طباعة هذه الصفحة

زيتوني الصامد

بقلم: لعيفاوي طيب

الحلقة الأولى
كنت أسكن خيمة في أحد المخيّمات المترامية الأطراف والذي تنعدم فيه أبسط شروط الحياة. كبر أبي و أمي وإخوتي، لم نكن نشعر بالضّجر أوِ التّأوّه بالرّغم من المعاناة وانسداد سبل العيش، إلاّ بعد أنِ ازداد عدد أفراد أسرتي، حينها سعى أبي أن يتخذ خيمة أخرى فباع شياهه وحصانه وانتصبت هذه الخيمة الجديدة الواسعة بجانب الخيمة القديمة الرّثة، وبعد شهرين تزّوج أخي الأكبر، وذات صباح من فصل الصيف الحار ونحن مجتمعون حول مائدة الفطور داهم الصّهاينة حيّنا بالمدرّعات التي كانت تنفث دخانها الكثيف عن قصد، مما أدى إلى تسجيل إغماءات واختناقات كثيرة خاصة  لدى العجزة والأطفال و الرّضع.
أشهروا أسلحتهم في وجوه العزّل وحاصروا المكان أغلقوا كامل المنافذ والممرّات بحثوا عن جارنا فلم يجدوه، اقتادوا أبناءه وزوجته الحامل في شهرها السابع، دفعوهم بعنف ووضعوا أكياسا سودا على رؤوسهم بعدما كبلوهم بإحكام ثم غادروا .
كان قد مرّ من عمري ثمان سنوات كنت أفهم أنا هؤلاء هم من إحتلوا بلادنا و شرّدوا أهالينا وتفننوا في اضطهادنا، وكم حدثنا عنهم معلم اللّغة العربية ومن بين ما قال: أنهم دمروا مدينتنا الهادئة الـمُسالمة منذ عشرات السنين وأجبرونا على العيش في الخيم، وتحت القصدير، واستباحوا أراضينا ومساجدنا وزجوا بالآلاف من أبنائنا وأمهاتنا وإخوتنا في السّجون والمعتقلات بذنب أو من دونه أو لمجرد الإشتباه، منهم من قضى سجينا ومنهم من أفرج عنه مصدوما أو معاقا بعد أن ذاق ألوانا من التُعذيب والإهانة، والاستلاب والاغتراب.
أخـذت عائلة جارنا إلى مكان مجهول، وفي مساء ذلك اليوم المشؤوم عاد الجار العم رمضان وهو لا يعلم ما حدث لعائلته أقبلت نحوه وأخبرته بكل كبيرة وصغيرة بدا هادئا على غير عادته. كان متعبا يحمل فأسا على كتفه بعد عمل شاق قضاه في مزرعته البعيدة عن حيّنا.
دخل واتخذ مجلسا مازالت الفأس بين كلتا يديه تبعته دخلت وجلست بجانبه فلم ينطق بكلمة واحدة. بقي صامتا ثم تنهد تنهيدة عميقة وقال: و»الله خير منتقم» كررها مرات عدة. قام وأخذ قارورة ماء وشرب حتى ارتوى، وعاد ليجلس القُرفُصاء مُمسكا بالفأس ضاغطا عليها يبدو أنّه سيخرج، نظرت إلى عينيه وإلى قسمات وجهه الذي اِحمرَّ واعتصرت أوداجه، وإلى قبضته، أصابعه تتحرك أغمض عينيه سمعت حركة وجلبة يقترب أحد معاونيه من الخيمة وبصوت جهوري ينادي يا عم رمضان.. رمضان الجرّافات إنها الآن في مزرعتك خرجنا نجري خلفه كانت الجرافات المدعمة بآليات عسكرية وعدد لا يحصى من جنود الاحتلال تجرّف أشجار الزيتون والتّفاح، اقتلعوها بحقد دفين وفي دقائق معدودات لم يتمالك جارنا المسكين نفسه فاستل خنجره صائحا: توقفوا يا مجرمين عليكم لعنة الله أيها الأوغاد و اتّجه نحوهم غير مبال وبسرعة خاطفة أصاب جنديا بطعنة في صدره وهم بأن يعيد الطعنة ثانية وثالثة و....... لكنهم أحاطوا به الكلاب المسعورة وأوسعوه ضربا وربطوه إلى جذع نخلة والدّماء تنزف من فمه وجبينه لتختلط بثرى الأرض، وواصلوا تجريفهم وأشعلوا النار في حقول القمح والشّعير بعد كلّ هذا الإجرام ولَّوْا عائدين الأدبار تاركين الخراب والدّمار .
بقيت أراقب ما يجري عن كثب من وراء ثلة منخفضة. لم أصدق ما حدث وتساءلت في قرارة نفسي: أيُعقل أن يُنتقم حتّى من النّبات؛ استجمعت قِواي ورُحت أقلّب أشجار التفّاح التي أخرجت ثمارها الصّغيرة حتى أنّه لم يبق على أن تصير طازَجة إلا عدة أسابيع، أما أشجار الزّيتون التي هَوَت مُمتلئة فظلت لأيام خضراء تنبض بسر الحياة تظهر صمودها وتحديها لأعداد الإنسان والأرض و الوجود.
يا إلهي إنها الإرث والكنز الذي حافظ عليه أجدادنا وفي لمح البصر تُباد وعن بكرة أبيها.... (يتبع).