طباعة هذه الصفحة

بوعزارة يستذكر خصال أحد أعلام الجزائر

مولود قاسم نايت بلقاسم.. المثقف المجاهد

أسامة إفراح

تحت عنوان: «مولود قاسم نايت بلقاسم: حكايات عن رجل القيم السامية»، قدّم الكاتب محمد بوعزارة مداخلة مصوّرة، تحدّث فيها عن بعضٍ من مناقب الرجل، مستشهدا بقصص ومواقف حدثت معه شخصيا، أو التي حكاها له مولود قاسم. وكانت خلاصة المداخلة أن الحِدّة والصرامة التي كان عُرف بهما مولود قاسم كان وراءهما فيضٌ من الطيبة والنقاء والتسامح، وأن الجزائر كانت خطا أحمر لديه، لا يفاوض فيه ولا يهادن.

«مولود قاسم نايت بلقاسم: حكايات عن رجل القيم السامية».. هو عنوان مداخلة قاربت 25 دقيقة، بثّها الكاتب والمثقف محمد بوعزارة على صفحته الشخصية، نهاية الأسبوع، تطرق فيها إلى مناقب الرجل وخصاله، قال في مقدمتها: «عرفتُ على امتداد العمر كثيرا من الرجال والنساء، الذين تركوا بصماتهم في تاريخ هذا الوطن العظيم، وقد كتبت عن الكثير من هؤلاء في مجموعة من كتبي»، معلنا عن كتابه الجديد «قصتي مع الكتابة والصحافة.. حكاياتي مع السياسة»، الذي سيصدر له هذا العام بتقديم الدكتور بومدين بوزيد.
وذكر في مداخلته بأن مولود قاسم كان مثقفا من طراز رفيع، فهو موسوعة وذاكرة حية، لا يجامل عندما يتعلق الأمر بقضايا الوطن والهوية الوطنية وتاريخ الوطن وثقافته.. وكان يغضب بسرعة ولكنه ينسى غضبه بأسرع من ذلك، يكره أن يسمع همهمة أو مجرد همس وهو يحاضر أو يناقش أو يترأس اجتماعا أو ندوة فكرية كيفما كان شكلها، وقد يضطر إلى فرض الصرامة التي تسكنه، وقد يضطرّ إلى إخراج من يتكلم من القاعة مهما كانت درجته، ويمنع من يحضر متأخرا من الدخول. كما أعطى لملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت الجزائر تنظمها عندما كان وزيرا للتعليم الأصلي والشؤون الدينية قيمة فكرية مضافة. وبشّر بوعزارة بكتاب «ضخم» عن مولود قاسم ألّفه صديقه محمد الصغير بلعلام عنوانه: «مولود قاسم: آراء ومواقف» وينتظر أن يصدر هذا العام.
يقول بوعزارة إنه عرف مولود قاسم سنة 1971، وكان أول مسؤول سامٍ يلتقيه في حياته. كان بوعزارة حينها طالبا في القسم النهائي فلسفة بثانوية ابن خلدون بأعالي العاصمة، وفي شهر رمضان من تلك السنة طُلب منه تقديم درس ديني بالتلفزة الوطنية برعاية وزارة الشؤون الدينية، فأعدّ موضوعا يتعلق بقيمة العمل في الإسلام، واستقبله الوزير مولود قاسم وأعجب بالموضوع والإلقاء. أمره الوزير حينها بتغيير طريقة لباسه قبل التسجيل، ولم يطبق الطالب الشاب تعليمات الوزير فعنّفه هذا الأخير تعنيفا شديدا، ولكنه ما لبث بعد الانتهاء من التسجيل أن حضنه وشكره ودعاه إلى مكتبه وشربا القهوة معا، ويعتذر الوزير للطالب الشاب عن ما بدر منه. ومن الشواهد الأخرى، يذكر بوعزارة شهر ماي 1983، حينما نظم قطاع الإعلام بحزب جبهة التحرير الوطني، الذي كان يشرف عليه عبد الحميد مهري، ملتقى بمدينة الأغواط. كان بوعزارة حينها رئيس تحرير بالإذاعة الوطنية، وأمينا وطنيا في اتحاد الصحافيين الجزائريين مكلفا بالإعلام والثقافة، سافر حينها برا رفقة مولود قاسم الذي كان يرأس المجلس الأعلى لتعميم استعمال اللغة العربية، وبشير خلدون، رئيس قسم الإعلام بالحزب، لإلقاء محاضرات في الملتقى. طلب مولود قاسم من بوعزارة الأبيات التي جاءت عن الأغواط في إلياذة مفدي زكريا، ليستشهد بها في محاضرته، وكان له ذلك وكتبها في ورقة صغيرة.. ولمّا كان يوم غدٍ، بدأ محاضرته وبحث عن الورقة فلم يجدها، فاستنجد ببوعزارة على المباشر وقرأ هذا الأخير تلك الأبيات، وضحك مولود قاسم وكانت طرفة من طرف الملتقى.
وفي خمسينيات القرن الماضي، كلّف مولود قاسم بزيارة اليمن، وهناك التقى القاضي عبد الرحمن الأرياني (الذي سيصير بعد سنوات رئيس المجلس الجمهوري اليمني)، وأوصى الأرياني مولود قاسم أن يبلغ ثوار الجزائر بالتنبّه لأطماع فرنسا الاستعمارية في الصحراء الجزائرية، وأن تكون الصحراء خطا أحمر غير قابل للنقاش.. وحينما بدأت المفاوضات تحقّقت نبوءة الأرياني.
وممّا حكاه مولود قاسم لبوعزارة، أنه قبل مفاوضات إيفيان، طلب منه كريم بلقاسم أن يأتي له بخارطة تثبت جزائرية الصحراء، وأن هذه الأخيرة تمتد إلى ما بعد تمنراست. سافر مولود قاسم إلى مملكة السويد، وقصد المكتبة الملكية، وفي موسوعة ضخمة هناك وجد خارطة للجزائر، قال سي مولود آنذاك لم تكن الكاميرا موجودة، تلفت يمينا وشمالا ولم يجد أحدا ينظر إليه، فاقتطع تلك الخريطة، وقال: «إن تلك السرقة كانت أول وآخر سرقة، لأنها كانت سرقة جميلة من أجل الجزائر»، وشدّت تلك الخريطة عضد الوفد الجزائري المفاوض. وختم بوعزارة مداخلته قائلا: «سنتذكر أمثال هؤلاء الرجال سواءً في نوفمبر أو جويلية أو غيرهما، فلولاهم ما استعدنا استقلالنا وكرامتنا».