طباعة هذه الصفحة

من كتابة التيفيناغ إلى رموز الوشم ورسوم الخزف

سفـر في ذاكرة التاريخ الأمازيغي

حبيبة غريب

 تراث مادي ولا مادي وحاجة ماسّة إلى البحث والتّدوين

يأتي شهر جانفي، كل سنة، في بداياته بالريح، الثلج، البرد والمطر، وأيضا بروح الاحتفال والمرح والمشاركة، التي تحملها احتفاليات المجتمع بكل أطيافه بيناير أو بداية السنة الأمازيغية.  «الشعب ويكاند» رصدت أجواء احتفالات أقيمت هذه السنة بالمركز الوطني للفنون بقصر الرياس، والمتحف العمومي الوطني للمنمنمات والزخرفة والخط، بنكهة التعرف أكثر بالتراث والهوية الأمازيغية بطريقة علمية وفكرية، بعيدا عن الفلكلور.

اعتدنا منذ ترسيم يوم 12 جانفي، بداية السنة الأمازيغية عيدا وطنيا أن تقام احتفالات يغلب عليها طابع الفلكلور، ويركّز منظّموها أكثر على أنشطة الأطباق الشعبية والألبسة التقليدية وبعض الأغاني والرقصات الفلكلورية، ومحاضرات تحكي رمزية احتفال الجزائريين بيناير وتقاليد يطغى عليها الطابع الاستهلاكي.
عاد يناير هذه السنة ليُحتفى به بطريقة مغايرة في المركز الوطني للفنون بقصر الرياس، والمتحف العمومي الوطني للزخرفة والمنمنمات والخط، حيت اعتمد الأول أربعة أيام من المحاضرات العلمية سلّطت الضوء على جذور العمارة الامازيغية ورموز الزراعة والحياة الاجتماعية منذ القدم، وورشة بيداغوجية حول كتابة التيفيناغ، عروض حول التراث الأمازيغي الأصيل، وتظاهرة أهازيج «الداينان» التي ترمز إلى تقاليد عائلات جبل شنوة في إحياء يناير.
وخصّص الثاني نفس المدة لبرنامجه إلى تقريب المتحف أكثر من الزوار، من خلال محاضرات حول تاريخ الكسكسي، هذا الطبق الشّعبي المتجذّر في عمق مجتمعنا، وعروض وورشات للفن والحرف التقليدية التي لها صلة بالمنمنمات والخزف والخط، شارك فيها ذوي الاحتياجات الخاصة فأضفى وجودهم على المكان لمسة فرح وجمال.


3000 سنة قبل الميلاد..
قديمة وكثيرة هي الأحرف والرموز في لغة التيفيناغ أو اللغة الأمازيغية العريقة، التي كانت محور ورشات بيداغوجية موجّهة خصيصا للناشئة نشّطها قهلوز رشيد رئيس مصلحة المطبوعات والأرشيف بالمتحف الوطني باردو بقصر رياس البحر. وقال «هذه الكتابة تعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد، وتعتبر أقدم كتابة وفي شمال أفريقيا».
والهدف من هذه الورشات «تعريف الناس وخاصة الشباب والناشئة على اللغة الأمازيغية التي هي اللغة الرسمية في البلاد، والتشجيع على توسيع تعلمها من قبل كل شرائح المجتمع»، أضاف قهلوز، مشيرا إلى أنّ «الحروف والرموز المستعملة في هذه الورشة متفق عليها من قبل المحافظة السامية الأمازيغية».
وأشار المتحدث إلى أنّ «هناك إقبال كبير على هذا النوع من الورشات بسبب الفضول ورغبة التعلم واكتشاف شيء جديد، خاصة عند الأطفال، هذا بالرغم من أنّنا قد لاحظنا أن 99 % من الذين يتقرّبون منّا لا يعرفون معنى كلمة تيفيناغ ويطلقون عليها اسم «قبائلية».
وهنا يأتي حسبه «دور المؤطّرين لهذه الورشات لتصحيح هذا المعتقد السائد، والتعريف بصورة صحيحة بهذه الكتابة وبجذور تاريخ الإنسان الجزائري»، لأنّ «التيفيناغ كتابة الإنسان الأمازيغي القديم الذي سكن منطقة شمال أفريقيا التي تمتد من مصر إلى جزر الكناري».
وأشار قهلوز إلى أنّ هذه المسؤولية لا تقتصر على المؤطّرين فقط بل هناك اليوم اجتهادات كبيرة وعلى كل المستويات من أجل استعمال التيفيناغ من قبل العديد من الوزارات والمؤسسات الرسمية التي تستعمل هذه الكتابة في معاملاتها مع المواطن، مثلا في الفواتير وكذا على اللافتات التعريفية مثل لافتة بلدية الجزائر الوسطى وولاية الجزائر، ومعهد الفنون الجميلة وغيرها من المقرات».
وللحفاظ على التيفيناغ كموروث وطني ورمز الهوية الامازيغية للشعب الجزائري ينبغي - حسب رشيد قهلوز - «المواصلة في عمليات التدوين والترجمة التي تسهر عليها المحافظة السامية، والتي قامت لحد ساعة بعمل قيّم في هذا الشأن، لقد تمّ كتابة القرآن الكريم بالتيفيناغ، وإلى جانب ترجمة أعمال كتاب أدباء إلى الأمازيغية وهذه خطوة جيدة جدا، ولا بد اليوم من توسيع هذا المشروع ليشمل إشراك الباحثين الأكاديميين والمجتمع المدني بغية تكثيف البحث والدراسات حولها للحفاظ عليها من الزوال وتقادم الزمن».
للإشارة، تقوم الورشة على كتابة الأسماء وبعض الجمل باستعمال حروف التيفيناغ التي يقدّمها المشرف مع الحروف الموازية لها باللغتين العربية واللاتينية، كما يتم أيضا رسمها على المحار باستعمال مادة المغرة، وهي لون طبيعي كان يستعمله الإنسان القديم في الرسومات الصخرية. وهنا يدرك الأطفال المشاركون في الورشة أنّ الكتابة في السابق لم تكن بالأمر الهيّن، إذ كانت تنقش الحروف على الصخر.
ويمكن وفقا لرشيد قهلوز «توسيع هذه الورشات بعيدا عن المناسباتية من خلال تنظيم خرجات يقوم بها المؤطرون التابعون للمتاحف إلى المؤسّسات التربوية، ونكون بهذا قد أسّسها لمشروع الاستثمار الثقافي في الأطفال».

«كلمات الرّموز»..
حضر الفنان التشكيلي نور الدين حموش احتفالية يناير التي نظّمها المركز الوطني للفنون الفنان التشكيلي نور الدين حموش بكتابة «paroles des symboles» (كلمات الرموز)، الجامع بين الرسوم والأشعار، في طبعته الثانية لهذه السنة بعد الإصدار الأول 2017.
الكتاب يضم أكثر من 50 رمزا مرسوما كل واحد باللون الأسود، ويقابل كل رمز قصيدة أو قول من كلمات الشاعرة والحكواتية حنشي حنيفة، وتتعلق هذه الرموز ببعض الأوشام أو الرسومات التي تستعمل في صناعة القرار أو حياكة الزراعية، استنادا لبحوث أجراها في منطقتي الواعدية ومعتقة بقرى ومداشر تيزي وزو.
وإضافة إلى الكتاب، عرض الفنان ثمرة مشروع يمزج بين فنه في الرسم وتقنية السيريغرافي التي يتقنها زوج من الفنانين من ولاية تيزي وزو، وهما من خريجي المعهد الوطني للفنون الجميلة.
ويقوم هذا المشروع في مرحلة أولى في صنع حقائب أو أكياس من القماش تحمل رسوما أمازيغية ورموزا للفنان، وهي موجهة أكثر للسياحة للتعريف بالموروث والفن الوطنيين.

احتفالية بنكهات تراث القصبة

 لم تمض أسابيع قليلة على تعيين أركان اكنون نجاة هجيرة مديرة للمتحف العمومي الوطني للزخرفة وللمنمنمات والخط، التقت بها «الشعب»، وهي تراقب وتسيّر كالمايسترو مجموعة إطارات وعمال المتحف، الذين قاموا بتنظيم تظاهرة يناير وأعطوها حسب تصريحاتها هذه السنة «صفة خاصة بطابع وهوية المتحف بعيدا عن الفلكلور».
قالت مديرة المتحف: «لقد حملت معظم فقرات البرنامج المسطر هذه السنة، تيمية الزخرفة والفن التشكيلي حيت أردنا أن يكون الاحتفال بيناير 2971 مناسبة للتعريف أكثر بتراثنا المادي واللامادي، وبالفنون والمهن الجميلة والديكورات المستعملة في العمارة القديمة بالقصبة».
«لقد اتّفقنا مع الفنانين التشكيليين والحرفين والعارضين على أن تكون منتجاتهم منسجمة قدر المستطاع مع الطابع المعماري والبعد التراثي لقصر مصطفى باشا. مثلا أن تكون منتجاته تحمل رسومات متقاربة مع الموزاييك الموجود بالقصر»، حسب ما أضافت اكنون نجاة.
«واخترنا ملصقة إشهارية للمناسبة تتطابق والطابع التراثي والتاريخي لهذا المتحف الجميل، الذي سنعمل على أن ينفتح أكثر على الزوار ويكون مقرا لأنشطة تراثية علمية وثقافية مستمرة، هذا بالتنسيق مع كل المتاحف».
وشكّلت التفاتة المتحف لذوي الاحتياجات الخاصة عامة والأطفال الحاملين لمتلازمة 21 عامة، رسالة منّا مفادها كما أشارت أنّ «لهذه الفئة من المجتمع حقها الكامل في التراث، وفي المشاركة في الاحتفاليات».

«ورشات تعود بالزائر إلى مواهب وتراث زمان»

 نشّط فنّانون تشكيليّون وحرفيون ورشات جميلة بقاعات وسقيفة قصر مصطفى باشا، من بينها تلاميذ أطفال جمعية الخطوات الأولى، والذين يعانون من متلازمة 21.
أضاف هؤلاء الأطفال لمسة بهية على الاحتفالية، وشاركوا بكل فرح وفضول في الورشات التي نشطها فنانون وحرفيون، وهي ورشة صناعة الفخار، ورشة الرسم على الخزف وورشة الرسم بالرمل على الخشب المسترجع.
وزرع الفنان التشكيلي بن عمارة محمد صاحب مشروع القلب الكبير البسمة على وجوه المتربّصين الصغار، الذين تفاعلوا كثيرا مع ورشة الرسم بالركاب على الخشب، وعبّر كل منهم عن سعادته حين يزيح بقايا الرمل العالقة والرسومات العفوية فوق الخشب ليعرضها بكل افتخار للحضور.
الفنان بن عمارة محمد اختصاصي في فن الاسترجاع خاصة في مجال الخشب، إضافة إلى أنه حامل مشروع القلب الكبير التطوعي، والرامي بالدرجة الأولى إلى حماية البيئة والتراث وصحة المواطن.
وبأنامل رقيقة وابتسامة حنينة استقطبت الفنانتان التشكيليتان لامية تايم ودويدي اهتمام الأطفال بورشة الرسم على الخزف، في حين نشطت الفنانة ندى خليفة بحرص شديد ورشتها حول صناعة الفخار اليدوية، وهي فنانة من ذوي الاحتياجات الخاصة « متلازمة 21»، تعلمت الحرفة بالشام بسوريا وشاركت في هذا الاحتفال لتقول للجميع أن المعاق له حس فني ويحمل بداخله مواهب وطاقات يحتاج لتفجيرها سوى القليل من التشجيع والاحترام والاعتراف بحقه في الثقافة.

أطفال متلازمة 21 والفرح

مروى، عبد الودود، ندى..وغيرهم أطفال قاسمهم المشترك الابتسامة الدائمة التي تميز حاملي متلازمة 21، واهتمام جمعية «الخطوات الأولى» بتعليمهم وإدماجهم في المجتمع رغم كل العراقيل التي تواجهها من نقص في الدعم ومساعدة مصالح الخدمات الاجتماعية.
أضفى وجود البراعم باحتفائية قصر مصطفى باشا بالقصبة لمسة خاصة ومميزة في احتفالية يناير، وانسجموا انسجاما كليا مع الورشات، كما لبسوا الألبسة التقليدية بكل تباه واعتزاز. رسموا على الرمل وعلى الخزف، ورقصوا وضحكوا فعادت بضحكاتهم الحياة لجدران المتحف العمومي الوطني للمنمنمات والزخرفة والخط.