طباعة هذه الصفحة

إشكالية الفصل بين القصة القصيرة والرواية

بين مفهوم الحداثة ومطرقة السفسطة النقدية

رواية (سماء مسجونة) للكاتب عبد الرؤوف زوغبي / الجزائر .. أنموذجاً

إن تناول مثل هذا الموضوع المثير للجدل بين صنوف النقاد والمختصين والأدباء ليس من اليسر بمكان، إذ لا تزال حدّة النقاش تعلو تارة وتخبو تارة اخرى لما تثيره اوجه الملابسات والخلط في كنه هذا الجنس الأدبي دون بقية الاجناس الأدبية، وما تشهده الساحة الثقافية العربية من شدٍّ وجذب، خاصة فيما يتعلّق بالشكل والمضمون والبناء والنسيج والحبكة والعقدة والإطار الفني والواقعي والمساحة السردية والحوارية واللغة ووحدة الهدف والعنصر المكاني في هذا اللون الأدبي والفن الروائي او القصصي.

ولاشك ان الخوض في هذا الموضوع يتطلّب الوقوف على كل محاور وزوايا وأركان هذا الجدل القائم وقفة علمية واكاديمية بحثا وتمحيصا لاستدراك وتبيان مواضع هذا الجدل العقيم.
وهنا لابد ان نقف اولا عند معرفة ابعاد هذا الفن تاريخا واصطلاحا وعناصر وسمات بين فن القصة القصيرة والفن الروائي.
القصة في اطارها العام هي نصّ ادبي نثري يحاكي واقعا انسانيا، مصوّراً مواقفا او احداث انسانية تصويرا سرديا يتناول الحدث او مجموعة الأحداث وفق بناء ٍ فني ّ بنسيج ٍ محكم متجها نحو الفكرة والهدف مغزىً ومضموناً .. والقصة عميقة في التاريخ عمق وجود الانسان والمخلوقات ولنا في القرآن الكريم ما يدل دلالة لا لبس فيها اذ ذكرت كلمة قص وقصص اكثر من 20 مرة في سور وآيات القرآن الكريم وما تناوله في قصص الأولين والآخرين.. ولا يخفى علينا ما شهدته الساحة الأدبية من ظهور أدب المقامات والرسائل في عصر ازدهار الحضارة العربية بأشكالٍ متعددة من القصص البديعية كما في مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري ورسائل ابي العلاء المعرّي وابن طفيل والغزالي وابي فرج الاصفهاني وغيرهم وابان انتقال هذا الفن الى اوربا في بدايات القرن 14 اخذ يتطور ويأخذ اشكالا تنوعت مابين القصة القصيرة والرواية التي ظهرت جلية في بدايات القرن 19 متوّجة برواية (المعطف) للروائي الروسي جوجول ومواطنه بوشكين، وفي القصة متمثلة بالأمريكي ادغار الن بو والفرنسي جي دي موباسان والروسي تشيكوف..
كما شهدت الساحة العربية في بدايات القرن 20، ظهور اساطين القصة العربية الحديثة امثال طاهر لاشين ومحمود تيمور وحسين فوزي ونجيب محفوظ ومحمود البدوي ثم لتشهد تحولا نوعيا ما بعد منتصف القرن متمثلة بـ: يوسف ادريس والخميسي وغيرهم .. وكما اسلفنا فأن القصة نص ادبي نثري ........ كلمحة عامة لابد من الوقوف على اهم العناصر الفارقة بين القصة القصيرة والرواية والتي يمكن حصرها في ..

أولاً // الطول والمساحة الزمنية
في (الرواية): تتمتع الرواية بمساحة واسعة إذ تتكون من تعدّد الشخصيات وتنوّع الاحداث وتسارعها ومتغيراتها عبر مساحة زمنية واسعة خصبة قد تتجاوز مئات الصفحات وتعدّد الأجزاء ولا تقل عن 30 صفحة كأدنى حد..
اما القصة القصيرة فتكون اقصر نسبيا ولا تتجاوز الـ 30 صفحة وتتناول حدثا واحدا بسيطا او مركبا بكثافة لغوية عالية وشخصية واحدة او اثنين تلج بعمق في خلجات النفس الانسانية، ولا تقل عن 5 صفحات كحد ادنى وإلا اصبحت اقصوصة.

ثانياً // البعد الرؤيوي للكاتب
وهنا تشترك القصة القصيرة والرواية في تسليط الضوء على فكرة وروح النص وجوهر القضية مع الالتزام بمساحة كل فن ولون بمساحته الزمنية الطبيعية.

ثالثاً // العنصر الزماني
هو ركن اساسي في كل من القصة القصيرة والرواية.. فالقصة القصيرة تتناول مشهدا او موقفاً يمتد من دقائق ليوم ٍ كامل في حين ان الرواية تأخذ مساحة زمنية قد تمتد لسنوات في تصوير المواقف والاحداث وقد تمتد لتاريخ ٍ وحقبة زمنية واسعة.

رابعاً // الشخوص
في الفن الروائي يتناول الكاتب حياة شخصية معينة او مجموعة متعددة قلّت او كثرت مستعينا بعنصري الزمان والمكان ومصوّرا ادق الملامح والتفاصيل والتوجهات الفنية والعقلية والثقافية بل وحتى الجسمية والامكانات الاقتصادية والمعيشية والاسترسال في التطور الزمني والتاريخي للشخصيات والأمكنة، بينما لا يتعيّن ذلك في القصة القصيرة اذ تكتفي بشخصية واحدة او اثنين معتمدة التكثيف اللغوي والإيماء والترميز والأثر في السلوك الشخصي والنفسي والإشارة الى المتغيرات والمعطيات النفسية وغيرها.

خامساً // الحدث
في فنّ القصة القصيرة المعتمدة على التكثيف اللغوي والبلاغي لا تحتمل اكثر من حدث واحد او حالة نفسية وجدانية وشعورية نتيجة فعل او حدث وقع او لم يقع .. اما في الرواية فقد تتعدّد الأحداث وتتنوع ما بين بسيط ومركب.
سادساً // البناء والنسيج والشكل
من الاطار العام للقصة القصيرة يبدأ البناء في اللحظة التي يبدأها القاص منطلقاً نحو الهدف مباشرة من الكلمة الأولى نظرا لخصوصيتها ضمن اطار التكثيف.. بينما نجد المساحة الواسعة والمتعددة الأشكال في الرواية اذ تكون قابلة لاحتواء العديد من الشخصيات والغزير من الاحداث وتتعدد فيها الأساليب الفنية والانتقالات المشهدية الفنية البسيطة والمركبة معتمدة عنصرين اساسيين هما:
أ ـ البداية: وتكون البداية جزء من البناء والنسيج الروائي
ب ـ الصراع: الذي يستلزم الحركة والانتقالات من مشهدٍ لآخر او من موقف لآخر غنيا بالأساليب الفنية ويشكل بمثابة العقدة في العمل الروائي.

سابعاً // اللغـــة
في القصة القصيرة يلتزم الكاتب بأقصى درجة من الكثافة اللغوية والبلاغية دون حشو ولا زيادة ولا تكرار مستعينا بعنصر الترميز والايحاء والالفاظ البليغة.. اما في الرواية فإن الكاتب يتمتّع بمساحات واسعة لاستخدام العبارات والتضمينات والتوصيف والتصوير المشهدي لواقعة ما وبعدة صفحات بل يكون مطالبا تحت قانون هذا اللون الأدبي ان يرسم صورة تفصيلية متكاملة للحدث وابعاد الشخصية واعماقها وخلجاتها تصويرا فنيا كاملا ويتمتع بفرصة واسعة لتضمين الأمثال والمأثورات والألفاظ والمقاطع الشعرية والغنائية، ناهيك عن التكرار والاعادة اذا استلزم الأمر تأكيد المعنى والمغزى والهدف والمضمون.

ثامناً // العنصر المكاني
امام الروائي ان يأخذ مساحة واسعة كاملة في وصف تصوير وتوصيف مكان ٍ ما او عدة اماكن وفق مجريات ومعطيات العمل الروائي واحداثها بعدد غير محدد من الصفحات وقد تدور احداث الرواية حتى نهايتها في مكان واحد كما في رواية (العجوز والبحر) لارنست همنجواي ورواية (الفراشة) ورواية (فساد الامكنة) ورواية (السقف) وغيرها..
اما القاص فنجده يلتزم بخصوصية القصة القصيرة في زمانها وشخصيتها وحدثها ومكانها وقد لا تتناول غير جانب واحد من الأمكنة..

تاسعاً //  الأسلوب
يعتمد هذا الركن على ما يحتاجه الروائي ليملأ الساحة العريضة لهذا الجنس الأدبي، فالأسلوب يعني الامكانية التقنية والتكنيك الابداعي الذي يمتلكه الروائي لاشباع العمل الروائي بالشخصيات والأحداث والانتقالات المشهدية والصراعات المختلفة وقد يأخذ دور الراوي والمعبّر عن سلوك وتوجهات الشخصية وحالتها النفسية والحوار الذاتي بما يملك من اساليب فنية متنقلة بين الأحداث والشخصيات وما حولها.
ـهذه هي الخصائص العامة الفاصلة بين جنس القصة القصيرة والرواية..
وفي رواية الكاتب الجزائري عبد الرؤوف زوغبي (ســماء مســجونة).. استهل الكاتب روايته بمقدمة توصيفية لأبعاد العنصر المكاني والعمق الإنساني والاجتماعي والبعد السوسيولوجي وسبر غور الشخصيات النفسية والبيئية منطلقا نحو هدفٍ اكثر عمقا وابعد ترميزا وايماءً كما يتضح في الفصول الأولى للرواية متنقلا من التوصيف الى الحدث الذي يمكن ان نطلق عليه مصطلح البسيط المركب بما يتضمنه من ابعاد اجتماعية ونفسية واقتصادية وثقافية الى حدث اكثر عمقا في التركيب الايديولوجي والفكري المتمثل في اتجاهين كلاهما على طرفي نقيض وعلى طرفي التضاد والصراع ..
الأول // العلاقة العميقة التجذر بالارض وتربة الوطن والتي مثلها الكاتب بأحد الامكنة التي تعتير الى حد كبير عنوان وهوية المدينة رغم التشاكل الفكري والثقافي والعقدي حول كنهه وهويته (تمثال عين النافورة).
الثاني // التغييب الفكري والوطني والانساني المتمثل بالفكر الإرهابي التكفيري الضال وابراز حالة التناقض بين الاخلاقيات والسلوكيات وبين النهج التخريبي وكيفية استخدام وتجنيد وتوظيف وتغييب العناصر بشتى الاساليب..
رواية (ســـماء مســـجونة) للكاتب عبد الرؤوف زوغبي التزمت الرؤية الواقعية للروائي وباسلوب مباشراتي سلس خالٍ من التعقيدات حتى في مواقف الصراع بين طرفي النقيض، كما الدع بتصوير ابعاد الحالة النفسية والاجتماعية والروحية لبطلة الرواية بأسلوب يجعل المتلقي او القارئ يعيش احداث الرواية بكل مشاهدها وانتقالاتها ودقائقها بعيدا عن التزويق اللغوي وبعفوية مطلقة اتسمت بالعذوبة والسلاسة الخصبة، مما جعل الرواية الاقرب للواقع دون لبسٍ ولا تعقيد..