طباعة هذه الصفحة

عندما تكون أتون الحرب مصدرا للإلهام

القاصة السورية ناريمان عفدكي تضيء شموع الأمل

محمد علي علقمي

شاهدة على أحزان أمهات ثكلى فقدن فلذات أكبادهن، وأبشع صور القتل والتهجير والدمار. ناريمان عفدكي قاصة سورية من أصول كردية، نالت نصيبها من المعاناة والنزوح قسراً مع أفراد عائلتها بسبب الحرب الدائرة على أراضي سوريا منذ نحو عشر سنوات. اقتحمت عالم الكتابة الأدبية عن رغبة وحب مكّناها من أن تنقل للقراء ما تقتنع بأنه مميز وهادف عبر إبداعاتها الأدبية في مجال القصة القصيرة باللغة الكردية الكرمانجية والتي تُخلد فيها ملحمة صمود ومآسي شعبها خلال هذه الحرب، صدرت لها العديد من الأعمال الأدبية التي لاقت استحسانا كبيرا لدى جمهور القراء والنقاد، فضلا عن مشاركاتها في عدة محافل وتظاهرات ثقافية، وفي السطور الآتية نتعرف عليها أكثر وعلى تجربتها الأدبية.

-  كيف تقدمين نفسك لقرئنا الكرام؟
 القاصة ناريمان عفدكي : ناريمان عفدكي كاتبة قصص قصيرة، من مواليد 1988 بمدينة سري كانيه (رأس العين) التابعة لمحافظة الحسكة (شمال شرق سوريا)، أنتمي إلى عائلة معروفة بوطنيتها وشغفها بكل ما له صلة بالثقافة والتراث، درست الأدب العربي ولكن بسبب الأزمة التي ألمت بسوريا لم أكمل دراستي الجامعية، وذهبت إلى مدينة أمد (ديار بكر) في تركيا، وهناك التحقت بأكاديمية ‘’جكر خوين’’ ودرست الأدب الكردي، وأعمل حاليا في مجال التدقيق اللغوي وإلقاء المحاضرات وتحرير المقالات الأدبية.

-  نستهل حوارنا بالحديث عن «عباد الشمس’’، كتابك الصادر مؤخرا والذي تناولت فيه جانبا من الحرب وخصصته للمعاقين بسبب النزاعات المسلحة والقصف. ما هو الدافع لتأليفك هذا العمل؟
 عباد الشمس - الجرحى الذين يمشون نحو الشمس»، هذا العنوان مستوحى من مقولة تطلق على شباب الأكراد هي: «أبناء الشمس والنار». الكتاب عبارة عن مجموعة قصص قصيرة أردت من خلالها توثيق شهادات واقعية لشباب في عمر الزهور يكابدون لمواجهة حياة باتت أصعب بالنسبة لهم، فمنهم من بتر القصف أو العمليات العسكرية أجزاء من جسده، فأرداه عاجزا عن الحركة كليا أو جزئيا. ويهدف هذا العمل إلى تسليط الضوء على الصعوبات اليومية التي تواجهها هذه الشريحة الاجتماعية والأثر النفسي للإعاقة، بالإضافة إلى روح التحدي لديها في مواجهة الظروف المزرية التي تمر بها، في ظل هذه الحرب التي جرى تصنيفها من بين أسوء الكوارث الإنسانية التي عرفها العالم منذ عقود كما أعتقد أنني وفقت إلى حد كبير في كسب ثقتهم والوصول إلى قلوبهم كوني معاقة مثلهم، وهذا ما شجعهم أكثر على التعبير عن همومهم وآمالهم في غد أفضل.

-  حدثينا عن قصتي «الأرواح العاشقة’’ التي جمعت فيها بين الثأر والحب و’’شقائق النعمان الضائعة’’ التي تطرقت فيها إلى مسألة غاية من الحساسية ألا وهي الطفولة في زمن الحرب؟
 الأرواح العاشقة تروي قصة زوجة شهيد من ‘’روج آفا’’ (منطقة غرب كردستان أو شمال شرق سوريا التي تسيرها الإدارة الذاتية الكردية)، قضى نحبه في النزاع المسلح ضد إحدى المليشيات المسلحة المتطرفة دينيا، إذ قطعت هذه الأرملة الحامل عهدا يقضي بأن تحمل سلاحه وتتولى أمر الثأر له بعد أن تضع مولدها. وفور التحاقها بالجبهة، ما فتئت تظهر شجاعة وبسالة في القتال، حيث خاضت سلسلة من المعارك وذاع صيتها وانتشر اسمها بين الأهالي الذين صاروا يتحدثون عن بطولاتها وشجاعتها إلى أن سقطت في ميدان الشرف. وتم بعدها تشييعها في موكب جنائزي مهيب إلى مقبرة الشهداء في مشهد متميز يحاكي زفة العروس لبيت عريسها مما يعطي تصورا باستمرار قصة حب بين الزوجين، كما كان من بين الحشود المودعة للشهيدة طفلها الصغير الذي امتزجت دموعه بابتسامة. أما بالنسبة لقصة «شقائق النعمان الضائعة» فتدور أحداث على الحدود الشمالية لسوريا، وبطلتها طفلة صغيرة كانت تخرج كل ربيع للتنزه واللعب مع أقرانها بين المروج المليئة بالأزهار. وكانت بطلة القصة تعشق شقائق النعمان المنتشرة على ضفتي الحدود التي لم تعترف بوجودها يوما في زمن السلم، وحتى في زمن هذه الحرب البغيضة البائسة التي لم تمنع قدوم الربيع ولا نمو شقائق النعمان، لكن قيدت حريتها وسرقت بسمتها، ومن خلال هذه القصة أحاول إبراز براءة الأطفال وخيالهم النقي والواسع، ناهيك عن الانتهاكات الجسيمة التي تتعرض لها الطفولة في ظل هذه الحرب.

-  ألقت الحرب بضلالها على كل مناحي الحياة في سوريا، ما مدى تأثيرها على الأعمال الأدبية والمشهد الثقافي السوري بشكل عام، وما هي أبرز الأحداث التي مازالت راسخة في ذهنك وكان لها انعكاس عميق على كتاباتك؟
 لا يمكننا اليوم أن نتكلم عن المشهد الثقافي دون ربطه مع الحرب التي أثرت على كل جوانب الحياة بما فيها مضامين الأعمال الإبداعية الثقافية، ويتجلى ذلك في بروز عدة أعمال أدبية وفنية تحاكي الظروف الراهنة والواقع المر الذي فرضه النزاع المسلح، والذي تسبب أيضا في تزايد هجرة المثقفين إجباريا إلى خارج الوطن هرباً من آلة القتل والدمار، مما انعكس سلبا على أداء المؤسسات الثقافية، لكن رغم هذا الواقع الطافح بالألم والمعاناة يبقى عدد كبير من المثقفين السورين يكافحون ويناضلون من أجل إيصال صوتهم، فالحرب لم تثن من عزيمتهم بل بالعكس تماما زرعت فيهم روح التحدي وأرغمتهم على بذل جهد أكبر لتقديم ما هو أفضل. أعتقد أن الحدث الأبرز الذي سيضل راسخا في ذهني هو العدوان الذي شهدته مدينتي «سري كانيه» التي تعرضت للغزو مرتين، حيث كان الغزو الأول سنة 2012 من قبل فصائل مسلحة متشددة، وحدثت مواجهات ومعارك بينها وبين قوات الجيش السوري، وبعد قصف المدينة وتدمير جزء منها سقطت في يد الغزاة الذين مارسوا فيها أبشع الانتهاكات في حق السكان، الذين عقدوا العزم على أن يدافعوا عن أنفسهم وكرامتهم، وبعد قتال مرير ووقوع الكثير من الشهداء تم تحريرها، ومنذ ذلك الحين إلى غاية الاجتياح التركي للأراضي السورية، كانت المدينة آمنة، ما شجع العديد من الأهالي الفارين من ويلات الحرب في مناطق مختلفة على اللجوء إليها، إذ استقبلت ساري كانيه لاجئين كثر من أغلب مكونات الشعب السوري وفي شهر تشرين الثاني (أكتوبر) من العام المنصرم حلقت طائرات في سماء المدينة وبدأ القصف من كل الجهات وكانت أول قذيفة تسقط على المدينة بالقرب من منزلنا وبالتحديد على معهد متخصص في إعداد وتأهيل المعلمين، وسبب هذا القصف خوفا وهلعا لدى المدنيين الذين ظلوا يتنقلون من حارة لأخرى على أمل توقفه والعودة من جديد إلى منازلهم، ولكن للأسف اشتدت قوة الضربات واتسع نطاقها، مما أرغمهم على الخروج من المدينة نهائيا والذهاب نحو مناطق أخرى آمنة. لقد أجبرنا على الرحيل من بيتنا الذي فيه كل ذكرياتنا دون أن نأخذ معنا أغراضنا، ونحن اليوم نعيش على أمل العودة مجددا إلى سري كانيه.
الأدب يستطيع تبليغ الرسالة حتى في جغرافية مغلقة

- رغم الصعاب وتردي الوضع الأمني والاقتصادي في سوريا رفضت الهجرة خارج الوطن ومازلت مصرة على ذلك، ما السبب؟
 أرفض الهجرة لأن وطني وأبناء وطني بحاجة إلي خاصة في هذا الوقت العصيب، ربما لو كانت الأوضاع مستقرة لكنت سافرت من أجل مواصلة دراستي الأكاديمية في مجال تخصصي أو كسائحة لا لاجئة، كما أعتقد أن الأدب يستطيع أن ينتشر ويبلغ رسالته حتى لو عاش الكاتب بجغرافية مغلقة مع نقص الإمكانات المادية والصعاب التي تفرضها ظروف الأزمة.

-  يلجأ بعض الأدباء إلى الكتابة حتى يتخلصوا من آلامهم الداخلية وليبوحوا بأحزانهم ومكنوناتهم، ترى لماذا تكتب ناريمان عفدكي؟ وهل تفكرين في الانفتاح على أجناس أدبية أخرى، خاصة الرواية التي أصبحت الأكثر رواجا في السنوات الأخيرة؟
 في الوقت الحالي مازلت أثبت مكانتي في مجال القصة، هذا لا يمنع أن أتحول في المستقبل إلى الرواية لأنها وبرأيي من أقوى الأجناس الأدبية وتعيش اليوم عصرها الذهبي. أنا أكتب لأن الكتابة تعبر عني وعن وطني وهويتي التي أعتز بها كثيرا، وعندما أكتب أحاول أن أبوح بما يجول بخاطري من مشاعر، وتناول بعض الأحداث الراسخة في الذاكرة من خلال تجسيدها في أعمال أدبية.

-  أخيرا، هل لديك مشروع عمل أدبي جديد؟ وهل ثمة مسعى بخصوص الترجمة بهدف إيصال إبداعاتك إلى أكبر عدد من القراء حول العالم؟
 أعمل حاليا على تأليف مجموعة قصصية جديدة سأفصح عنها حينما تكون جاهزة، كما أحاول جاهدة أن أترجم مؤلفاتي إلى اللغة العربية كخطوة أولى، كي أنقل للقراء صورة عن آلام ومآسي شعبي وإصراره على الصمود والمقاومة خلال هذه الحرب، علاوة على إظهار جانب من الثقافة الكردية الضاربة جذورها في عمق تاريخ الوطن السوري والشرق الأوسط إلى جانب الثقافات العربية والآشورية والسريانية والفارسية وغيرها.