث البرجين في نيويورك ما يسمّى حق التدخّل لحماية الشعوب من حكامها باسم الإنسانية، وهو صورة جديدة للتوسع الكولونيالي الذي استعبد الشعوب بدعوى تمدينها في إفريقيا وشمال وجنوب أمريكا وأجزاء من آسيا، والفرق الوحيد هو أنّ هذا التدخّل أخذ شكل تحالفات بين نفس القوى الكولونيالية السابقة التي تضرب عرض الحائط بهيئة الأمم المتّحدة، وحتى مجلس الأمن الذي قد لا يستشار، ولا تعبأ بأي صوت يخرج من جمعيتها العامة التي يجلس في مقعدها أغلبية من ممثلي العالم.
وقد وجدت هذه الوصاية الجديدة في الفيلسوف اليميني الصهيوني برنار هنري ليفي (B.H.levy) غراب الموت والخراب، حسبما أظهرت خطاباته المتشنّجة في الحملة التدميرية على ليبيا الضحية مرتين: الأولى بقيادتها التي أعماها الغباء السياسي والغرور، والثانية بالخراب والانهيار الذي لحقها بآلة الحرب التي ساهم فيها كذلك أعضاء في جامعة كانت عضوا فيها.
كما تواجه الدول المتحرّرة من الكولونيالية منذ منتصف القرن الماضي مصاعب كبيرة في حماية سيادتها في مجالات الاقتصاد والتجارة، ولم يجد النداء الذي وجهته الجزائر من منبر الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة لنظام اقتصادي وتجاري يرتكز على الحق في التنمية والإعلام في منتصف سبعينيات القرن الماضي أي تجاوب من طرف القوى الكبرى التي أصبح لها نادي مغلق يسمّى مجموعة السبعة (G.7) يتمّ توسعه حسب الحاجة لحلفاء من الأقربين إلى أربعين، وعند بعضهم فائض من الدولار الموجّه إلى الاستيراد بالملايير.
لا شكّ أن تحقيق السيادة الوطنيّة والاعتراف الدولي بها، مكسب ثمين، مهما كان حجم الدولة من حيث المساحة الجغرافية وتعداد السكان، ولكن حمايتها والدّفاع عنها تتطلّب توفّر شروط أخرى من بينها مدى الاستقرار السياسي ودرجة التجانس المجتمعي وصلابة الوحدة الوطنيّة، وهيّ من أهمّ الضمانات ضدّ  إضعاف السيادة الوطنيّة من الداخل.

وهناك عوامل أخرى لا تقلّ أهمية نذكر من بينها:

1 - مستوى التنمية الاقتصادية ودرجة الاكتفاء الذاتي في الموارد الأساسية مثل الغذاء والطاقة وميزانها التجاري (استيراد- تصدير) وتوفّر المياه للسكان والفلاحة، فهي مع الطاقة (الغاز والبترول) من أسباب الصراعات والحروب قديما وفي المستقبل، وتؤدّي إلى فرض الوصاية والتبعية للقوى الكبرى.
وينبغي أن نوضّح أنّ الاكتفاء الذاتي المطلق غير موجود بالأمس واليوم، فالتبادل التجاري قديم قدم إنسان ما بعد التاريخ، ولعلّ أكبر خطر يواجه أي بلد هو الحصار أي منعه من التبادل التجاري مع غيره من البلدان، وعلى هذا الأساس قام قانون العرض والطلب المفتوح في النظام الليبرالي والتبعيّة المتبادلة (Interdépendance) على الرغم من أنّها دائما لصالح الاقتصاد الأقوى ويمثّله حاليا القوة الثلاثية (Le Pouvoirtriadique) الولايات المتحدة وجنوب شرق آسيا وغرب أروبا، وسلطانها الأكبر  كلّها، وهو الدولار الأمريكي.
2 - مدى ذكاء وكفاءة قياداتها ومؤسساتها الوطنيّة في الدفاع عن مصالح الوطن المشروعة، والحفاظ على سيادة وحرية قرارها السياسي في المحافل الدولية، ويشمل ذلك ممثلياتها الدبلوماسية ونخبها المتميّزة في العلوم والفنون والآداب ونجوم مختلف الرياضات الذين يحظون بالإعجاب ويوفرون لبلادهم الاحترام، وبالتالي يساهمون في بناء علاقات مبنيّة على الاحترام المتبادل للسيادة وإمكانيات التعاون في إطار توازن المصالح.
3 - أدّى التفوّق الكبير لما يُسمّى القوة الثلاثية التي أشرنا إليها فيما سبق في مجالات الصناعات الثقيلة والدقيقة واحتكارها لوسائل الاٌتصال السمعي البصري الأكثر تعقيدا وتقدّما إلى تبعية إجبارية في مختلف بلدان العالم الثالث التي وجدت نفسها موضوعا للعولمة من المركز نحو الأطراف، وليسن شريكا أو صانعا لها، ينبغي أن نضيف إلى تلك التركة التي خلفتها الكولونيالية في أغلب بلاد العالم الثالث في مجالات الإدارة والتسيير والثقافة والتعليم في مختلف مراحله وكلها تدفع شرائح من الشعب والنخبة إلى تبعية طوعية أو اضطرارية، وكمثال على ذلك فقد اقترح أحد أعضاء الحكومة المكلّف بالتعليم الثانوي والتقني سنة 1983، استبدال امتحان الباكالوريا وحذف هذه التسمية أصلا بحصيلة التلميذ في مجمل دراسته في سنوات التعليم الثانوي، واقتنع البعض بذلك وصدر الاقتراح في مرسوم رئاسي، وأثار ذلك موجة سخط واعتراض أدّت بعد مدّة قصيرة إلى إلغاء المرسوم، وبقاء الحال على ما هو عليه إلى اليوم! ولا يعني ذلك أنّ الاقتراح كان هو الحلّ الأمثل، غير أن القطاع ما يزال ورشة مفتوحة للتجاذبات، بعضها على الأقلّ لا علاقة له بالتطوير البيداغوجي والتحصيل المعرفي المتطوّر.
4 - من بين وسائل حماية السيادة أو الدفاع عنها تمتّع الدولة بقوّة ردع Dissuation تكلّف من يغامر بالتدخّل في شؤونها أو الاعتداء عليها ثمنا باهضا، ومن الأمثلة ردّ الولايات المتحدة على قصف اليابان للأسطول الأمريكي في بيرل هاربر، وإن كان الصراع في هذا المثال على السيطرة على مناطق في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي.
وبالتالي فإنّ حماية السيادة والمصالح الأساسية تتطلّب على الأقل توازن القوّة الدفاعية في أي صراع جهوي أو دولي، والسبيل إلى ذلك امتلاك درع من السلاح، وأقواه منذ نهاية الحرب الثانية هو القوّة النووية التي تمنع من وقوع صدام مباشر بين القوى النووية التي يجمعها الآن العضوية الكاملة في مجلس الأمن دون غيرها من الأعضاء الإضافيين دوريا.
كما أنّ حدوث توتر في العلاقات بين البلدان الأخرى التي تملك القوّة النووية مثل الهند وباكستان يثير الانشغال في منطقتهما وخارجها، لأنّ انفجار الصراع بينهما سيؤدّي حتما إلى كوارث مهلكة للسكّان والتلوّث بالإشعاع النووي والأضرار بالبيئة لسنوات عديدة كما حدث في تشرنوبل الأكرانية سنة 1986.
5 - لم تسعى الجزائر أبدا لامتلاك السلاح النووي بغرض التفوّق العسكري في المنطقة، فقد كان شعبها ضحيّة بريئة لتجارب فرنسا النووية في جنوبها، وهو عدوان إجرامي يعاني منه الإنسان والبيئة إلى اليوم، وكلّ الادّعاءات التي اتهمت الجزائر بالسعي لامتلاك هذا السلاح كانت للضغط والتأثير على السياسة الوطنيّة وتوجهاتها الأساسية، ومحاولة لإضعاف موقعها في المنطقة المغاربية لصالح المستفيدين من هذا الاستفزاز، ومن الطبيعي أن تستفيد الجزائر من الطاقة النووية لأغراض سلمية مشروعة مثل الطب والتزود بالطاقة الكهربائية وتصفية المياه إلخ...ومؤسّساتها على أي حال مكشوفة وتعمل في وضح النهار في مجال البحث العلمي.
6 - شهد كثير من بلاد العالم في العقود الأخيرة سباقا كبيرا للتسلّح ليس لحماية السيادة الوطنيّة فحسب، بل للتفوّق الإقليمي ومنافسة بلدان أخرى حسب المحاور التي ينتمي إليها هذا الطرف أو ذاك، وقد أصبح تصدير الأسلحة والإشهار لما تتميّز به من تكنولوجيات عالية، قسما هاما من الدخل الوطني في البلدان المصنّعة وحتى بين البلدان الصاعدة مثل البرازيل والأرجنتين وجنوب إفريقيا إلخ...
وقد شرعت الجزائر في السنوات الأخيرة في تصنيع بعض المعدّات العسكرية، وكما أشرنا فيما سبق فإنّ البلاد المصنّعة حاليا انطلقت ورشاتها أولا في إطار المؤسسة العسكرية.
7 - يحمل الدستور الجزائري في كل صيغه وكذلك المقترحة للإثراء، ثمّ المصادقة والاستفتاء، وضوح أركان السيادة الوطنيّة، وهي ملزمة لكلّ مؤسّسات الدولة وإطاراتها في كلّ المستويات وممثليها في الخارج.
نجد تلك الأركان في الباب الأوّل وبنوده من 1 إلى 14، ومنصوص عليه بدقّة في المادتين 13 و14،ونصهما كما يلي:
المادة 13:
1 / تمارس سيادة الدولة على مجالها البري والجوي وعلى مياهها.
2 / كما تمارس حقّها السيّد الذي يقرّه القانون الدولي على كلّ مناطق المجال البحري التي ترجع إليها.
المادة 14:
لا يجوز البتّة التنازل أو التخلّي عن أيّ جزء من التراب الوطني.
حرصت الجزائر خلال حوالي ستة عقود 1962-2020 على ممارسة سيادتها على ترابها الوطني، وما يعود إليها من المجال البحري والجوي، وسعت بإخلاص إلى تسطير الحدود مع دول الجوار، بل دافعت في إطار منظّمة الإتحاد الإفريقي إلى احترام الحدود الحالية بين الدول الإفريقية، على الرغم من أنّها غير طبيعية من حيث توزّع السكّان فهي وريثة ما يشبه سايكس بيكو في الشرق الأوسط، رسمها بالنسبة للقارة السمراء فرنسا وبريطانيا والبرتغال وينبغي إضافة ألمانيا وإسبانيا.
ولا شكّ أنّ دفاع الجزائر عن الحدود الموروثة بعد استقلال الدول الإفريقية، هو سياسة حكيمة، بدونها تدخل معظم دول القارة الإفريقية في صراعات وحروب لا نهاية لها، تكبّد القارة السمراء المزيد من الأزمات والحروب البينية بين ثلاثة أرباع دول منظّمة الوحدة الإفريقية، تمنعها من الحدّ الأدنى من التعاون ومكافحة الأوبئة الموسمية والدائمة، وتهديدات المجاعة، وضعف وتيرة التنمية الإنسانية والاٌقتصادية.
مارست الجزائر سيادتها على ترابها الوطني وما يعود إليها في الجو والبحر، وفي المقابل لم تطالب بشبر واحد من تراب المجالين الجوي والبحري لدول الجوار، ولكنّها لم تجد دائما المعاملة بالمثل، فقد تعرّضت حدودها الغربيّة في مستهل الإستقلال إلى هجوم غادر، وجراح حرب التحرير مازالت تنزف، كما طلب زعيم دولة على حدودنا الشرقية باٌقتطاع جزء من الولايات الحدودية يساوي أو يزيد على مساحة وسكان بلاده، وقبل ذلك سعت الكولونيالية الفرنسية إلى فصل حوالي 65 % من التراب الوطني وإنشاء إمارة الصحراء وما فيها من منابع الغاز والبترول، وفي تقديري فإنّ إفشال هذا المخطّط الخطير يعتبر من أهمّ إنجازات الثورة وقيادتها ووفدها مفاوض في إيفيان.
الحقيقة أنّ تلك الأطماع تواصلت عقودا بعد التحرير في هلاوس العقيد الليبي في مشروعه ليكون ملك ملوك إفريقيا، وبناء وهم دولة الصحراء الكبرى الإفريقية التي ولدت ميتة وذهب تمويلها بملايير الدولارات هدرا.
ونحن نميّز بين المساندة الشعبية غير المشروطة للشعب الليبي للثورة الجزائرية، على مرأى القواعد الأجنبيّة ومساعدته بسخاء لجيش وجبهة التحرير وقوافل التسليح التي كانت تعبر تراب المملكة، من السلوم إلى قواعد جيش التحرير على الحدود الشرقية.
إنّ الإلتزام بالبندين 13 و14 من الدستور أمانة في عنق كل الأجيال، والإخلال بأحدهما خيانة عظمى فقد وقّع على كل شبر من التراب الوطني شهداء ومقاومون رسموا بتضحياتهم الحدود الأبديّة لجزائر اليوم والغد، تحرسها الأجيال المتعاقبة التي تغذّت من الكفاح البطولي للأجداد، وسجلّ ناصع من الكفاح من أجل الحريّة والعدالة والتقدّم.


الحلقة الثالثة والأخيرة