طباعة هذه الصفحة

يعاني التشـتت بالحاضنة اللّغوية العربيّة

«المصطلح العلمي».. ذلك المشكل

دكتور: محمد كاديك

أثار الدكتور عبد المالك بلخيري إشكالية «المصطلح وأسئلة التّواصل المعرفي»، في ندوة افتراضيّة على منصّة Zoom، عقدها صالون الدّكتورة شادية شقروش للأدب والمقاربات النّقديّة، ولقد اقترح ثلاث مقاربات لمعالجة سؤال المصطلح، أولها مقاربة نظريّة، وهذه تتعلّق بـ»المنهج»، وتطرح عددا من الأسئلة حول ماهية «المصطلحيّة» وطبيعتها، وكيفيّة قراءة «المصطلح» في ذاته، أمّا المقاربة الثّانية فهي متعلّقة بالمنجز الذي تحقّق للثّقافة العربيّة، بينما تتعلق الثّالثة بمساءلة المنظومة المصطلحيّة العربيّة ومدى قدرتها على الإنتاج العلمي.
ينبغي ـ في البداية ـ أن ننوّه بالحركيّة المعرفيّة الثقافيّة التي أحدثتها النّدوات والملتقيات الافتراضيّة، ومنها ندوات «المنتدى الثّقافي الجزائري» الذي يسيّره الدكتور عبد الله العشّي والدكتور عبد القادر فيدوح، و»منتدى جسور التّواصل الثّقافي» الذي يسيّره الدكتور شريف مريبعي والدكتور عبد الحميد بورايو، و»صالون الدكتورة شادية شقروش للأدب والمقاربات النّقديّة»، الذي تسيّره الدكتورة شادية شقروش، وتديره الدكتورة رحمة الله أوريسي، وقد طرح ـ منذ تأسيسه - إشكاليّات تنوّعت بما يوافق حقول الدّراسات النّقدية والأدبيّة، منها: «تطوّر الدّرس البنوي والسّيميائي للقصة الشّعبية» مع الدكتور عبد الحمبد بورايو، و»المقاربة الأنثروبولوجية للقصّ الدّيني» مع الدكتورة زاهية جويرو، إضافة إلى «الأسلوبيّة الاحصائيّة العربيّة»مع الدكتور مصلح النجار، وندوات أخرى كثيرة كانت لها فوائدها العميمة، بحكم أنها تجمع الدّارسين الأكاديميين والطلبة من مختلف قارّات العالم، كما هي حال «المنتدى الثقافي» و»منتدى جسور التواصل»..

إشكالية المصطلح..
ولقد عرض الدكتور عبد المالك بلخيري الإجراءات المنهجيّة التي تعالج «المصطلح» وفق مختلف المقاربات التي قدّم لها، وقال إنّ الطرح الفلسفي مقتضاه البحث في التّحول الذي شهدته اللّغة، وهو ما ينتهي إلى معالجة اللغة من جانبها الصّوري، ونجده في التّداولية المنطقية أو التّداوليّة الصّورية، وأشار إلى أن الباحثين حاولوا تجاوز الجانب الوظيفي أو التواصلي الذي تحقّقه أو تنجزه اللغة داخل السّياق. وهو ما يعني أن السّؤال الذي تبنته الفلسفة في مجالها التّداولي، يركّز على ما تُحقق اللّغة من منجز داخل السّياق، وأنّ البحث يسلّط الضوء على التّفاعل بين اللغة والسياق، في مقابل البحث الاصطلاحي (نظرية المصطلح) الذي يركّز على بناء المصطلح من خلال المفهوم، وهو ما كرّسته مدرسة فيينا التي عملت على إعادة الاعتبار للعلاقة بين التّسمية والمفهوم، أي استعادة العلاقة بين الفكر واللغة، وهي العلاقة الّتي تؤدي بالضرورة إلى استعادة الرابط بين السّياق واللّغة من جهة، وتضع العلاقة بين الفكر واللغة داخل السياق من جهة أخرى، ثم تعرّض الدكتور بلخيري إلى المقاربة الثقافية، ومقاربة علم الاجتماع المعرفي، وقدّر أن المشكلة التي يطرحها «المصطلح» بالحاضنة اللغوية العربية، تتفرّع على مستويات مختلفة، بينها الإشكال المعرفي والإشكال التّواصلي، وأشار الدكتور بلخيري إلى التهاون في إعداد القواميس والمعاجم الخاصة بالمصطلحات، والتهاون في تأسيس أكاديميات تعنى بالمصطلح، وهذا نقص فادح لم تتمكّن المجامع اللّغوية العربيّة من تغطيته.

عصر التّيه..
ولقد أحسن الدكتور بلخيري حين ركّز على ارتباط المفهوم بالفكر، ذلك أنّ كل المجهودات التي تبذل من أجل التّوصل إلى جهاز اصطلاحي مضبوط يخصّ حقلا معرفيّا معيّنا، ستذهب هباء ما لم يتمّ التّمهيد لها على مستوى الفكر، ولقد وقفنا على هذه الحقيقة في أثناء دراستنا لإشكاليّات صناعة المصطلح القانونيّ، ضمن أشغال الملتقى الوطني: «المفردات القانونية: مصطلحات أصليّة وأخرى مقترضة»، الذي نظمه المجلس الإسلامي الأعلى، والمجلس الأعلى للغة العربية، وجامعة الجزائر 1.
ولم يكن «المصطلح» خارج دائرة الضوء أبدا، فالدّارسون جميعهم، لا يكفّون عن طرح المشكلات التي تواجههم في معالجة التّشتت الاصطلاحي الذي تعرفه الدّراسات العربيّة، فنحن نجد La Poétique التي استعملها أرسطو ـ على سبيل المثال ـ تقابل، في العربيّة، «الشّعرية» و»الشّاعرية» و»الإنشائية» و»نظرية الشّعر» و»فنّ الشّعر» و»فنّ النّظم» و»الفنّ الإبداعي» و»علم الأدب» وغير هذا ممّا يجترحه كلّ ناقد بما يوافق رؤيته، وإن كانت كلّ المقابِلات ـ كما أوضحنا في دراساتنا المتعلقة بالانتقال الأجناسي - تعبّر عن مقاربات اصطلاحيّة مختلفة لـ»البويطيقا»، ولكنّها - في معظمها - يعتورها خلل المفارقة التّاريخيّة، أو خلل المعطى اللّغوي، أو هما معا، فإذا سلّمنا ـ مثلا - أن سعيد علّوش قصد إلى أداء معنى «النّظريّة العامّة للأدب» حين اقترح «الشّاعرية» عوضا عن «الشّعرية»، ودعمه عبد الله الغذامي باعتبار اصطلاح «الشّاعرية» جامعٌ يصف اللّغة الأدبيّة في النّثر والشّعر معا، فإننا نعترض عليه - مع حسن ناظم - على المستوى اللّغوي، لأن لفظة «الشّاعرية» «ليس لها المؤهلات الكافية لتصف أو تشير إلى اللّغة الأدبيّة في الشّعر والنّثر، فـ»الشّاعرية» مشتقّة عن «شاعر» وبالتالي فهي ألصق بالشّعر، ولن تسلم من نفس الانتقاد الذي وجّهه الغذامي للفظة «الشّعرية» بما هي نافرة نحو الشّعر بحركة زئبقية، ولا تختلف الحال بالنسبة لـ»الإنشائيّة» التي استعملها عبد السّلام المسدّي، ولا للمقاربات الاصطلاحيّة الأخرى.
ولعلّ «بويطيقا» أرسطو تحمّلت عنّا شيئا كثيرا ممّا أردنا أن نصف من التشرذم الذي يعرفه المصطلح في الحاضنة اللّغوية العربية، فهذا نموذج ينسحب على جميع حقول المعرفة، لا يعفي حقلا منها، وهو ما يؤثر على الدّرس الأكاديمي تأثيرا مباشرا، ويلقي بجهود منيرة كثيرة إلى مهبّ الريح..

سؤال اللّغة..
ولن نعبّر عن أيّ تضخّم في مادة الفخر، إذا قلنا إنّ اللّغة العربية منحت، في عصورها الزّاهرة، قدراتها كاملة لمختلف الحقول المعرفيّة، ولقد تمكّنت من تطويع العلوم على اختلافها، وقدّمت الإضافات المفهوميّة التي ما تزال إلى يومنا هذا تتواتر عبر لغات مختلفة في أصلها العربي، مثلما هي الحال مع «الخوارزميات» (Algorithmes) و»الجبر» (Algèbre)، وملفوظات أخرى كثيرة سجّلها توما كورناي (Thomas Corneille) في «معجم المصطلحات الفنية والعلمية» منذ عام 1694م، ومارسيل دوفيك (Marcel Devic) في «المعجم الاشتقاقي للكلمات الفرنسية ذات الأصول الشرقيّة» عام 1876م، وصولا إلى جان بريفو (Jean Pruvost) الذي وضع كتابا تحدّث فيه عمّا «تدين به الفرنسيّة للعربيّة»، ووسم كتابه بعنوان: «أجدادنا العرب» (Nos Ancêtres les Arabes) عام 2017م، ولقد سجّل تأثير ابن سينا وابن رشد على نهضة أوروبا، ودورهما الرّائد في إعادة بعث الفلسفة، وبناء المشهد الحضاريّ الأوروبيّ من خلال قراءتهما للميتافيزيقا الأرسطيّة وأعمالهما في مختلف العلوم.
غير أنّ الفتوح العلمية المجيدة، لا ينبغي أن تلهينا عن واقعنا المعيش، فـ»المصطلح» في اللّغة العربيّة، أصبح قاصرا عن الإبانة، عاجزا عن احتواء المفاهيم و»تصوّرها كما هي» (بلغة ابن سينا)، وهذه حال تردّها رجاء الدويدري إلى «تسارع التقدّم العلميّ»، وما أنتج من «المصطلحات الجديدة التي دخلت ساحة المعرفة»، وإن لم يكن «التقدّم» علّة مناسبة - في تقديرنا - فهو سيرورة طبيعية في التّاريخ، وهذه سيرورة لا يمكنها أن تنتظر عودة الغائبين الذين اضطرّوا إلى المرور بدهليز طويل يصفه مالك بن نبي بـ»مرحلة ما بعد الموحّدين»، بما هي مرحلة تمأسست في أثنائها القطيعة بين «الفكر» و»الوسط الاجتماعي»، فحجبت»الأفكار» عن الوجود التّاريخي، وحصرتها في دائرة «الوجود الصّناعي».
الحاصل إذن، هو أن اللّغة لا تضيق بالمصطلح، ولكنّها لا تسلم من تأثيرات التّفاوت على المستوى الحضاري والمعرفيّ، وواقع الحال لا يختلف عمّا يقول به دوني ديدرو (Denis Diderot) الذي يعتبر أنّ «لغة الشّعب تمنح مفرداتها الوفيّة لمعارف هذا الشّعب»؛ وعلى هذا، نرى إشكالية الاصطلاح في اللّغة العربية، نتيجة طبيعيّة للواقع المعرفيّ، وانعكاسا لحالة فكريّة تتواصل فيها عدم فاعلية «انسان ما بعد الموحدين»، فـ»اللّغة العربيّة» لا تضيق بـ»المصطلح»، لأنّ طبيعة اللّغات النّموّ، وأن اللّغة العربية ـ كمثل كل اللّغات - تحتفظ بقدراتها على تطويع المعاني، والإحاطة بالمفاهيم.

من هنا نبدأ..
إذا كانت المقاربات التي طرحها الدكتور عبد المالك بلخيري للدّراسة والنقاش مهمّة وضرورية، ويجب الحرص على استيعابها، فإنّنا لا ينبغي أن نغفل على كونها مقاربات تأسست خارج منظومة التّفكير العربيّة، وأن صياغتها ـ بالتأكيد - كانت بلغات غير اللّغة العربيّة، ما يعني أن المصطلحات المعتمدة في الدّراسات التي تختصّ بالمصطلح، معرّضة لتكون ـ هي الأخرى - موضوع السّؤال الذي طرحته المحاضرة، لأنها يمكن أن تتشرذم وتتعدّد بتعدّد المترجمين والدّارسين، تماما مثلما هي الحال في بقية الحقول المعرفية؛ ولهذا، نثمّن ما ذهب إليه الدكتور بلخيري حين أشار إلى أصل المشكلة المعرفيّ، وهذا ما ينبغي التركيز عليه، فالمشكلة الرئيسية إنما يصطنعها الفراغ الفكريّ؛ ذلك أنّ «الفكر» هو المؤسّس لكل نشاط معرفيّ، ولا شكّ أن الإشكالية العضال التي تطرح أمام «المصطلح العربي» عموما، هي غموض الخلفيّات الفلسفيّة التي نشأت في أحضانها «المفاهيم المؤسّسة»، فـ»المصطلح» يعبّر عن «مفهوم»، والمفهوم لا وجود له خارج التّفكير على رأي إميل بنفينيست القائل: «إنّنا نستعمل اللغة لنقل «ما نريد قوله» أو «ما لدينا في أذهاننا» أو «تفكيرنا» أو اسما نعيّنه هو محتوى التّفكير».
وبما أنّ الحاضنة اللّغوية العربيّة لا تنتج اليوم «المفهوم»، فإنّنا لا يمكن أن نطمح إلى استحداث مصطلحيّة عربية خالصة، فهذا طموح تعترضه فجوات تاريخيّة هائلة وفراغات معتبرة، يكفينا في وصفها ما لاحظ محمد عابد الجابري على الدارسين وهم ينتقلون من «عصر التّدوين» بما هو علامة مرجعيّة فارقة في تاريخ الفكر العربيّ، إلى «عصر النّهضة» في القرن التاسع عشر، ليرسموا معالم فجوة تاريخية هائلة من الفراغ، وهو ما يتسبّب في تشتّت معرفي واضح، يصفه محمد أركون بأنّه أنتج قطيعتين مزدوجتين يعاني منهما «العرب» على مستوى الخلق والإبداع، أولاهما قياسا إلى الفترة المنتجة والتأسيسيّة من تراثهم يعتقدون أنهم يعرفونها، والثّانية قياسا إلى العقلانية الغربيّة التي ما تزال تتطلّب معرفة منهجيّة دقيقة مختلفة عن تلك المعرفة المشتّتة والنّاقصة.
وعلى هذا، تكون الضّرورة القصوى حاليا، متعلّقة بـ»توطين المفهوم» في الحاضنة اللّغوية العربيّة، وهذا مقتضاه الدّراسة الجادّة للخلفيّة الفلسفيّة التي يستند عليها المفهوم، والنّظريّات التي تؤطّره من جهة، ثم الإفادة من «التكامل المعرفي»، فقد أثبتت الدّراسات البينية (Recherches Interdisciplinaires) نجاعتها، وأظهرت أهميّة مبدأ تكامل العلوم وتداخلها، ما يعني أن الجهود يجب أن تركّز على استخلاص المفهوم واستيعابه استيعابا تامّا؛ ذلك أن المصطلح يظلّ عصيّا على اللّسان، إلى أن تستوعب اللّغة أسسه وخلفياته، فينبثق تلقائيا، حتى يبدو كأنه لم يبذل جهدا يذكر.