طباعة هذه الصفحة

ذكرى حرق مكتبة جامعة الجزائر في 07 جوان 1962

منظمة الجيش السري على خُطى ما اقترفه هولاكو بمكتبات بغداد

أ . فوزي مصمودي ــ باحث في التاريخ ومدير المجاهدين لولاية بشار

في حدود منتصف نهار 07 جوان 1962 وفي مرحلة كان فيها الجزائريون يتأهبون للمشاركة بقوّة في استفتاء تقرير المصير بعد أسابيع معدودات، وبالتحديد في 01 جويلية 1962 بحسب ما نصّت عليه اتفاقيات إيفيان المبرمة في 18 مارس 1962 بين الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية المؤقتة بعد سبع سنوات من الكفاح المسلح المرير، اهتزت الجزائر وأصيب عمقها الثقافي وإرثها التاريخي وذاكرتها الوطنية في الصميم، في ذلك اليوم المشهود، على وقع جريمة ثقافية بامتياز ، أقدم على ارتكابها مجرمو منظمة الجيش السري الفرنسي والمعروفة اختصارا بــ (LOAS) تمثلت في إقدامهم على حرق مكتبة جامعة الجزائر، انطلاقاً من حقدهم الدفين الذي يكنّونه للشعب الجزائري ولتطلعاته وآفاقه المستقبلية في الحرية والكرامة، وللهستيريا التي أصابتهم بعدما اقتنعوا بأنهم يمثلون الماضي ونحن نمثل المستقبل الزاهر، وأن مغادرتهم النهائية للبلاد وبِلا رجعة باتت وشيكة.

 بهذا الفعل الإجرامي أرادت هذه المنظمة الدّموية إفساد عرس الجزائريين الذي طالما انتظروه على مدار ( 132 سنة ) من الاستعباد والقتل والاضطهاد السياسي والاجتماعي والثقافي والديني ..، حيث في ذلك اليوم الحزين امتدت أيادي الإجرام الثقافي الفرنسي إلى مكتبة جامعة الجزائر بإلقاء ثلاث قنابل داخلها، وما هي إلا لحظات بعد التفجيرات المدوّية التي شهدتها حتى تحوّل محتواها من الكتب والوثائق باللغتين العربية والفرنسية إلى ركام أسود ورماد قاتم ، أكثر ( من 600 ألف عنوان) من مادتها العلمية تم إتلافها حرقا، كما امتدت ألسنة اللهب إلى الرفوف والمخابر والقاعات والأقسام .. فكانت جريمة في حق الإنسان والثقافة والتاريخ ..
 شُوهدت أعمدة الدخان الكثيف تتصاعد من مبنى المكتبة، وألهبة النار تنبعث من النوافذ والأبواب، في مشهد رهيب يذكّرنا بما فعله السفاح هولاكو بمحتويات مكتبات بغداد عند اقتحام المغول لعاصمة الخلافة العباسية خلال سنة 1258 م ، واستباحتها ( 40 يوما ) وكيف تحوّل نهر دجلة الرقراق إلى اللون الأسود القاتم، نتيجة لتسرّب مداد الكتب والمجلدات التي كانت تمثل عصارة الفكر الإنساني؛ من تراث عربي وإسلامي وهندي وفارسي وإغريقي ... ذخائر من المصنفات، تُقدر بمئات الآلاف وربما الملايين، تم إتلافها في ذلك النهر، بفعل فكر همجي ظل يتكرّر في كل زمان ومكان .
 من باب «شهد شاهد من أهلها» فقد اعترفت الصحافة الفرنسية الصادرة في اليوم الموالي بهذا الفعل الإجرامي، الذي استهدف المعارف الإنسانية بالدرجة الأولى وذاكرة الجزائريين بالدرجة الثانية، حيث كتبت جريدة ( فرانس ــ سوار ): “ألهبة النار تلتهم المكتبة الجامعية، حيث يحترق 600.000 كتاب «أما جريدة  (لوفيغارو) فأكدت أن : “500.000 كتاب تم حرقها من أرصدة المكتبة الجامعية بالجزائر» ، فيما صوّرت جريدة ( لوموند ) المشهد المرعب لهذه المجزرة الثقافية بقولها: «قرابة 600.000 مجلد ووثيقة كانت طعما لألهبة النار في المكتبة الجامعية بالجزائر » ..
ولا شك أن هذه العملية الدنيئة التي استهدفت الإنسان الجزائري الذي كان في تلك الفترة يَتُـوق إلى الحرية وإلى استرجاع سيادته المسلوبة، ويسعى إلى إعادة بناء نفسه من جديد، لم تزده إلا عزيمة وقوة وإصرارا على افتكاك حقوقه وتحقيق أهداف ثورته المسلحة، التي تحمل في طياته مبادئ سامية وقِـيما حضارية راقية وأفكارا تحرّرية جريئة.

منظمة الجيش السري وأخواتها بالجزائر

 نحن نتذكر هذه الجريمة الشنعاء بعد (56 عاما) على ارتكابها، يجدر بنا العودة إلى المسار التاريخي الدموي لهذه المنظمة وأخواتها من المنظمات الإرهابية الفرنسية، التي ظهرت مع انطلاق الكفاح المسلح ضد الغزاة الفرنسيين في غُـرّة نوفمبر 1954، واشتداد أنشطتها التخريبية بعد ذلك، خاصة بعد ما لاحت في الأفق بوادر الحرية ومعالم اندحار الاحتلال الفرنسي، مع التهديد المباشر لمصالح وامتيازات الوجود الفرنسي الكولونيالي الرسمي والشعبي ببلادنا، ومن هذه المنظمات الإرهابية التي سبقت ظهور منظمة الجيش السري:
ـ الاتحاد الفرنسي للشمال الإفريقي، الذي تأسس بالشبلي بولاية البليدة سنة 1955 .
- منظمة المقاومة من أجل الجزائر فرنسية (1956).
- الحركة الجزائرية السرية للأوراس (1956 )
- حركة المقاومين السريين الفرنسيين ( 1956 ).
- منظمة اليد الحمراء، التي تأسست على أيدي أوروبيي الجزائر على نطاق شمال إفريقيا عام 1956.
- الجبهة الوطنية الفرنسية ( 1957 ) .
 أما منظمة الجيش السري الفرنسي L’Organisation de l’Armée secrète فقد تأسست في 11 فيفري 1961 بمدريد بإسبانيا، حيث التقى بعض مجرمي الحرب من الفرنسيين في سرية تامة على غرار (جون جاك سوزيني) و(بيار لغيار) .. لتأسيس تنظيم إرهابي جديد أطلقوا عليه اسم (منظمة الجيش السري) وانصهار باقي المنظمات الإرهابية في بوتقته، وقرّروا بالإجماع أن يكون على رأسه الجنرال المتقاعد السفاح (صالان) بمساعدة الجنرال (جوهو) و(غاردي) و(سوزيني)، كما عقدوا بعد ذلك اجتماعا سريا بالجزائر العاصمة في 01 جوان1961، بعد فشل مخطط التمرّد الذي حِيك ضد الجنرال ديغول وحكومته في 22 أفريل 1961.
 على ضوء هذا الاجتماع، انصهرت أغلب التنظيمات الإرهابية الفرنسية بالجزائر في هذا التنظيم. وكان الذي يجمع أعضاءه وقيادييه هو الحفاظ على (الجزائر فرنسية) وإعلان الحرب في وجه كل من يقف في طريقهم، سواء كان من الجزائريين أو من الفرنسيين، واتخذوا من الصليب شعارا لهم.
 مما جاء في أول بيان أصدرته هذه المنظمة : « .. أيها الجزائريون بجميع أصولكم .. بكفاحكم من أجل الجزائر فرنسية، فإنكم تكافحون من أجل حياتكم وشرفكم ومستقبل أبنائكم، تشاركون في الحركة الكبرى للتجديد الوطني. وفي هذا الكفاح ستتبعون أوامر منظمة الجيش السري فقط ..» .
  استقطبت الآلاف من المستوطنين، مدنيين وعسكريين، منهم ملاك الأراضي الإقطاعيين وأصحاب المؤسسات والشركات والأطباء والمعلمين والمحامين، الذين يرون أن مصالحهم بالجزائر باتت مهدّدة، كما احتضنت كذلك الفارين من الجيش الفرنسي والشرطة، لاسيما العائدين من تونس والمغرب بعد استقلالهما عام 1956، وحتى من بعض العملاء من الجزائريين ! وقد عملت المنظمة على تسليحهم وتنظيمهم في وحدات بلغ عدد أفرادها أكثر من (2000 عنصر إرهابي).
 يعتقد بعض المؤرخين من المتخصصين في تاريخ هذه المنظمات، أن منظمة L’OAS  تأسست بإيعاز من بعض أجنحة الجيش الفرنسي التي عملت على تسليح أعضائها بالأسلحة الخفيفة وحتى الثقيلة وتفعيل نشاطاتها التخريبية.

أهداف وغايات إجرامية
 
 وضعت هذه المنظمة أهدافا تعمل بدموية على تحقيقها، منها على الخصوص:
- المقاومة المستميتة التي دُوّنَها الموت على فكرة (الجزائر فرنسية) .
- العمل بتفانٍ وإخلاص على تعبئة الرأي العام الفرنسي حول هذه الفكرة، وتجنيد وسائل الإعلام والمؤسسات الفرنسية الرسمية المختلفة.
- التصدّي بقوة لتوجّهات ديغول رئيس الجمهورية الخامسة ومحاولة الإطاحة بنظامه، وهو الذي أبدى مرونة في استفتاء تقرير المصير للشعب الجزائري، وهذا لإنقاذ بلاده فرنسا من (المستنقع الجزائري) وإنقاذ ما يمكن إنقاذه خدمة لوطنه.
- محاولة عرقلة السير الطبيعي للمفاوضات بين الحكومة الفرنسية من جهة والحكومة الجزائرية المؤقتة من جهة ثانية، والتي كانت في مراحلها الأخيرة، بإشاعة حالة من الرعب واللأمن وممارسة التهديدات والضغوطات على حكومة ديغول.
- استخدام كافة وسائلها وإمكاناتها لمنع تأسيس دولة جزائرية وطنية مستقلة.

..ومن الوسائل التي اعتمدتها لتحقيق أهدافها التخريبية  

- تخريب المصالح الحيوية بالجزائر (البنوك، البريد، المؤسسات، الشركات ..)
- اغتيال الشخصيات والإطارات الجزائرية وإشاعة الفوضى وخلق جو من الإرهاب والرعب ...
- اغتيال المؤيدين لسياسة ديغول من الفرنسيين أنفسهم، مدنيين وعسكريين .
- نهب البنوك ومصالح البريد والمحلات التجارية..
- تدمير المؤسسات الإدارية والثقافية.
- تأسيس فروع للمنظمة بفرنسا تقوم بعمليات تخريبية.
- تشكيل ميليشيات مسلحة من المدنيين المستوطنين وبعض العسكريين الفرنسيين.
- طباعة وتوزيع المناشير التحريضية، وكتابة الشعارات على الجدران، من مثل (اليد الحمراء، شعار الصليب، الجزائر فرنسية وستبقى فرنسية ..) وغيرها من الشعارات.
- توسيع دائرة البث الإذاعي السري المعادي.

عمليات إرهابية في المسيرة الدموية للجيش السري

بالرغم من العمر الزمني القصير لهذه المنظمة الإرهابية بالجزائر الذي لم يتعد السنة، إلا أنها استطاعت نشر الخوف والهلع والاضطراب، نتيجة لعملياتها الدموية ونشاطاتها التخريبية، والتي استهدفت الجزائريين بالدرجة الأولى وكذا بعض الفرنسيين، ومن أبرز جرائمها المرتكبة بالجزائر :
- اغتيال مجموعة من المساجين في زنزاناتهم، كما حدث مع المعتقلين الجزائريين بمركز الشرطة بحسين داي بالعاصمة.
- تنفيذ سلسلة من التفجيرات بالقنابل البلاستيكية قدرت بالمئات، خلال الفترة الزمنية مابين  سبتمبر 1961 ومارس 1962، أسفرت عن استشهاد (2360 مواطنا جزائريا)، وقد أحصت وهران لوحدها حوالي ( 1100 شهيد )، كان من بينهم شهداء (مذبحة الطحطاحة ) بوهران يوم الإعلان عن الاستقلال مباشرة بتاريخ 05 جويلية 1962 ، إلى جانب اغتيال الشخصيات الجزائرية، من خلال فرق الموت والاغتيال التي تشرف عليها والشهيرة بـاسم ( كوموندوس دلتا ) .
 بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار وسريان مفعوله في 19 مارس 1962 حدث تصعيد خطير لإجرام هذه المنظمة، حيث أضحت  تقوم بعمليات انتقامية بصفة عشوائية وهيستيرية، تمثلت أساسا في :
- إطلاق عدة قذائف مدفعية على أحياء سكنية بالقصبة السفلى في 20 مارس 1962، إلى جانب قصف ساحة الشهداء وساحة أول ماي بالعاصمة بالسلاح الثقيل، أسفرت عن ( 24 شهيدا ) ،  و( 59 جريحا ) .- تفجير سيارة ملغمة قرب ميناء الجزائر في 2 مارس 1962، خلّفت ( 62 شهيدا) و(110 جريح) في صفوف العمال الجزائريين البسطاء .
- حرق المدارس ومكاتب الضمان الاجتماعي .
- حرق مكتبة جامعة الجزائر في 07 جوان 1962 التي أشرنا أليها آنفا .
ــ اتباع سياسة ممنهجة في اغتيال الشخصيات الوطنية وإطارات المستقبل من المثقفين والأدباء والكتاب الجزائريين، على غرار الشهيد مولود فرعون الذي قامت بتصفيته بتاريخ 15 مارس 1962 قبيل وقف إطلاق النار بـ ( 04 أيام ) فقط .
ــ الاستيلاء على محتويات البنوك بالجزائر، أكثر من 1.5 مليار فرنك في أفريل 1962.
ــ نقل المنظمة لعملياتها الإجرامية إلى العمق الفرنسي، حيث قامت بعدة تفجيرات داخل فرنسا نفسها.
ــ اغتيال العديد من الشخصيات الفرنسية المدنية والعسكرية، كالمحافظ الرئيسي الفرنسي في 01 جوان 1961، وفي 20 سبتمبر 1961 اغتالت المحافظ  فلدن برغ ، وفي 17 ديسمبر عمدت إلى تصفية الضابط الثاني بوهران العقيد رونسون، وفي أفريل 1961 اغتالت رئيس بلدية إيفيان كامبل بلان ، وفي 24 أكتوبر 1961 قامت بتصفية النقيب تيري.. إلى جانب الجنرال جوبير .. وغيرهم كما حاولت قبل ذلك اغتيال الأديب والكاتب العالمي الفرنسي فرانز فانون المعادي للسياسة الاستعمارية الفرنسية .

موقف قادة الثورة من منظمة الجيش السري

للتصدي للعمليات الإرهابية التي كانت تقوم بها منظمة الجيش السري الفرنسي كوّنت جبهة التحرير الوطني لجانا شعبية يقظة، وكان جُل أفرادها من الشباب، وهذا للحيلولة دون تنفيذ اغتيالات وعمليات النسف بالقنابل البلاستيكية التي عُرفت بها هذه المنظمة، وصدّ الهجومات التي تشنّها على الأحياء الجزائرية، وكذا منعهم من اغتيال أفراد الشعب، والتناوب على الحراسة في الحي والدشرة والقرية .. كما اعتمدت الجبهة كذلك على عملية مواصلة التجنيد الجماهيري والتعبئة العامة والتوعية الشعبية، حتى لا يدبّ اليأس إلى النفوس وتخور العزائم، من خلال اللجان الشعبية التي أسستها .
من جهتها، دعت الحكومة الجزائرية المؤقتة المستوطنين إلى المشاركة في استفتاء تقرير المصير، يوم 01 جويلية 1962، وأن يساهموا في بناء الجزائر الجديدة، وأن لا ينصتوا إلى دعوات مجرمي الحرب من أفراد عصابات منظمة الجيش السري، وأن لا يقفوا ضد التيار التحرّري الجزائري حتى لا يجرفهم .
كما وزّعت قيادة جيش التحرير الوطني في 13 جوان 1962 منشورات تدعو المستوطنين الفرنسيين إلى أن يكونوا في صف الجزائريين من أجل تدعيم استقلال بلادهم .
من الجانب العملي، قامت فرق من الفدائيين الجزائريين في ١٤ ماي  ١٩٦٢ بعملية مسلحة استهدفت مجموعة من مجرمي هذه المنظمة، أسفرت عن ( ١٩  قتيلا) و ( ٦٠  جريحا) من أفرادها.