طباعة هذه الصفحة

المشرق والمغـرب

مــن الأحــلام إلــى الكوابيــس

بقلم: دكتور محيي الدين عميمور

لا بد من الاعتراف بوجود حجم كبير من الحساسيات المرضية، ربما أكّدتها المراسلات بين التونسيين أبي القاسم الشابي ومحمد الحليوي، والتي يرى البعض أن النظرة الدونية تنازعت فيها مع الإحساس بالتفوق، وهي قد تصل إلى حد البارانويا عندما نقرأ للحليوي بأنه: “لاشك أنّ مصر ستردمنا بكتبها ومجلاتها، فلا نعود نجد فيه مكانا نتنفّس فيه الهواء أو يدخل لنا النور”.
وهنا نجد أنّ من أطرف التّعبيرات الدالة على الوضع، ما رواه الأستاذ السوري طيب تيزيني من أنّ البعض يرى بأنّ ما يُقرّب بين المشرق والمغرب إنما يقوم على ما يُباعد بين المشرق والمغرب.
لكن هناك من توقّفوا عند التّأثيرات المتبادلة لفلاسفة المشرق والمغرب، والكشف عن المؤثّرات المشرقية في فكر المغرب العربي، من خلال النقد الذي وجهه إبن رشد للفارابي، وقد مجّد بعض مفكّرينا ابن رشد، مؤكّدين ما قاله عنه أعلام النهضة الأوروبية: “لئن استطاع أرسطو أن يُفسّر الطّبيعة وما وراءها، فالذي فسّر أرسطو إنما هو ابن رشد”.
وبدون أن أعود للغط الذي ثار حول فيلم يوسف شاهين عن ابن رشد، والذي يُشكّل نقطة خلاف بين كثير من المثقّفين، أجد نفسي مضطرا للتحفظ النّسبي على ما قيل من أنّ الخلفيتين الأساسيتين المتحكّمتين في الثقافة المعاصرة هما المورد الأنغلوساكسوني بالنسبة للمشرق العربي والمرجعية الفرنسية بالنسبة للمغرب العربي.
فبالنسبة للمشرق العربي، نجد أن المرجعية الفكرية بالنسبة لأكبر بلاده، وهي مصر، هي الفرنسية، حيث تأثّرت بالحملة الفرنسية لا بالاحتلال البريطاني، وتمحورت حول المرجعية الفرنسية منذ كتاب رفاعة الطهطاوي “الإبريز في وصف باريز”، وهو ما أخذ صورة أكثر عمقا مع طه حسين الذي لم يتأثر بأي مرجعية أنغلوساكسونية، وإلى حد ما مع توفيق الحكيم.
وسنجد في مصر شارع الموسكي
(La mosquée) وحي بولاق (Beau lac)، بل سنجد لعبة للأطفال تسمّى “كلّو باميا” وأصلها منقول عن لعبة للأطفال من أبناء الجالية الفرنسية في مصر تقول
“Qui est le premier”.
أما بالنسبة للمغرب العربي، وللجزائر تحديدا، فالنخبة التي اعتمدت المرجعية الفرنسية ظلّت دائما محدودة التأثير الفكري على الساحة الشعبية الوطنية، وإن كانت السياسة أعطتها أحيانا أكبر من حجمها الحقيقي، ويكفي مثالا لذلك التعبير المتميز الذي روي عن المرحوم مالك حداد، حيث قال: “الفرنسية هي منفاي”، وهو ما يفرض علينا أن نفرق بين الوجود الثقافي وهو محدود التأثير، والوجود الإداري وهو كاسح، وبدون أن ننسى أن انطلاقة الحركة الوطنية الجزائرية في العصر الحديث بتكوين حركة نجم شمال إفريقيا نشأت في أحضان الحزب الشيوعي الفرنسي في باريس عام 1926، وأن بيان أول نوفمبر 1954 كتب أساسا باللغة الفرنسية.
والجدل متواصل حول ما إذا كان ما يُكتب بالفرنسية يُمكن أن يعتبر تعبيرا عن الجزائر مقدما بلغة غير عربية أم أنه صورة أدبية تعبر عن واقع مرحلي جاء به الاستعمار، انزلقت فيه الفرانكوفونية بعد استرجاع الاستقلال إلى فرانكوفيلية ثم إلى فرانكومانية لتكون بشكل عام تعبيرا عن الأرابوفوبيا
(arabophobie) أي كره العربية، وهو ما عرفناه مؤخرا من بعض الكتبة بالفرنسية، وهو ما يندرج في إطار زرع الكراهية بين المغرب العربي والمشرق العربي، وإلى درجة أن بعضهم أصبح يقول لنا، ونحن ننادي بالتعريب: اذهبوا إلى بلادكم...إلى السعودية..
وسنجد هنا أنّ حجما كبير من المبالغة يرتبط بالترويج الغربي الحالي للكتابات المغاربية باللغة الفرنسية، والذي تسهر عليه بضراوة وسائل الإعلام الفرنسية ومن وراءها، بما يبدو أحيانا على أنه اتجاه فكري استعماري لاستحداث “حصان طروادة” من نوع مبتكر، وهو للأمانة ما لم نعرفه مع المثقفين الجزائريين باللغة الفرنسية خلال الحكم الاستعماري، والذين نجد في طليعتهم مالك حداد ومحمد ديب، والسياسيين من أمثال عباس فرحات وبن يوسف بن خدة..
ولعل هذا ناتج عن حساسية البعض لما فهم من حكم محمد عابد الجابري بوجود قطيعة معرفية بين الفكر الفلسفي المغربي والفكر الفلسفي المشرقي، حيث أنهم يرون في هذا الحكم رأيا منسجما مع اتجاهات عرقية ترى أن أقطار المغرب العربي محكومة بإثنيات غير عربية، وأن آفاقها موصولة بفضاء الفكر الأوروبي، وهو، للأمانة، ما لا تذكره نصوص الجابري المعروفة.
لكن معظم المثقّفين الوطنيين المؤثّرين على الساحة الجزائرية لم يعرف عنهم انتماءٌ للثقافة الفرنسية، سواء تعلق الأمر بالإمام عبد الحميد بن باديس أو بتلاميذه من بعده، أو بالمعاصرين من الأدباء والكتاب ومن بينهم عبد الله ركيبي وزهور ونيسي وبلقاسم سعد الله وعبد الله شريط وأبو العيد دودو وطاهر وطار وأحلام مستغانمي والعبد لله، وظل التعامل بالفرنسية أداء نخبويا مغلقا ضاعف من عزلته أن معظم المثقفين بالفرنسية لا يقرءون ما يكتب بالعربية، بعكس العديد من المثقفين باللغة العربية، سواء كانوا من خريجي المشرق العربي أو ممن لم يعرفوا إلا معاهد المغرب العربي.
هذا لا يمنع وجود آثار في الشارع تصنع الفرق مع المشرق العربي، فليلة بيضاء في المشرق معناها ليلة جميلة، أما في الجزائر فهي ليلة ليلاء (Une nuit blanche) وهو نتيجة قرن وثلت من التأثير الفرنسي.
وسنلاحظ هنا أمرا أحب أن أتوقّف عنده للحظات، وهو استعمال بعضنا لتعبير: الحضارة العربية، أو الحضارة الإسلامية، في حين أن حضارة العرب ارتبطت أساسا بالإسلام، وكل العلماء المسلمين من غير العرب كتبوا بالعربية، وفي مقدمتهم ابن سينا، وألاحظ هنا أن المغرب العربي يرى في العروبة والإسلام وجهان لعملة واحدة، وهو ما لا يعرفه المشرق، وأراه سببا في العديد من الانزلاقات الوطنية.
وهنا ندرك الأهمية الاستراتيجية لحديث الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي قال بأن العربية هي اللسان، نازعا منها كل صفة عرقية، ومؤكّدا بذلك ضمنيا أنّ العرق والسلالة هي ممّا تختص به الحيوانات، فهذا حصان عربي أو قط سيامي وذاك كلب ألماني أو فيل هندي أو أسد إفريقي وهلم جرا.
لكن هناك أمرا كان له دور كبير في تعميق الروابط بين المشرق والمغرب وهو الديار المقدسة، التي كان جل المفكّرين في المغرب العربي حريصين على زيارتها، وحملهم ذلك بالتالي على زيارة أقطار مشرقية أخرى، وبخاصة بلاد الشام، خصوصا إثر انتقال الحركة العلمية من بغداد إلى دمشق نتيجة للتخريب التتري الذي أصاب الأولى، وسنجد من بين من عرفتهم دمشق في القرن الثالث عشر الميلادي أبا عبد الله اللواتي، الذي عُرف بابن بطوطة، كما عرفت مصر قبل ذلك، في القرن الحادي عشر، الرحالة إبن جبير الأندلسي.
والطريف هنا هو أن نلاحظ أن جل الأولياء والصالحين والمتصوّفة الذين عرفهم المشرق العربي قدموا من المغرب العربي، ولعل في طليعتهم الأمير عبد القادر بن محي الدين، الذي احتضنه في دمشق ضريح محي الدين بن العربي الأندلسي، قبل أن تنقل رفاته إلى العاصمة الجزائرية في 1966.
وسنجد في مصر أضرحة السادة أحمد البدوي في طنطا والمرسي أبو العباس في الإسكندرية وأبو الحسن الشاذلي في صحراء مصر الشرقية وعبد الرحيم القنائي، أو القناوي، في الصعيد.
وسنجد في الجزائر من يسمّي الأبناء باسم المكي أو المدني، تيمنا بالمدينتين وارتباطا روحيا بهما، كما سنجد من يختار لأبنائه أسماء مراكش وتونس (وهو اسم والدة الرئيس بو مدين)
ولعلّي هنا أتوقّف لحظات أخرى عند الشّعور العام في المغرب العربي، من أن المشرق العربي هو مكبّر الصّوت الذي يضمن للأديب المغاربي الانتشار والرواج، وهو أمر حقيقي، حتى بين أقطار المغرب العربي نفسها، والجزائريون يذكرون بكل مرارة أغنية فريد الأطرش عن بساط الريح، الذي لم تذكر فيه الجزائر أبدا بينما ذكرت بلاد النيل والعراق ولبنان كما ذكرت تونس ومراكش، ويدّعي البعض أن هذا هو سبب ضرب الفنان الكبير بالطماطم في قسنطينة قبل الثورة الجزائرية.
ولقد قرأت لمن قال بأنه “إذا أراد الكاتب المغاربي أن يُقرأ في المشرق ويُعرف فإن عليه أن يبقى على تماس معه”، والأمر نفسه ينطبق حتى على مجال الفن، فوردة لم تشتهر إلا عندما غنّت في مصر، مثلها في ذلك مثل فايزة أحمد وصباح ولطيفة والدوكالي وغيرهم، وهو واقع يجب فهمه وتفهّمه والتصالح معه.
فالقضية هي قضية منابر ثقافية وفنية عريقة أعطتها الأبعاد السياسية بريقا لا جدال فيه، ولقد ظللت أكتب في الجزائر نحو عشرين سنة بدون أن أسمع في الوطن العربي صدى لما كنت أكتبه، وباستثناء ما كانت بعض الوفود الجزائرية تسمعه من الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله وبعض كبار معاونيه، الذين كانوا ينتقدون ما كنت أكتبه عن بعض الممارسات السياسية المصرية، ولم يعرفني القرّاء في الوطن العربي إلاّ عندما بدأت أنشر مقالاتي في مجلة العربي الكويتية والأهرام المصرية والتضامن والشرق الأوسط والقدس العربي الصادرة من لندن.   
ولقد أردت لهذه المداخلة أن تكون جهدا يماثل سير النمل الدّؤوب، فإذا بها، ولكثرة المعطيات وتشابكها ولتعدّد المصادر وتناقضها، تتحوّل إلى حركة كأنّها قفزات البرغوث تتوقف عند أمر وتتجاوز أمورا.

الحلقة 2