طباعة هذه الصفحة

عدد الأفلام التي تناولتها يبقى متواضعا ومحتشما

ثورة نوفمبر.. العظيمة وجدانيا والمظلومة سينمائيا

أسامة إفراح

كان لثورة التحرير الأثر العميق، ليس على تاريخ الجزائر المعاصر فحسب، بل تعدى ذلك إلى المستوى الإقليمي، القاري والعالمي. ثورة حملت في طياتها زخما كبيرا: سياسيا، عسكريا، فكريا، ثقافيا، وقبل هذا وذاك، إنسانيا. ولولا هذا الجانب الوجداني الذي امتازت به الثورة، ما كان لها أن تؤثر في الشعوب وتُتخذ نموذجا يقتدى به في التحرر والانعتاق. فهل أعطت السينما حقّ هذه الثورة، واستغلّت زخمها الوجداني الإنساني كما ينبغي؟

كانت ثورة التحرير الجزائرية تجربة إنسانية بامتياز، التقت فيها العديد من المعطيات التي صنعت تفرّدها: فالاستعمار الذي تعرّضت له الجزائر كان احتلالا استيطانيا، بمعنى أنه تعدّى أشكال الوصاية والهيمنة واستنزاف الخيرات والثروات، إلى معركة وجود وبقاء بين طرف هو صاحب الأرض الأصلي، ومستوطن صار يعتبر نفسه صاحب الأرض الوحيد. وانتقل الأمر من استيطان المكان، إلى استيطان الزمان، من خلال تزييف التاريخ ومحاولات طمس الهوية، وتطوّر القمع العسكري والاقتصادي إلى قمع ثقافي وحضاري، في لباس عنصري حاول حتى توظيف العلم للدلالة على أن المستعمِر (بكسر الميم) هو جنس بشري أرقى وأسمى من المستعمَر (بفتح الميم).
 وقد ساهم في ترسيخ هذا التوجّه الفترة الزمنية الطويلة التي بقيها الاستعمار في الجزائر، والتي لم تحتمل مخرجاتها سوى سيناريوهين اثنين: إما الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع والقبول بالقدر المحتوم، وإما الانتفاض ومحاولة تغيير الوضع بالقوّة مهما كان الثمن، فكان هذا السيناريو، وكانت الضريبة مليونا ونصفا من الشهداء.
ولكن، هل تُرجِم هذا الزخم الوجداني الكبير في مختلف الأعمال الفنية؟ وهل كان ذلك بالشكل الكافي؟ أما السؤال الأول فالجواب عليه بالإيجاب، وأما الثاني، فسنؤجّل الجواب عن ذلك إلى ما بعد الاستشهاد ببعض الأرقام، ولن نكتفي هنا بالطرف الجزائري، بل بالفرنسي أيضا.
يقول المخرج سليم عقار، المدير الحالي لسينماتيك الجزائر، في مقال إلكتروني سابقا، إن ثورة نوفمبر كانت موضوع 150 فيلما فرنسيا في مختلف الأشكال، وذلك في الفترة الممتدة بين 1957 و2007. بالمقابل بلغت الأعمال الجزائرية 86 عملا (تقريبا في نفس الفترة). ولما كان الحديث عن الأعمال الجزائرية متداولا، سنحاول هنا التطرق أكثر إلى الضفة الأخرى، حيث تراوحت الأعمال الفرنسية بين البروباغاندا العسكرية (على غرار تلك التي أنجزت خلال حرب التحرير) والأعمال المحتشمة و»الباهتة» التي تأثرت بالرقابة الفرنسية، حيث يتحدث عقار عن 40 فيلما (من 1953 إلى 1960) خضعت للرقابة، وجزء منها تمّ منعه تماما من العرض، بينما تمّ تجميد 105 أعمال (بين 1952 و1959) بسبب رفض مخرجيها إدخال تغييرات عليها.
بحسب عقار، فإن 1 بالمائة فقط من الأفلام الفرنسية المنجزة بين 1955 و1995 «تعرضت للحرب التحريرية التي خاضها الجزائريون ضد الاستعمار الفرنسي. وتغيرت الأمور بعض الشيء مع مطلع الألفية الثالثة، وظهرت أفلام تنتقد بجرأة أكبر الماضي الاستعماري لفرنسا، على غرار «الخيانة» و»سيدي العقيد»، وبشكل أكبر «العدو الحميم» لفلوران سيري، كما كان للمخرجين ذوي الأصول الجزائرية البصمة القوية، مثل رشيد بوشارب بـ»أنديجان» ومهدي شارف بـ»كارتوش غولواز».
لنعُد الآن إلى السؤال الذي طرحناه في البداية: هل هذا الكمّ من الأعمال السينمائية التي تتناول حرب التحرير كافٍ؟ لا أحد يُنكر أن أعظم الأفلام التي مثّلت الجزائر وبلغت سقف العالمية، كانت تلك التي تناولت ثورة التحرير.. ولكن حينما نرى أن الأفلام الروائية والوثائقية عبر العالم التي تناولت أحداثا تاريخية أقلّ أهمية بكثير من ثورتنا، نجزم بأن هذه الأخيرة مظلومة بشكل كبير.
إن كل شبر من أرض الجزائر شاهد على حدث تاريخي متفرّد، وكلّ شهيد من شهداء الثورة، وقبل ذلك المقاومات الشعبية، له قصّة مختلفة تستحقّ أن تُروى، فهل سنستثمر يوما في هذا الخزّان الدرامي الهائل الذي نمتاز به عن الآخر، أم أننا سنكتفي بإنتاج بضاعة مقلّدة لا هي عبّرت عن ذاتنا، ولا هي مكّنتنا من محاكاة الآخر باحترافية ونجاعة؟.