طباعة هذه الصفحة

الحرف والصناعات في قلب اهتمام علم الآثار

الأدوات.. مرآة التاريخ العاكسة لتطور الذكاء الإنساني

أسامة إفراح

للحرف والصناعات أهميتها التأريخية، ما جعل المخابر العلمية توظف أحدث التقنيات المتوصّل إليها لدراسات المواد التي صُنعت منها مختلف الأدوات الأثرية، وفهم طرائق تحويلها وتنميطها. ولكن الأهمّ من ذلك، هو اكتشاف مجالات استعمالها، والغاية من ذلك الاستعمال، في محاولة لفهم عادات الإنسان ومستويات تفكيره، وتسخيره لما حوله في خدمة احتياجاته وإبداعاته ومعتقداته.. هو على الأقل جانب من الملتقى الدولي الأول حول  الحرف والصناعات عبر العصور»، الذي حدثنا عنه بالتفصيل الأكاديميون خديجة نشار بواشي، كمال مداد وفايزة رياش، من منبر « ضيف الشعب» .

 كشفت أ.د خديجة نشار بواشي، مديرة معهد الآثار بجامعة الجزائر 2، أن عنوان الملتقى الدولي «الحرف والصناعات عبر العصور»،  يشمل تقريبا كل الفترات التاريخية والأثرية في الجزائر ومنطقة المغرب والعالم، خصوصا وأن لكل من «حرفة» و»صناعة» مغزى علمي محدد وواضح، ويتعلق بمجال زمني خاص به، إذ أنه حين حديثنا عن الحرف فإننا لا نستطيع أن نعني بها فترة ما قبل التاريخ، التي لم يكن هناك حرفة فيها ولكن كانت هنالك صناعات (ليست بمعنى الصناعة الذي يحمله المفهوم الحديث، وإنما صناعة بمعنى صنع)، بالمقابل، فإن الفترة القديمة والفترة الإسلامية وحتى الحديثة يمكن فيها أن نتحدث عن الحرف والحرفيين، «ولكن للجمع بين كل الفترات استعملنا الكلمتين معا»، تشرح أ.د نشار اختيار عنوان الملتقى، وتواصل بأن هذه هي النقطة الأساسية التي انطلقت منها الفكرة، فمن أجل إدخال كل الفترات التاريخية في مجال الاهتمام كان استعمال المفهوم المفتاح وهو الصناعات، على غرار الصناعات الحجرية والمعدنية والفخارية، وما تزال آثار لهذه الصناعات موجودة في المتاحف وهي تمكننا من الاعتماد عليها في التسلسل الكرونولوجي، من الفترة القديمة، الإغريقية، الرومانية، والبيزنطية حتى نصل إلى الإسلامية.
من ضمن المحاور تذكر ضيفتنا المحور المتعلق بدور الحرفة، ولماذا وكيف ظهرت، وتضيف بأنه في مجال علم الآثار فإن هناك من الحرف ما يعتبر العنصر الأساسي للتأريخ، على غرار حرفة الفخار والخزف، «وهي المادة التي نؤرخ بها أي منطقة أو مساحة أثرية، أول ما نؤرخ به أي منطقة هو القطعة الفخارية»، مقارنة بالحرف التي تأتي بعدها كالصناعات الخشبية والمعدنية، ومواد أخرى العاج والعظام (لا نقول حرفة وإنما صناعة العظام) واستعمال ما هو موجود في الطبيعة كالحجارة والرخام، والمعدن الذي ظهر فيما قبل التاريخ ولكن تطور استعماله وازدهر إلى ما وصل إلينا في حالته اليوم. وهكذا فإن المداخلات كلها تشمل هذه النقاط الأساسية.

المخابر العلمية.. واستنطاق المادة

من جهة أخرى، يتضمن الملتقى بعض المداخلات العلمية المخبرية، فيزيائية منها وكيميائية، تُعنى بإجراء تحاليل على اللقى الأثرية وإعطاء أهم المعلومات التي تهم الحرفي: «يجب أن نشرح للحرفي حرفته التي يشتغل بها»، تقول البروفيسور نشار بواشي، مشيرة إلى تخصص تهتم به المخابر العلمية فيما يتعلق بالمواد الأثرية أو archéomatériaux، بمعنى تحليل مكونات المادة وطريقة صناعتها وتسويتها وإضافة مواد أخرى. ويتم ذلك بالاعتماد على تقنيات مثل الكربون 14 المتداولة والتحليل الطيفي سبكتروميتر، وتقنيات حديثة متعددة، وهناك مخابر كاملة للتأريخ منتشرة عبر العالم. وهكذا فإن الملتقى يركز أيضا على أهمية البقايا الصناعية والحرفية وصداها على الحرفيين في الوقت الحالي. سألنا ضيفتنا عن وجود مخابر مثل هذه في الجزائر، فقالت إنها موجودة ولكن ليس بالقدر الكافي، وتحدثت عن مخابر مماثلة في كل من بومرداس، ودرارية، وباب الزوار فيما يخص المكونات.
من جهته، قال د.كمال مداد، المدير المساعد بالمركز الوطني للبحث في علم الآثار، إن التعريف الجوهري لعلم الآثار هو كونه علما يرتكز على دراسة المخلفات المادية التي تركها الإنسان في فترة ما، إذن فهذا العلم يرتكز على الجانب المادي الذي تركه الإنسان، أي مخلفات صناعاته من فخاريات وأدوات معدنية وزجاجية وغيرها: «كل أداة تعتبر جد مهمة من ناحية تأريخ الفترة والبعد الثقافي لذلك المجتمع، وكل أداة مرآة تعكس الجانب الاجتماعي ونمط الحياة التي كان يعيشها الإنسان حينذاك.

من المادي إلى اللامادي

في ذات السياق، تنتقل بنا البروفيسور نشار بواشي إلى نقطة غاية في الأهمية، حينما تلاحظ أن دراسة الحرف والصناعات، وموادها وطرق استعمالها، تسمح لنا بالانتقال ممّا هو مادي إلى اللامادي من عادات وتقاليد ومعتقدات وطرق عيش. وتتخذ محدثتنا من القدح على شكل اليد مثالا على ذلك، فالإنسان لاحظ بأنه يغترف الماء بيده ليشرب، ولكنه حوّل ذلك الشكل إلى قدح.. وهكذا فإن دراسة الحرف تمكننا من أن نصل إلى مستوى تفكير الإنسان.
بخصوص هذه النقطة بالذات، أي مستوى تفكير الإنسان، سألنا ضيوفنا عن الفرق بين التجمع الإنساني والحضارة، وكيف يمكن لدراسة الحرف والصناعات وتاريخها أن تساعدنا على إثبات وجود حضارة إنسانية في منطقتنا وليس فقط مجرد تجمعات سكانية، وهذا يأتي عكس بعض الأصوات التي تدّعي عدم وجود حضارات إنسانية قديمة.
فنّدت البروفيسور نشار بواشي بشدّة هذا الادّعاء، مذكّرة بالحضارة الإيبيرو مغربية التي عرفتها منطقتنا، واعتبرت أنه للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نتساءل بدورنا: لماذا أنا موجود في هذا المكان؟ فالحضارة بحسبها هي حضارات، مترابطة ومتواصلة ومتراكمة، ولو لم تكن هناك سوابق حضارية لما أمكن الحديث عن هذا الموضوع أصلا.
كما اعتبرت أن السلوكات هي التي تخلق التطور الحضاري، فسلوك الإنسان وتطوره مع الحياة والمعيشة اليومية تجعلنا نفهم وجود حضارة تنمو، وحتى إن اندثرت فإنها لا تندثر بشكل مباشر، ولكن هنالك نوع من الاضمحلال وتأتي بعدها حضارة أخرى ببلورة جديدة.
أضافت بأن تطور الفكر الإنساني هو الذي يجعله يصنع أشياء نحتاجها، فهو يأخذ المادة ويطورها إذا كانت هشة مثلا لتصبح أكثر صلابة، ويفكر ويأخذ ما حواليه أي أنه لا يستورد. إذن فإن تطور الفكر الإنساني هو الذي يجعله إنسانا متحضرا، دون أن ننسى أهمية الجانب الروحي، وبالعودة إلى مثال القدح، فإننا نجده داخل المقابر كأثاث جنائزي.

من الحاجة العملية إلى الحاجة الروحية

في هذا الصدد، يشير الدكتور كمال مداد إن هذه الأدوات التي تدفن مع الميت تهدف إلى تزويده لسفر طويل لحياة أخرى. وفيما يتعلق بالجانب الجنائزي في الفترة القديمة، كان أهل المتوفى يقومون عند دفنه بالأكلة الجنائزية ويضعون عند قبره فتحتين لتزويد المتوفى بالأكل والشرب، المعتقد كان وثنيا، ومع الإسلام تمت «أسلمة» هذا المعتقد وفي مقابرنا يأخذون التمر والخبز ويضعون فنجانين يقال إنه للطيور ولكنه معتقد قديم. ما يعني أن العديد من العادات تجد صداها وجذورها في التاريخ القديم، ولكنها تتأقلم وتتكيف، وعلم الآثار يسمح لنا بفهم ذلك.
يعرض علينا د.مداد مثالا حيا، حينما يشير إلى إطار خشبي مزخرف للوحة زيتية في القاعة التي كنا بها في مقر الجريدة، ويقول إن مختلف الأشكال ربما يكون الحرفي قد نحتها دون سابق علم لأصولها، ولكنها في الحقيقة زخارف تعود إلى الفترة النيوليتية. هكذا فإن المثلثات التي تكون قاعدتها إلى أسفل وقمتها إلى أعلى يكون لها مغزى مختلف عن المثلثات المقلوبة.
هنا أشارت الباحثة أ.فايزة رياش إلى الرموز التي لاحظتها على الزرابي في منطقة بريان بغرداية، والتي لم تتغير عبر العصور وهي في حقيقة الأمر رسائل ولها مغزى محدد، والأهم من ذلك أن من يصنعها يعرف ذلك المغزى ويتناقله جيلا بعد جيل.
هكذا، فإن الحرف والصناعات على مرّ العصور، تسمح لنا ليس بتحديد عمر المواقع الأثرية فحسب، بل بفهم نمط العيش وعادات الإنسان ومدى تطوره الفكري والتقني، وقد كان الحرفيون يشكلون في الماضي طبقة اجتماعية مرموقة، هي في اتصال مباشر مع الطبقة الحاكمة والحاشية ونبلاء القوم، بفضل التقنية والإبداع والتحكم في المادة.. وهنا نتساءل:هل متى يعود الحرفيون إلى احتلال مكانتهم المرموقة في مجتمعنا؟