ديناميــة الفعـل الفلسفـي..

يسألونـك عـــن التّجربــة الإفريقيــــة..

كتب: محمد كاديك

 ما هي المهام التي تختصّ بها الفلسفة في إفريقيا؟! هذا سؤال طرح على الفيلسوف إيسياكا بورسبر لالايي (Issiaka-Prosper Lalèyê)، وهو أستاذ الفلسفة المتخصص في علم معرفة العلوم الإنسانية، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وكان – كما يتعارف الفلاسفة المعاصرون – من الأوائل الذين قاربوا مفهوم الفلسفة ظاهراتيا من أجل مقاربة مسألة «الفلسفة الإفريقية»، بل إنّه دعا في عام 1982 إلى تجاوز الأسطرة التي تهيمن على العلاقات بين «الفلسفة» و»تعاريفها»، ولعلّه تأثر في ذلك بالنّمساوي لودفيغ فيتغنشتاين الذي كان يرى الفلسفة «نشاطا» أكثر منها «عقيدة» أو «تعاليم»؛ ولهذا سعى لالايي إلى وصف هذا النشاط، عوضا عن السّعي إلى وضع تعريف جامع له، ولقد تمكّن من تحديد ثلاث سمات عامة لـ»الفلسفة»، أوّلها أنها نشاط فرديّ حرّ وواع، ذو طابع استطرادي، وليس مفهوميا خالصا، والثانية أنّها نشاط انعكاسي يتأسّس على العقل الذي يجعل التجربة الإنسانية في كليّتها، موضوعا له، أمّا السّمة الثالثة فهي أن «الفلسفة» نشاط يرمي إلى تحقيق الفضائل الأساسية في الحياة مثل «الحق» و»العدل»..


لعل يكون واضحا أن «أسطرة» العلاقة بين «الفلسفة وتعريفها»، له أثره السّلبي على طبيعة التلقي بالحاضنة الإفريقية عموما، والعربية خصوصا، ومثال ذلك استقرار فكرة «الكتابة» و»الحفظ» من أجل الإلمام بـ «المفاهيم الفلسفية»، وهذا ما استقرّ بدوره في اليونان القديمة، وردّه أفلاطون حين اعتبر أنّ «الحكمة لا تولد في الرّوح إلا بمخالطة الحكماء مباشرة، وهي مخالطة تمتلك القدرة على إلقاء محبّة الحقيقة في النّفوس (ولهذا، فإنّ) كتابة الفلسفة غير مجدية، ما دامت معارفها مرتبطة بكلمات بسيطة تنفذ إلى الرّوح وتستقرّ دون حاجة إلى ذاكرة مساعدة»، علما أنّ أفلاطون كان يحسن الكتابة والقراءة، وكان قادرا على الإقناع بالمشافهة والكتابة معا - كما يقول جان ماري بيرتراند – ومع هذا، كان يرى أنّ «الكتابة لا تمتلك آليّات الإقناع في حالة النّقاش الجدليّ، لأنها لا تتيح الكلمات المناسبة لوضعيّات النّقاش المختلفة (...) بل إنّ الكتب التي تستطيع المرور إلى المثقّفين على أنّها مجرّد مساعدات للذّاكرة - يضيف بيرتراند - ليست ذات قيمة كونها لا تقدم سوى ما هو معروف في التّعليم الشّفاهيّ».
ولا تنقص الأساطير التي تغلف علاقة الفلسفة بتعريفها، فالضّمير الشّعبي عندنا - على سبيل المثال - يحتفظ بكثير من «الحكايا» التي تجعل التعامل مع الفلسفة نوعا من «المروق» أو «التمرّد» على «الثوابت الاجتماعية»، بل إنّ هناك حكايات تتأسّس على فكرة مفادها أنّ «الجنون» أو «الدّروشة»، هو المصير المحتوم لكلّ من يتفلسف؛ وعلى هذا، نعتقد أن السؤال الذي عالجه إيسياكا لالايي غاية في الأهميّة بالنسبة للأفارقة جميعا، وأن حاجة الحاضنة العربية إلى معالجته ضرورية؛ ذلك أن الإشكالية المطروحة على حاضنتنا أكثر تعقيدا، بحكم أنّها أنتجت فلسفة راقية كانت مرتكزا صلبا لمسار تطوّر الفعل الفلسفي، ثم خرجت من التاريخ في أثناء ما يسميه مالك بن نبي «مرحلة ما بعد الموحدين»، لتعود في القرن التاسع عشر مع ما يسمى اليوم «عصر النهضة»، بتراث فلسفي عظيم، لا يجد وسيلة إلى تحقيق ديناميته على أرض الواقع.
عتبات المساءلة..
سجّل إيسياكا لالايي أنّ مساءلة «الفلسفة» عن مهامها، يستدعي بالضّرورة ثلاث ملاحظات أساسية لا ينبغي تفويتها، تتعلّق أوّلها بطبيعة الطبقة التي تهتم بهذا النّشاط، فهذه يمثلها أولئك المنتمين إلى «المدرسة» بمعناها الواسع، أو أولئك الذين قضوا زمنا معتبرا في أروقة المدارس، وهؤلاء تتوقف كفاءتهم في الفعل الفلسفي عند حدود «التّلقي من الخارج»، ومعارفهم – في الغالب – مستقاة من المدرسة الغربية، وهو ما يعني أن الفيلسوف الإفريقي المعاصر، وإن أظهر اهتمامه بالفكر التقليدي الإفريقي، وتحصّل على لقب «فيلسوف إثني»، فإنه لا يحظى بكبير اهتمام، ولا حتى بأن يُغبط لأجل لقبه الأثير، بحكم أن تكوينه غربي خالص، بينما يسجّل لالايي في الملاحظة الأساسية الثانية، أن كثيرا من الفلاسفة المحترفين، يقدّمون أعمالهم، ومجال تخصّصهم، على أنّهما متجاوزان للزمن، وأنّ «الحقائق» التي يقدّمونها صالحة، مهما يكن المجتمع الذي ينتمي إليه الفيلسوف، خاصة وأنّ هناك في الفلاسفة الغربيين من يتطلّعون إلى العالمية أو الكونية التي لا تختلف كثيرا عمّا يطالب به «المنطق» و»الرياضيات».
أما الملاحظة الثالثة التي لا ينبغي تفويتها، فهي متعلّقة بـ «علم اجتماع المعرفة» الذي سلّط الضوء - انطلاقا من أعمال كارل ماركس - على العلاقات المتينة التي تربط كلّ المنتج الفكري، بمنتجيه، وبالطبقات الاجتماعية التي ينتمون إليها؛ وعليه - يقول لالايي - نكون ملزمين بإدراك طابع الطبقات الاجتماعية العابر للحدود، ومسؤوليته عن إنتاج قدر معيّن من المعارف، بينها – بطبيعة الحال – العلم والفلسفة جنبا إلى جنب؛ ولهذا – يؤكد الفيلسوف السينغالي – ينبغي الحذر من الوقوع في مغالطة «تشابه الفعل الفلسفي» عبر جميع أنحاء العالم، بحكم شموليته المعلنة.
واقع الاشتغال الفلسفي..
بناءً على ما سبق، يرى لالايي أن السّمة المميّزة للمجتمعات والثقافات الإفريقية، هي الجمع بين «تراث الأجداد» و»الحداثة» التي يبقى جانب واسع منها مستوردا؛ ولهذا يدعو إلى إشراك الفلسفة في تحليل سؤال «المثاقفة» والآثار الرئيسية التي تنجم عنها، خاصة وأن أشكال التفكير الأخرى، مثل «الرّواية» و»المسرح» و»الأعمال الصّحفية»، اقتحمت هذا المجال، وعالجته وفق رؤى مختلفة، وهذا يمنح الأهميّة القصوى للتساؤل حول المهام التي يمكن تخصيصها لـ «الفكر الفلسفي»، وواضح أن الفيلسوف الإفريقي المعاصر يسهم في واقعه الثقافي المعيش، ويتواصل مع فلاسفة آخرين متجذّرين، هم الآخرين، في ثقافاتهم المختلفة، ويكون خطأ ذريعا الاعتقاد بأن مساءلة خطاب الفيلسوف الإفريقي أو استيعابه، تكون من خلال إخضاعه إلى المعايير العالمية، قبل أن يستوعبه مواطنوه الذين يقاسمونه الواقع الثقافي نفسه، ليكون الأمر كما تصوّره كارل ماركس حين قال: «ليس وعي الناس هو ما يحدّد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم»، وبناء على هذا، تتحدّد حصافة السؤال وفعاليته في الواقع من خلال النظر في جدوى الخطاب الفلسفي على المستوى المحلّي، والنظر فيما يمكن أن يضيف هذا الخطاب إلى محيط الفيلسوف.
في هذا الوضع المتناقض بوضوح، بين الحاجة المحليّة والهيمنة العالمية، يتمكّن الفيلسوف من تحديد المهام التي ينبغي أن يضطلع بها المتفلسف في إفريقيا، وهذه يرى لالايي أنها، في مجملها، ثلاث مهامّ:
المهمّة الأولى، هي القراءة الشاملة، تفسيرية ونقدية، للواقع المحلّي ومتغيراته التّاريخية.
الثانية، هي المشاركة في معركة لا ينبغي أن يخوضها الفيلسوف الإفريقي بمفرده، إذ لا يمكنه أن يتصوّر بأنّه مضطرّ إلى التّعامل مع الفلاسفة وحدهم؛ ولهذا يجب أن يسعى كي يكون خطابه واضحا، يستوعبه الآخرون ممّن لا يشتغلون بالفلسفة، ولكنه قبل هذا، يجب أن يسعى، هو الآخر، إلى فهم مواطنيه، واستيعاب انشغالاتهم، حتى يتمكن من التعاون معهم.
أمّا المهمّة الثالثة، فتتمثل في أن يربط الفيلسوف بين النمط الفلسفي للفكر الذي سيخدمه بما هو أداة مساءلة للحقائق الآنية، وبين تداعيات هذا النشاط الفكري، من خلال استقراء الإكراهات الممكنة، والنّظر في عواقبها الأكثر عمقا.
ونرى بأنّ المهام التي حدّدها لالايي كي يضطلع بها الفيلسوف، هي ما يمكن أن يؤسّس فعلا لـ «النشاط الفلسفي» بالحاضنتين الإفريقية والعربية، بل يحدّد له منطلقاته التي لا يجب أن تكون بالضرورة نفس المنطلقات التي يتأسّس عليها بالحاضنة الغربية، بسبب الاختلافات الجذرية في طبيعة المسارين التاريخيين (الإفريقي والغربي)، ما يعني أن أوّل خطوة تقتضي الوعي بهذه الفوارق الجوهرية على جميع المستويات، من أجل طرح الأسئلة التي تتّسق مع الحاجة إلى تجاوز الإشكاليات الواقعية التي يطرحها المحيط المعيش، بعيدا عن التهويم في أسئلة لا تضيف شيئا إلى المجتمع المحلي.
واقع الحال..
ولا نعتقد أنّنا في حاجة إلى توضيح المشكلة المهيمنة على واقع الدّراسات الإنسانية في مجملها، والنشاط الفلسفي والنّقدي بصفة خاصة، بالحاضنة العربية؛ إذ يمكن أن نلاحظ بسهولة أنّ الفلاسفة الأفارقة، أدركوا أن النشاط الفكري ينبغي أن يركّز على «المحلّي»، دون أن يهمل ما توصّل إليه العالم، بينما تفرّق العرب المشتغلون بالفكر، بين من يعتقد أن تفكيك الإشكاليات الآنية يقتضي «المطابقة « مع نفس الإجراءات التي اتّخذها فلاسفة الغرب، ومن يرى أن تفكيكها لا يمكن أن يمرّ إلا عبر استحضار نموذجنا الحضاري التاريخي، وهذا ما اصطنع المفارقات في الخطاب العام، ليصبح النّشاط الفكريّ رهينة بين «حداثويين» لا يدركون طبيعة مجتمعاتهم وثوابتها، و»سلفويين» لا يهتمون بإكراهات المسار العام للتاريخ ومتغيّراته.
ولقد سبق وتحدّثنا، في مقال سابق نشرناه بجريدة «الشعب»، عن «الجهد الفلسفي العربي»، وتساءلنا عن طبيعة «السّؤال» المنتج لـ «الأوهام»، كما سبق وتحدّثنا عن إشكاليات عضال تجثم على الدّراسات الإنسانية العربية، منها «غموض المفاهيم» و»تشرذم المصطلحات»، و»المكانة الدونية» المخصّصة لهذه العلوم بحاضنتنا التي لم تستوعب بعد أهمية هذه العلوم، وأدوارها الفاصلة في تحديد شكل الحياة.. هذا الواقع لم ينتجه العدم، وإنّما يعود إلى سيرورة تاريخية فرضت إكراهاتها على الواقع، فلا سمحت بالاستفادة من التراث، ولا منحت ما يكفل الإلمام بالمعارف، ولا نشكّ بأن هذا الوضع يعود إلى «صدمة» تاريخية ينبغي الحرص على تفكيكها من أجل تجاوزها، ونرى أنّ الفلاسفة الأفارقة عرفوا كيف يعودون إلى مساءلة واقعهم المعيش، تماما مثلما وصف لالايي، فالأصل في العمل الفلسفي هو استيعاب الانشغالات المحلية، ومساءلة الحقائق الآنية، والقراءة العميقة لكل ما من شأنه أن يحتفظ بالخصوصية، دون إهمال ما يتوصّل إليه العالم من حقائق، بعيدا عن الاكتفاء بـ «المطابقة»، فـ «التاريخ» كما قلنا دائما، لا يعيد نفسه..

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024