الكَشّافة الإسلامية الجزائرية

في طليعة الثورة التحريرية 1954 ــ 1962

أ. فوزي مصمودي، باحث في التاريخ مدير المجاهدين لولاية الوادي

حَمَل بيان أول نوفمبر 1954 بين طيّاته دعوة صريحة لكل الأحزاب والحركات والمنظمات والأشخاص إلى مباركة هذه الوثيقة، التي تعدّ أولى الوثائق التي تصدرها جبهة التحرير الوطني، والانضمام إليها دون أي اعتبار؛ لذلك وعقب اندلاع الثورة المجيدة وجّهت قيادتها نداء إلى جميع هذه الكيانات السياسية والمنظمات الجماهيرية لالتحاق بهذه الملحمة والانصهار الكلي في بوتقتها، على أن يكون الانخراط بصفة فردية وليس كتنظيمات مستقلة.

بمخيم سيدي فرج تَحَدَّد خيار الثورة:

ومن هذه المنظمات، الكشافة الإسلامية الجزائرية بمختلف توجّهاتها وعناوينها وقياداتها، وهذا الذي ذكره القائد الكشفي محمد واعمر في شهادته الحية التي قام بنشرها الدكتور أبو عمران الشيخ والأستاذ محمد جيجلي في كتابهما (الكشافة الإسلامية الجزائرية 1935-1955)، ص 399 - 401، الذي أكّد أنّه “ في  ديسمبر 1954 بالضبط، ولم تكن قد مرّت سوى بضعة أسابيع فقط على اندلاع الثورة انعقدت جمعية عامة استثنائية هامة للكشافة الإسلامية في سيدي فرج، قررت خلالها هيئات الكشافة الجزائرية، بما فيها اللجنة المديرة، إلغاء كل النشاطات على غرار المخيمات والجولات والخرجات الليلية بسبب غياب الأمن والخطر السائدين والخوف من الاستفزازات التي لا مفرّ منها، التي يرتكبها الاستعمار وشرطته.
    أُعطيت الكلمة للرئيس سي محمد القشعي، الذي عرض علينا قائمة الحاضرين، وهم أعضاء اللجنة المديرة: الأخ الطاهر التجيني القائد العام، ونائبه الشيخ بوعمران، الشيخ عبد الصمد بولنوار، الشيخ محمد الغسيري، والشيخ الحفناوي، وكلاهما مرشد في الكشافة وعضو في جمعية العلماء المسلمين بشارع بومباي بمدينة الجزائر، السيد صادق الفول، محمود بن محمود، الأستاذ جيجلي من قسنطينة، الأخ حمادة والأخ بوقندورة من سوق اهراس، الأخ إبراهيم مبروك من فرندة، المسؤول العام للخزينة الأخ قاصد علي من مليانة، وجميع القادة المحليين والمندوبين الجزائريين المتواجدين بفرنسا.
   وبعد عرض جدول الأعمال قرأ علينا رسالة مستعجلة وهامة أُرسلت إلينا من قِبل إخواننا في جبهة التحرير الوطني، أي من مسؤولي ثورة أول نوفمبر، ونصّت على: “الأخ أوعمران المدعو (بوقروي) يدعو حركات الشبيبة أن تلتحق بصفوف المنظمة الثورية، لكن بصفة فردية وليس باسم الجمعية الكشفية”.   
بعدها تناول الطاهر التجيني الكلمة ــ وكان آنذاك أستاذا في ثانوية (Guillemin) ــ وكرّر النداء مركّزا على الصفة الفردية لانضمام كل واحد منا، حتى لا يتضرر مسؤولو جمعية الكشافة المسلمين الجزائريين.. إن إخواننا في جبهة التحرير الوطني في حاجة إلى مشاركتكم في الكفاح التحريري للجزائر الأرض الخالدة للرجال العدول”.
 ثم أعطى الرئيس محمد القشعي الكلمة للشيخ الحفناوي المرشد الديني (اعتقل وسُجن في وقت لاحق من طرف اليد الحمراء La Main rouge في نهاية 1956 بمقر جمعية العلماء بالجزائر العاصمة)، الذي عقّب بهذه العبارات: “الكشافة التي يعود تاريخها إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لعبت دورا كبيرا في ميادين الوغى الإسلامية، إخلاصها وتضحياتها كانت كبيرة، وهذا ما دفع بَادَن باول (Baden Powell) أن يستلهم مشروعه من منظمة الرسول محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ، فيما يخص الربط والاتصالات من مخيم إلى آخر بعزم”. وهكذا كان الكشاف بمثابة طليعة ومؤطر للجيش، وإذا وجّه لنا إخواننا المجاهدون النداء، علينا أن نُجيب بـ: (حاضر)، لأن غايتنا هي “الموت أو العيش رجالا مستقلين، هذا هو شعارنا”.
 واختتم الشيخ الحفناوي خطابه قائلا: “إخواني لا تظنوا أن الاستعمار سيبقى مكتوف الأيدي، سوف يحرق بيوتنا ويقتل نساءنا وأطفالنا، وسيحاول إبادتنا، لكن سننتصر، لأن يد الله فوق النفوس الشريرة حتى ولو كان هذا آخر لقاء يجمعنا. رغم ذلك ثِقوا في الله لأن الله لا ينسى أبدا تضحيات الرجال الذين يكافحون ضد الظلم، لأن الذين سيعيشون سيقولون: “سلاما على شهدائنا”، لذا أُطلبوا الموت كي تأتيكم الحياة. الجمعية تأثرت لهذا الخطاب”.
   اختتم الأخ القشعي هذه الجمعية مركّزا على خطورة الوضع، داعيا مرة أخرى كل واحد منّا لتحمل مسؤولياته شخصيا، لأن ساعة الخيار قد حانت، فالحدث الذي نعيشه كبيرا وكل كشّاف وانطلاقا من التربية التي تلقاها عليه أن يقوم بواجبه: “الموت شهيدا أو الحياة في ظل الكرامة والشرف”. وقد رُفعت الجلسة بترديد نشيد (من جبالنا) بعد سبعة أيام من المناقشات. لقد كانت آخر جمعية عقدناها في ديسمبر 1954”.

الكشافة في ركب ملحمة نوفمبر 1954:
استجابة لنداء قيادة الثورة، فقد أعلنت الكشافة الإسلامية الجزائرية عن حلّ نفسها والانخراط في غمار الثورة التحريرية والالتحاق بصفوفها، سواء بجناحها المسلح ممثلا في جيش التحرير الوطني، أو بجناحها السياسي المدني ممثلا في جبهة التحرير الوطني؛ السّند اللوجستي للثورة، من خلال نشاط أعضائها المدنيين؛ كرصد تحركات ضباط العدو وجنوده وأذنابه، وجمْع الاشتراكات والزكوات والتّبرّعات وتوزيع المناشير داخل المدن والمداشر وإيصال الرسائل والمعلومات، حيث تسابقت عديد العناصر الكشفية للالتحاق بكتائب المجاهدين، وقد برز منهم مسبلون وفدائيون قاموا بتنفيذ عمليات نوعية أصيب العدو الفرنسي من جرّائها بهستيريا أفقدته صوابه.
 وتخصص الكثير منهم في إعداد وصنع المتفجرات اليدوية بكل أنواعها، ــ حسب شهادة الكشاف القائد محند واعمر ــ إلى جانب استعمال مقرات الأفواج الكشفية التي حُلت إلى ملاذ للمبحوث عنهم من الفدائيين، وكملاجئ ومستشفيات سرية ومخابئ للذخيرة الحية والأسلحة والأدوية، خاصة في البدايات الأولى للثورة وقبل أن تعتبر الإدارة العسكرية الفرنسية الكشافة الإسلامية (حركة إرهابية تابعة للمسلحين الجزائريين) ــ حسب تعبيرها ــ.
  بمقابل ذلك، وجدت قيادة الثورة في الكشافين رصيدا هائلا من الشباب المستعدين لخوض غمار العمل المسلح، وعناصر واعية ومدركة لطبيعة المرحلة ولدورها الطلائعي، والمدرّبة تدريبا منظما والقادرة على حمل السلاح واستعماله بكل سهولة، وتحمّل الصعاب والمشاق في مقارعة الغزاة المعتدين، وقد أيقنت هذه القيادة الفتية بضرورة الاستعانة بخبرة كثير من القادة الكشفيين في مجال التدريب العسكري.
لذلك وجدنا الطلائع الأولى من إطارات ومناضلي وقادة الكشافة الإسلامية يلبّون نداء الواجب الوطني ويكونون في مقدمة المجاهدين.. شبابٌ آمنوا بعدالة قضيتهم وأدركوا أن العمل السياسي والنضال السلمي قد وصل إلى مرحلته النهائية، وأنه لابد من الولوج إلى المرحلة الثانية من النضال، وذلك بانتهاج الخيار العسكري والعمل المسلح لاسترجاع ما أُخذ بالقوة، وبذلك تدعّمت الثورة بكفاءات شبانية مدرّبة تتمتع بروح الانضباط والنظام والإخلاص للوطن، وتلبية جميع الأوامر الثورية التي تتلقاها، وعدم الرجوع إلى الوراء، والاستعداد الدائم للتضحية والفداء في سبيل ما آمنت به؛ منطلقين من المبادئ الأساسية التي ارتكزت عليها الحركة الكشفية منذ تأسيسها بصفة رسمية عام 1936 على يد القائد الرمز محمد بوراس الذي استشهد في 27 ماي 1941.
خاصة وكما هو معلوم أن 18عضوا من أعضاء مجموعة الــ 22 كانوا كشافين  ــ حسب ما يرويه عميد الكشافة الإسلامية الجزائرية رضا بسطنجي رحمه الله في شهادة حية له ــ ومن هؤلاء الشهداء: محمد العربي بن مهيدي، الذي كان قائدا للفتيان في (فوج الرجاء) ببسكرة، كما كان له دور فعال في تأسيس أول فوج كشفي بمدينة الوادي عام 1947، وهو (فوج الرمال) إلى جانب نخبة من الكشافين من أبناء وادي سوف أثناء الزيارة التي قادته إلى المنطقة في ذات السنة، والشهيد ديدوش مراد الذي أنشأ عام 1947 (فوج الأمل) للكشافة الإسلامية بالمرادية بالعاصمة، والذي ترأّسه القائد ذبّيح الشريف. والقائد الكشاف إلياس دريش صاحب البيت الذي اجتمعت فيه مجموعة الـ 22 التاريخية، والشهداء: أحمد زبانة، باجي مختار، سويداني بوجمعة، زيغود يوسف، الأرقط الكيلاني، علي بن مستور، عواطي مصطفى، سي الحواس، حسيبة بن بوعلي، مريم باج، محمد بوقرة، عبد الحق قويسم... وغيرهم من القادة والرموز والشهداء...
وضمن هذا السياق، أكد القائد العام لقدماء الكشافة الإسلامية السيد مصطفى سعدون، في شهادة حية موثقة قامت بنشرها وكالة الأنباء الجزائرية بتاريخ 24 جوان 2011، أن أعضاء من الكشافة الإسلامية الجزائرية لعبوا دورا كبيرا في تحضير وتنظيم لقاء مجموعة الـ22 التاريخية، الذي انعقد في 24 جوان 1954 بمنزل الكشّاف إلياس درّيش، قبيل اندلاع الثورة بأربعة أشهر.
 كما ساهم قادة الأفواج الكشفية في تدريب عديد جنود جيش التحرير الوطني، منطلقين من رصيدهم التدريبي في هذا الميدان قبل اندلاع الثورة، من خلال خرجاتهم ودورياتهم ومخيماتهم التي كانوا ينظمونها في الجبال والوهاد والصحاري وحول الوديان.. ضمن تدريب شبه عسكري.
وفي مجال التمريض استفادت الوحدات الصحية والمستشفيات التي أقامها جيش التحرير الوطني في كهوف الجبال والمغارات من خبرات العناصر الكشفية في ميدان التمريض والتطبيب والإسعافات الأولية، كما باشروا في عملية التكوين في مجال التمريض لعديد المجاهدين.
 
الكشافة الإسلامية والتعريف بالقضية الجزائرية في الخارج:
وقصد التعريف بالمسألة الجزائرية وتنوير الرأي العام العالمي بحقيقة ما يجري في الجزائر من ثورة عادلة يقودها شعب آمن بحريته وقرّر استرجاع سيادته الوطنية، ضد احتلال استيطاني، والتصدي إعلاميا لأكاذيب وافتراءات وسائل إعلام العدو، وإبراز حجم الدمار والجرائم التي كان يرتكبها الجيش الفرنسي وكافة أسلاك أمنه بصفة مقنّنة ومنظمة، فقد كان للكشافة الإسلامية الجزائرية دور متميز في هذا المجال، من خلال:
مشاركتها في المؤتمر العربي الرابع للكشافة العربية المنعقد عام 1957 بالمغرب الأقصى، حيث شارك فيه نحو 600 كشاف جزائري، وتم تنظيم مسابقات بين المخيمات، وكانت الجائزة الأولى لأحسن مخيّم من نصيب الجزائر تدعيما لثورتها المسلحة، علما أن بالمغرب الأقصى كانت توجد أفواج كشفية منخرطة في جمعية الكشافة الإسلامية الجزائرية منذ 1948، وبعد اندلاع الثورة فتحت هذه الأفواج مقراتها بالمدن والقرى المغربية على طول الحدود لاستقبال وتأطير أبناء اللاجئين الجزائريين.
وفي تقرير للكشاف القائد رابح جابة حول الحركة الكشفية الجزائرية ذكر أنّ في صائفة 1957 شارك عدد من الطلبة الجزائريين في مخيم صيفي أقامته الكشافة التونسية بمنطقة (الوطن القبلي)، وفي ذات التقرير أكد أن الكشّاف أيوب سماوي شارك في دراسة (الشارة الخشبية) بألمانيا في مارس 1958، والثاني بتونس شارك فيه رابح جابة..
وبعد تأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة في 19 سبتمبر 1958 تم إنشاء لجنة عليا للشباب والكشافة، التي شرعت في تكوين أفواج بكل أقسامها (جوّاله، كشافة، فتيان وفتيات..) خاصة بتونس، قصد تحضيرهم لمرحلة (الجزائر المستقلة)، وكان ضمن هذه اللجنة الكشّافون القادة: أيوب اسماوي، رابح جابة، محمد الصغير لبزة (العلمي)، صالح اسماوي..
كما قام وفدٌ من الكشافة الإسلامية بزيارة عديد الدول المساندة للجزائر ولثورتها، على غرار: الصين، تشيكوسلوفاكيا، الاتحاد السوفياتي.. وهذا في ربيع عام 1960، وكان لأعضاء الوفد الكشفي الجزائري لقاءات عملية وتنسيقية مع القيادات الكشفية والطلابية في هذه البلدان الصديقة.
 ومن العمليات التي وجدت صدى إعلاميا باهرا على المستوى العربي والدولي، قيام الجوّال رابح جابة والجوّال أيوب اسماوي بجولة سيرا على الأقدام انطلاقا من تونس إلى القاهرة مرورا بليبيا، وهما يرفعان رايتين وطنيتين عام 1960.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19432

العدد 19432

الأربعاء 27 مارس 2024
العدد 19431

العدد 19431

الثلاثاء 26 مارس 2024
العدد 19430

العدد 19430

الإثنين 25 مارس 2024
العدد 19429

العدد 19429

الأحد 24 مارس 2024